حركة التحرر الوطني الفلسطينية في بيئة استراتيجية متغيرة … أ. صابر رمضان (نسخة نصيّة HTML)
للاطلاع على الدراسة كاملةً اضغط هنا (25 صفحة، 739 KB)
حركة التحرر الوطني الفلسطينية في بيئة استراتيجية متغيرة … أ. صابر رمضان[1]
ملخص:
تأتي هذه الدراسة على خلفية الانتفاضة الشعبية، والتغيرات السياسية والاجتماعية في البيئة الدولية والإقليمية، والمحلية التي يعيشها الفلسطينيون، والقضية الفلسطينية التي عاصرت العديد من التحولات الجذرية في موازين القوى بمستوياتها المختلفة، وتأثير ذلك على الخيارات، والأدوات وتنوعها، والديناميات في توسعها أو تقلصها. حيث أضحت التوجهات والدراسات الأكاديمية والسياسية تتجه —في ظلّ الهبة الشعبية الحالية، وجهود القيادة الفلسطينية في التوجه للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، وما تعانيه المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية— إلى طرح جديد؛ مفاده أن المقاومة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني بمكوناتها المختلفة تمر بالمسارات والاتجاه نفسه الذي مرت به حركة التحرر الوطني في جنوب إفريقيا والجزائر. لكن هذه الدراسات لم تأخذ بالاعتبار المتغيرات، وتجاوزت الفهم العميق للظروف الخاصة بكل حالة، كأساس للاستنتاج، ومن هنا تنبع أهمية الدراسة، والإشكالية حول كيف يمكن تطوير حركة التحرر الوطني والمقاومة الفلسطينية في ظلّ المتغيرات الاستراتيجية في البيئة الدولية، والإقليمية، والمحلية. وفي الإطار ذاته يُطرح السؤال المركزي الآتي: لماذا لم ينجح الفلسطينيون في جهودهم كحركة تحرر ومقاومة بالتعاطي مع المتغيرات الاستراتيجية والسياسية، في البيئات الدولية والإقليمية والمحلية، بالنمط الذي ساد في تجارب كالجزائر وجنوب إفريقيا؟
الأدبيات والمراجعة النقدية:
تناولت الأدبيات وتعاطت مع الموضوع البحثي من زاوية ومسارات مختلفة وسياقات متعددة، دونما تركيز على المتغيرات الاستراتيجية في سياق تحليلي مقارن. فكانت نقطة الارتكاز في البحوث تنصب على الوضع الداخلي لحركات التحرر والمقاومة، كمحور للدراسة؛ حيث ربطت بينها، وبين الحالة التي لم تحقق فيها حركات التحرر أهدافها، دون دراسة أثر المتغيرات الخارجية على الوضع الداخلي للحركات وإضعافها، ومنعها من تحقيق أهدافها السياسية والوطنية. وهذا ما كتب حوله أكرم حجازي سنة 2010 بعنوان “الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل: بحث سوسيولوجي في تاريخية المنظمات الفدائية والجماعات الإسلامية”، وضمّن دراسته العلاقة بين السلطة والثورة، وتحدث عن هذه الديناميات الداخلية بعيداً عن المؤثرات الخارجية في البيئة المحيطة الدولية، والإقليمية، والمحلية.
وفي الاتجاه نفسه، وبتفسير مختلف، تناولت أبحاث أخرى العلاقة بين حركات التحرر والقوة المحتلة من منطلق توازن القوة بينهما، وتأثيره على إنجاز أو عدم تحقيق الحركة لأهدافها. وهذا ما تحدثت عنه الكاتبة سنية الحسيني سنة 2014، بعنوان “واقع المفاوضات وأزمة الاتفاق”، وفي دراسة للأكاديمي مارتن بيك سنة 2004، حيث تناول مناهج متعددة للمقاومة وحركات التحرر الوطني، من مقاومة مسلحة وديبلوماسية واقتصادية، وتأثير السياق الداخلي على اعتماد المناهج الأكثر تلبية للطموحات الفلسطينية، وقد تحدث عنها في إطار مقارن، لكن دونما مقارنة في أبعاد تأثير المتغيرات وبنية النظام الدولي والقوى الدولية، ومدى تأثير أجندتها على قدرة حركات التحرر والمقاومة من تحقيق أهدافها، سواء في تثبيطها أم مساعدتها.
وعمدت بعض الدراسات إلى اعتماد المدخل الأمني لتحقيق دولة فلسطينية قابلة للحياة، وإنهاء حركة التحرر والمقاومة، أمثال دراسة روبرت هانتر Robert Hunter وسيث جونز Seth Jones “بناء دولة فلسطينية ناجحة: الأمن” Building a Successful Palestinian State: Security سنة 2006، لذلك تأتي هذه الدراسة لتكون تفصيلية حول تأثير المتغيرات الخارجية على المقاومة وحركة التحرر الوطني الفلسطينية.
تفترض الدراسة البحثية، أن قدرة حركة التحرر الوطني والمقاومة بجميع أشكالها، على الديمومة وتحقيق أهدافها، مرتبط بمدى قدرتها على الملاءمة الاجتماعية والتكتيكية والاستراتيجية المنظمة، لأدواتها وأنماطها المعتمدة في النزاع مع القوة المحتلة، في إطار المتغيرات الدولية، والإقليمية، والمحلية المحيطة بها؛ وإيجاد رؤية ونظرة موحدة بجميع مركباتها، ومع القيادة السياسية الفلسطينية وم.ت.ف تجاه القوة المحتلة. وبالتالي، التحول بالمقاومة إلى سياق منظم وهادف وموحد، وإنهاء حالة الصراع بين المقاومة والتسوية. كما تؤكد الدراسة أن حركات التحرر والمقاومة في تعرج مساراتها، تتغير وتتبلور في أشكال مختلفة، لكن أيديولوجيتها الدينية والثورية تتحول على نحو بطيء في المسارات البراجماتية السياسية والديبلوماسية، وتفترض أيضاً أنه لنجاح حركة التحرر والمقاومة الفلسطينية، لا بدّ من وجود مجتمع دولي، وقوى دولية ذات أجندة قادرة على الاستجابة لطموحات تلك الحركة، وجهد دولي ضاغط سياسياً واقتصادياً على الطرف الأقوى في الصراع، على نمط ما حدث في المسار التحرري لجنوب إفريقيا.
منهجية البحث: يستند البحث على منهج التحليل السياسي المقارن لمختلف السياقات السياسية والتاريخية، بهدف تحليل تلك السياقات، ورصد الاختلاف في تأثير المتغيرات الاستراتيجية في نجاح أو فشل حركات التحرر الوطني والمقاومة في ظروف وبيئات دولية، وإقليمية، ومحلية متباينة. كما سيعتمد الباحث على دراسات عن الاستعمار وما بعد الاستعمار، وتأثيرها وطريقة تناولها لمسألة المقاومة وحركات التحرر الوطنية المختلفة. وسيعتمد البحث على تغطية أهم جوانب حركة التحرر الوطني، وهي المقاومة الفلسطينية بجميع أنماطها.
كلمات مفتاحيه: المقاومة الفلسطينية، السلطة، الصراع مع الاحتلال، المقاومة الشعبية السلمية، المفاوضات، الحكومات الفلسطينية، اتفاقيات المصالحة، الربيع العربي، الهبة الشعبية، دراسات الاستعمار، ما بعد الاستعمار.
الإطار النظري والمفاهيمي:
يتضمن الإطار النظري لمناهضة الكولونيالية، وللمقاومة والتوجهات المسلحة، العديد من النظريات الاجتماعية أو السيسيو-سياسية التي انطوت على أساليب مقاومة مختلفة في أوضاع استعمارية متباينة. حيث مارست المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل المقاومة بأشكالها المتعددة. فهي في التفسير الاجتماعي والنفسي، ردة فعل طبيعية، وممارسة معترف بها، من أدنى درجاتها وحتى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري في بناء دفاعاته الذاتية إزاء نشاطات لا يمكن التعايش معها. وهي بهذه الصورة عبارة عن قانون طبيعي، وإن تصارع البشر على مفهومه وحدوده. فالمقاومة ليست أكثر من استجابة طبيعية، لمؤثر خارجي. وتتباين وتيرتها وحدتها في الممارسة والواقع، حسب سياسات المؤثر الخارجي، وطبيعة بناه وهياكله المنخرطة في الصراع. لذلك، فنظريات ما بعد الاستعمار Post-Colonial Theory تؤكد وفق ستيفن سليمون Stephen Slemon أن “القوة الاستعمارية تضع وتؤثر على بنى ومجالات الآخر، وهذا التأثير يستمر عبر المسرح الحديث للعلاقات الدولية للكولونيالية الجديدة” . بمعنى، أن القوة الاستعمارية لا تمنح المجتمعات المستعمرة الحرية الكاملة في تكوين وبناء علاقاتها وهياكلها وسياساتها المستقلة، ولكنها تعمل على ديمومة هيمنتها في كافة المجالات وبطرق مختلفة، أبرزها عملية “التكيّف” . حيث أن القوة الكولونيالية المحتلة، تستجيب لجزء من مطالب حركات التحرر دون تغيير حقيقي في مواقفها، تجاه القضايا مثار النزاع، وبالتالي عدم حدوث تحويل أو تحول في مواقفها كقوة محتلة. وهذا يفسر جزئياً ما حدث للفلسطينيين في مسيرة التسوية والمفاوضات منذ اتفاق أوسلو Oslo Accords.
كما ينطوي الصراع مع الكولونيالية على مواجهة خيارات جذرية قد يتعرض لها من يمارس المقاومة، في محاولته تثبيت أو صوغ أسس جديدة للنزاع. فهي فكرة مستلهمة من الواقع الإنساني وفق نظرية “الجنون في مواجهة الهزيمة” ، بفحوى أنك إذا كنت ستتعرض لهزيمة واضحة من قبل الآخرين، وضرباً لقواعد وأفكار تعتقدها وتتبناها، فجدير بك العودة إلى المربع الأول، وبالتالي العودة لنقطة الصفر في الصراع. وليس أعقد من مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لبيان خطورة هذه النظريات. فحسابات الربح والخسارة والتكلفة، تصبح في هكذا ظروف، جامدة، ويحلُّ مكانها إجبار الآخر على القبول بسياسات من شأنها، إعادة صياغة الصراع على قواعد جديدة كمكسب استراتيجي. كما أنه في الصراع مع القوة المحتلة تبرز توجهات عامة لمقاومته بكل ما يمكن من وسائل، مقارنة مع الفهم الذاتي للقوة المحتلة. هذه أساسية مهمة على جانبي المواجهة.
فالطابع الكولونيالي الاستعماري للصهيونية و”إسرائيل”، وسياستها الاحلالية، وتواجدها العسكري والاستيطاني الممنهج والمنظم، تكسب الآخر طبيعة عنيفة، وتمنحه الدافعية لممارسة المقاومة بكافة أشكالها، من عنيفة ومسلحة، إلى لا عنفية (المقاومة الشعبية). وتصبح المقاومة بأشكالها ومستويات وتيرتها، منطلق لا يمكن الاستغناء عنه، كما لا يمكن تجريمها ذاتياً، لأن ذلك ينتج رؤية مشوهة ومبتورة للمقاومة، على الرغم من الرغبة والموافقة المبدئية على أن “اللجوء لمستويات ما من المقاومة بما يخدم المصالح الاستراتيجية المحددة مسبقاً بتوافق كلي” أمر طبيعي، وإن اختلفت مستويات الصراع أو النزاع، مع طبيعة العدو.
فحضور المقاومة كفكر بالأساس، مرتبط بحالة الشعور أو الإدراك بالواقع والفرص المتاحة كما وصفتها سنة 2003 باتريشيا إويك Patricia Ewick وسوزان سيلبي Suzan Silbey في مقولتهما “المقاومة أيضاً تتطلب الوعي والإدراك بالفرصة Resistance also requires consciousness of opportunity” . فمع هذا الإدراك، تتولد الفرص باتجاه ترجمة هذا الشعور، من خلال إعادة بناء الوضع Situations، وتكوين الادعاءات والأفكار حول العدالة والحقوق. فالمقاومة المسلحة والشعبية في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي أهدافها في الحفاظ على الديمومة، عبارة عن حركة اجتماعية مناهضة للمرحلة الكولونيالية. فهي كما يؤكد غاي سيدمان Gay Seidman مؤثرة في تحفيز عمليات التعبئة، وتقوية الديناميات الداخلية للحركات الاجتماعية . فممارسات القوة الاستعمارية بأشكالها المتنوعة، واستمرار وجودها ليس كقوة عسكرية ومعسكرات، ولكن ككتل بشرية مسلحة وعنفية Settler colony، تكمن خطورتها في كونها “وكيل للقوة الاحتلالية ضدّ المجتمع الأصلي، وتعمل على مواءمة رموز ومفاهيم السكان الأصليين كرموز تمثيلية لهم” ، وتكّون علاقات معقدة بين ثلاثة أضلاع في سياق التحرر؛ هي القوة الاحتلالية، والمواطنين الأصليين، وسكان المستعمرات. مما يجعل من المقاومة وأشكالها، بغض النظر عن أوجه القوة والضعف فيها، القوة المحركة لإعادة التأسيس والبناء لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها في مواجهة المنهج الكولونيالي الذي أكده أحمد حمو مزعل بقوله عن الاستعمار: “استطاعت هذه القوى أن تعزز في نفوس السكان المحليين فكرة وجود هوة عظيمة بين الطرفين، من أجل خلق عقدة النقص والشعور بالضعف… ، لكي تكون سلاحاً نفسياً لا يقل تأثيراً عن السلاح الفعلي لكسر روح المقاومة والتحدي عند السكان المحليين وإجبارهم على الخضوع والاستسلام” ، ويستمر الباحث في التأكيد على أن الاستعمار وممارساته تعطي القوة الدافعة نحو مزيداً من المقاومة الشعبية والمسلحة في مواجهة المستعمر.
لذلك يشير الباحث هوراس كومبل Horace Compbell في حديثه عن إفريقيا بشكل عام، والمقاومة في الحالة التانزانية بشكل خاص، إلى أن الأحداث المتتالية المرتبطة بالمقاومة، يمكن أن تميز بين نوعين من المقاومة والثورة إحداها ضدّ الكولونيالية، والأخرى ضدّ أفعال ونشاطات المستوطنين anti-settler acts في السياق العام. فدراسات ما بعد الاستعمار، تتضمن مجموعة من الممارسات والاستطرادات المنطقية من بينها مقاومة الكولونيالية، والأيديولوجيات الاستعمارية بأشكالها وأنماطها المعاصرة، والتي تحاول فرض شرعيتها وقوانينها. ومع استمرارية الضغط الناجم عن هذه الجدلية تتولد توجهات دينية، تلعب دوراً مهماً في تكوين الاستجابات بين القوة الاحتلالية، والمجتمع الأصلي، الذي يشهد في الوقت نفسه تنامي المقاومة والمناهضة ذات الطبيعة العلمانية ضدّ القوة الكولونيالية، وتستعير مفاهيم من تلك القوة تتعارض مع النهج الديني لجزء من مكونات حركة التحرر الوطني كمفهوم الدولة الوطنية وأبعاده. وهذا من شأنه أن يوجد تناقضات حادة بين طرفي حركة التحرر الوطنية الدينية والعلمانية. ويعيد طرح مسألة الحق في إعادة “التفكير في أشكال العلاقات الممكنة مع النظام الاستعماري” ، والذي لا يمكن أن يكون ممكناً إلا في سياق أنه من غير المجدي أن تبنى المقاومة وأشكالها فقط على رؤية أيديولوجية لا تأخذ المتغيرات الواقعية بالحسبان، أو رؤية واقعية لا تنظر للمستقبل وحقوق الأجيال، وتنفي كافة أشكال المقاومة.
فلا بدّ لحركات التحرر الوطنية والمقاومة من نظرة واقعية ومتوازنة للأمور. فالظرف الدولي، والمجتمع الكولونيالي بطبيعته وممارساته، يدفع بالمستعمر (بفتح الميم)، نحو نمط معين من المقاومة. فالجدار العنصري نقل المقاومة لمرحلة تكوين وسائل جديدة مع تراجع العمليات الاستشهادية. وهذا له صداه في التجارب التحررية وبالذات العربية، التي اعتمدت أشكال متنوعة من المقاومة دون تجريم أو نفي الحق في اللجوء لبقية الأشكال، سواء المقاومة المسلحة، أم المقاومة الشعبية السلمية، أم المقاومة الشعبية المسلحة. فالتجربة الجزائرية، أعلنت أنها تحترم “مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، أما وسائلها فكانت الكفاح والجهاد بكل الوسائل حتى تحقيق الأهداف الوطنية” ، كما يؤكد جلال يحيى بقوله “كان على جبهة التحرير الجزائرية أن تعمل في الداخل والخارج، أن تحارب وتكافح وتنظم صفوف الشعب في نفس الوقت الذي تقوم فيه بالاتصالات الدبلوماسية لتدويل القضية الجزائرية”. لقد طرحت الحالة الجزائرية إطاراً واسعاً لم يطرحه الفلسطينيون أنفسهم في مسألة التعامل مع الفرنسيين ومستوطنيهم، فدعت إلى اعتبارهم كأفراد في المجتمع الجزائري أو مواطني دولة ثانية تسري عليهم القوانين الوطنية، ولم تعدُّ تلك الأراضي الجزائرية التي يقيم عليها الفرنسيون أراضٍ فرنسية أو تمّ تبادلها مع فرنسا، لا بالقيمة ولا بالمثل، وقبلت بتأسيس سلطة فعلية على جزء من الأرض المحتلة، كما عايشت الجزائر الحكم العسكري الفرنسي المباشر، والهجرة والاستيطان الفرنسي، وإنشاء معسكرات زراعية فرنسية، مما جعلها أكثر تجارب التحرر المشابهة للوضع الفلسطيني.
لقد عاصرت الحالة الفلسطينية ومارست بمسيرتها مثل تلك الخيارات في المقاومة، لكن نظرياً فإن الظرف التاريخي والسياسي، والمتغيرات والمستجدات يجب أن تبقى قيد الاعتبار، للخروج من مأزق التناقض “بين النضال والسياسة” . فالنضال عبارة عن أدوات ووسائل، والسياسة ثوابت ضابطة عندما تنال على إجماع وطني شامل واستراتيجي، وليس جزئي. وهذا يتطلب العمل على ترتيب الأولويات السياسية والنضالية، وتوظيف مختلف أشكال المقاومة وفقاً للمرحلة التي يمر بها الصراع، على اعتبار أن المقاومة كوسيلة بكافة أشكالها عبارة عن أداة لإعادة ترتيب أولويات الصراع العربي – الإسرائيلي.
إن تجارب التحرر ليست ثابتة وإن تشابهت لحدّ ما، وبالتالي فلكل تجربة سياقها الخاص، ولكل قوة استعمارية طابعها المميز، فمثلاً هناك “6 حالات استخدمت المقاومة المسلحة” ، وهي تجارب “جنوب إفريقيا، كولومبيا، إيرلندا الشمالية، إندونيسيا، نيبال، وسيريلنكا”، تحولت بموجب السياق التحرري إلى أحزاب سياسية بعد تحقيق أهدافها الاستراتيجية في التحرر والاستقلال، كذلك التجربة الجزائرية الشبيهة لحد كبير بالواقع الفلسطيني.
وإذا تناولنا تجربة جنوب إفريقية في سياق مقارن، فهي شبيهة في بعض مراحلها بالثورة والمقاومة الفلسطينية في تداخل العمل السياسي، وفي تبنيها للخيار المسلح كأداة لعملية التحرر سنة 1960، حيث تمّ توحيد الجهد الثوري عبر “قيام المجلس الوطني الإفريقي والكونغرس القومي الإفريقي باعتماد سياسة المقاومة المسلحة” ، بالرغم من لجوئها للسياسة والاعتدال في المقاومة. وما نلحظه في هذه الحالة أن هناك ديناميات ذاتية وأخرى موضوعية لعبت دوراً في إنجاز التحرر سنة 1994، وتمثلت هذه المتغيرات في تغير أجندة الفاعلين والقوى الدولية والمجتمع الدولي آنذاك، حيث تمّ فرض مستويات من العقوبات على نظام الأبارتهايد، وتغير جذري في الموقف السياسي لقيادة حكومة الأبارتهايد (حكومة دي كليرك De Klerk)، ووجود سياسات إقليمية داعمة لحركة تحرر جنوب إفريقيا، ومواقف معتدلة مرنة لحركة التحرر الوطنية ممثلة بالمؤتمر الوطني الإفريقي.
وفي السياق الفلسطيني، فقد تطورت المواقف الفلسطينية لمختلف الفاعلين على الساحة الداخلية، بما فيها المقاومة تجاه التسوية والتعاطي مع القوة الإسرائيلية المحتلة، إضافة لوجود بيئة داعمة إقليمية عبر المسار التاريخي، ولكن بقية المتغيرات لم تعمل بشكل جيد لصالح الفلسطينيين. فالقضية الفلسطينية وتسويتها لم تعد أولوية على أجندة القوى الدولية والمجتمع الدولي، والمواقف الإسرائيلية لم تتطور استراتيجياً بالقدر الكافي لإنجاز تسوية واختراق في عملية السلام. كما أن المتغيرات التي توافرت في حالة جنوب إفريقيا، هيئت المناخ السياسي الملائم، والذي دفع المقاومة والمستويات السياسية فيها إلى تبني مواقف معتدلة، حيث تركت النضال ودخلت في مفاوضات جدية مع الحكومة توجت بإنجاز سياسي. لكن الفلسطينيين على النقيض من الحالة الجنوب إفريقية، لم ينجزوا تسوية داخلية وتوافق بيني، وبقيت اتفاقيات المصالحة المؤثرة على السلوك السياسي والتفاوضي تراوح مكانها. في حين نجحت التجربة الإفريقية وجهود المؤتمر الوطني الإفريقي، في إنجاز “ميثاق الحرية” كرؤية واضحة للتسوية ليس بين الفرقاء فقط ولكن مع حكومة الأبارتهايد أيضاً، على الرغم من أن الحالة الجنوب إفريقية شهدت حالة من التنازع على من يمثل التنظيم الوطني للقاعدة الشعبية والمجتمعية. فالفلسطينيون مطالبون بتطوير رؤية واضحة للتوافق الداخلي وللتسوية مع القوة المحتلة. إن تباين الاستراتيجيات في الحالتين نتاج ظروف ذاتية، وأخرى موضوعية.
الحالات الثلاث تؤكد لنا أن العمل السياسي، ترافق مع الاستمرار في العمل المسلح، بما يحقق الأهداف الوطنية… فالمقاومة كمفهوم مجرد تاريخي ومتطور ومستمر وليس قانون ثابت. يصف الباحثين كلاس فان فالرافن Klaas van Walraven جون أبينك Jon Abbink تلك الميزة “استمرارية الدافعية المثيرة للمقاومة continuity of résistance emotion” . فالنقطة الحيوية لعمليات المقاومة بكل استراتيجياتها، وفي دعمها للهبة الشعبية منذ تشرين الأول/ أكتوبر2015 تهدف للحفاظ على ديمومتها، وفي المقابل فالسياسيين الفلسطينيين يعدّون التعامل مع القوة المحتلة وفق سياساتها، خيار عقلاني وبديل استراتيجي في إبراز المصالح الذاتية في مواجهة نظريات وسياسات الهيمنة الاستعمارية. كما تؤثر المتغيرات الاستراتيجية للنظام الدولي وبنيته وتركيبة قواه، كما البيئة الإقليمية على مسارات حركات التحرر الوطني.
منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية: وصف الواقع الحالي:
اتسمت المقاومة الفلسطينية في علاقاتها البينية، بمستوى منخفض من المأسسة والتنظيم، بالأهداف والتوجهات. وغالباً ما يكون هناك تنسيق تكتيكي ميداني وليس استراتيجي. وهنا لا يتحدث الباحث عن مفهوم المعارضة السياسية للنظام الحاكم كأي دولة مكتملة السيادة، وإنما عن توجهات مسلحة أو إن جاز التعبير اعتماد حدود مفهوم “الحقل المسلح” في الساحة الفلسطينية وهيمنة حماس عليه، كوصف لهذه المقاومة. إن التيارات المقاومة والمسلحة ليست ذات مبنى هرمي أو تنظيمي موحد، فلا يوجد هناك مثلاً هيئة عليا أو مجلس أعلى للمقاومة المسلحة، ذو استراتيجية في المقاومة وفي السياسة كذلك. قد نجد أنفسنا في حديثنا عن المقاومة أمام “خليط” سياسي ومسلح، تسيطر عليه التوجهات الدينية والقومية واليسارية، حيث السياسي تسيطر عليه فتح والمسلح تهيمن عليه حماس. والنتيجة انعدام وحدة المسار التحرري والمقاوم نفسه. وهذا يضعفه أمام الضغوطات السياسية على مختلف المستويات.
نظراً لهذا الواقع الفلسطيني المعقد، فإنه لا يمكن تجاوز مسألة أن المقاومة تعيش حالة من وضع عاصرته المقاومة الجزائرية، ألا وهي حالة التشرذم المسلح بوصفها “جزر مقاومة” Resistance Islands. وفي الاتجاه نفسه، فالمطالب السياسية للقيادة الفلسطينية أيضاً محل خلاف، وفي حالة هبوط مستمر منذ أوسلو على الأقل. فبعد فشل قمة كامب ديفيد الثانية Camp David Summit سنة 2000، بدأت أمريكا و”إسرائيل” بنشر رواية مفادها أن الطرف الفلسطيني غير راغب في السلام، ويتحمل نتيجة الفشل . وفي إطار الانتفاضة الثانية 2000 كانت المطالب السياسية مرتفعة ثم بعد شهور تراجعت، إلى حدّ المطالبة بالعودة لحدود 28/9/2000. وقد بررت بعض التوجهات ذلك بكونه مجرد تكتيك. وفي الإطار المقاوم، فقد فقدت المقاومة بوصلتها الموحدة، “حيث لم تكن المقاومة محكومة برؤية استراتيجية وخطة تنفيذ” . في ظلّ إدراك الفلسطينيين بتجربتهم في كامب ديفيد أيقنوا أن “إسرائيل” لا تريد منحهم شيء. ولذلك كان الصمود الفلسطيني في كامب ديفيد، يعكس الفهم المستند على الانتفاضة الشعبية العنيفة، والمقاومة المسلحة كأداة لإعادة المفاوضات وعملية السلام إلى المسار السياسي الصحيح. وهكذا جاءت الانتفاضة الثانية (28/9/2000) بطابعها الشعبي العنيف، قبل أن تتجه نحو “عسكرة ” الانتفاضة، بعد أن استمرت “إسرائيل” بهجومها العنيف على الفلسطينيين. هذه المواجهات أعادت إلى الذهن الأمريكي – الإسرائيلي خطورة وضع ما بعد كامب ديفيد. فسارع رئيس وكالة المخابرات الأمريكية جورج تينيت George Tenet إلى ممارسة ضغوطات على القيادة الفلسطينية، لتهدئة الأوضاع ووقف إطلاق النار، واللجوء لترتيبات أمنية ترجمتها وثيقة تينيت سنة 2001.
لم تكن الوثيقة ذات مضمون سياسي بقدر ماهي التزامات أمنية لوقف الانتفاضة، إلى جانب استمرار الهجمات الإسرائيلية على مخيم جنين (12/4/2002)، تبعتها رغبة أمريكية – إسرائيلية جامحة في الدعوة إلى تغيير القيادة الفلسطينية، كشرط للدخول في مفاوضات سياسية. كانت فترة الرئيس عرفات قمة الدور الذي لعبته المقاومة على الساحة الفلسطينية، وتبرير ذلك على حدّ تعبير المفكر إدوارد سعيد هو “الافتراض أن ياسر عرفات معتاد أكثر على دور القائد الثوري للمقاتل الفدائي والمسؤول عن الكفاح المسلح، أكثر مما لو كان سياسياً يدير دولة روتينية ومأسسة تطلب الحلول الوسط” . على الرغم مما على هذا التعليق من انتقادات، إلا أنه في جزئياته تفسير منطقي للكاريزما العرفاتية التي سادت حتى سنة 2004، والتي سعت لإبقاء المقاومة والعمل المسلح في إطار التحكم والسيطرة، والتوجيه المفيد للسلطة في حال تأزم الموقف السياسي والموقع التفاوضي في إطار العملية السلمية، من منطلق أن عملية التحرير، تتطلب جهد سياسي، وآخر مسلح. وعلى النقيض، أثارت هذه الثنائية حالة انتقاد واسعة؛ يقول سامي أحمد: “ومن غير المعقول القبول لا دولياً ولا فلسطينياً بحالة من التواطؤ بين النهجين، والمقصود استنكار عمليات المقاومة، واستخدامها في الوقت ذاته سياسياً، ففي هذه الحالة تخسر السياسة النهجين، نهج المقاومة والنهج الدبلوماسي” . لكن السياق الفلسطيني شهد تحولات جذرية أبعد من ذلك، فنهج المقاومة المسلحة تمّ تجميدها سياسياً وأمنياً في الضفة الغربية، ونهج الديبلوماسية الرسمية يراوح مكانه. لقد بدت هذه المرحلة، وكأنها بداية جديدة.
على خلفية فوز الرئيس محمود عباس بالانتخابات الرئاسية سنة 2005، كقيادة بدت متناقضة مع بعض ما ساد في العهد القديم (2004)، عقدت في حزيران/ يونيو من سنة 2006 انتخابات تشريعية، وتحول أحد أقطاب المقاومة الفلسطينية المسلحة (حماس)، من ضفة القتال، إلى ضفة الإدارة والسياسة. وترأست الحركة الحكومة الفلسطينية، على قاعدة “أنها تحارب الواقع ولا تستثنى أن تكون جزءاً منه” . بعد أن عاشت تلك الحركة مرحلة تعثر المسار السياسي، وانعدام الهدوء الأمني والسياسي، والعمليات المسلحة والانتفاضات المستمرة، في محاولة لكسر جمود عملية السلام والمفاوضات، والذي أسس فيما بعد لمبدأ “شركاء في الدم، شركاء في القرار”؛ ولكنها اليوم تواجه مرحلة جديدة، حيث المفاوضات المستمرة، والمقاومة الشعبية السلمية، وما يمكن تسميته “بنهج أبو مازن”، والعمل في كلا الوقتين أمر فيه تعقيدات وتحديات، ويفرض ديناميات جديدة.
هكذا برزت رئاسة الحكومة بقيادة حماس، فهي مجبرة على عدم ملاحقة المقاومين لكونها تحمل شعار المقاومة المسلحة، وبالوقت نفسه هناك كمّ هائل من الضغوطات الإقليمية والمحلية الداعية إلى تقديم العمل السياسي على العمل المسلح. لكن الأحداث السياسية وتطوراتها بشكل عام تفيد بصعوبة تحقيق إجماع استراتيجي وليس تكتيكي بين الفصائل التي تسعى بالعمليات المسلحة، أو في جزء من أهدافها، إلى الاستحواذ على جزء من المشروع الوطني التحرري، بحيث لا يتم تجاوزها في سياق أيّ ترتيبات قيادية وحكومية لاحقة. يشير الكاتب يانيف بيرمان Yaniv Birman إلى ذلك فيقول: “وانتهت سلسلة من التفاهمات بين الفصائل الفلسطينية على وقف إطلاق النار بالفشل في كانون الأول [ديسمبر] عام 2003″، مما حدى بالفصائل الفلسطينية إلى التفكير باستخدام قدراتها لإيجاد واقع سياسي داعم لها، مما أوقعها في خطأ استراتيجي، كما يشير الكاتب عيسى أبو زهرة في قوله: “الغباء السياسي الاستراتيجي والذي أقنعهم أن الوضع الإقليمي يساعدهم في خلق أمر واقع في فلسطين، وأن العالم سيتعامل معهم وكأنهم القوة الوحيدة والتي يمكن لها أن تفاوض وتبرم صفقة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية” .
ولكن الأحداث التالية جعلت الأمور تبدو كذلك بالفعل حيث تزايدت الدعوات لحركة حماس أن تبرهن من جديد عن رغبة في التعايش في الشرق الأوسط، بديلاً عن العنف. ومثل ذلك دعوة عبد العزيز سعيد، أستاذ السلام الدولي وحلّ النزاعات، وبنيامين جانسون، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في مقال لهما بعنوان “كيف يمكن لحماس إنقاذ العالم؟” . فعلى المقاومة المشرذمة أصلاً التعايش مع سلطة قائمة على التسوية. مما جعل التزاماتها الإقليمية والمحلية محل اختبار كما هي مصدر قلق للبعض.
المقاومة الفلسطينية وديبلوماسية المصالحة:
ستكون هذه الجزئية مجرد محاولة لفهم تطور المقاومة وعملية التحرر في نطاق الاتفاقيات الداخلية المتعلقة بالمصالحة وبالتوافق الوطني منذ سنة 2000. على خلفية الافتراضات التالية، فشلت عملية تنفيذ وتطبيق الاتفاقيات ميدانياً وسياسياً لعدة أسباب أبرزها التغيرات في البيئة الدولية والإقليمية والمحلية. وجوهر الفشل ناتج عن تأثير السياسة الكولونيالية الإسرائيلية. وهذا يتضح في الأسس المعتمدة في صياغتها أو الأرضية الهادفة إلى المواءمة مع المعطيات السياسية للحالة الفلسطينية والإقليمية العربية الضعيفة، وتوظيفها كمحاولة لفرملة العمليات المسلحة المؤثرة على الموقف الرسمي والسياسي والموقع التفاوضي للسلطة الفلسطينية، من منطلق الاستيعاب المشروط للمقاومة في العمل السياسي. وللتذكير، فإن أبرز هذه الاتفاقيات هي: اتفاق القاهرة (15–17/3/2005) برعاية مصرية، ووثيقة الأسرى (10/6/2006)، والوفاق الوطني للقوى والفصائل الفلسطينية، تمّ تبنيها بشكل رسمي من السلطة الفلسطينية وصدر بها مرسوم رئاسي. واتفاق مكة المكرمة للمصالحة (6–8/2/2007) برعاية سعودية، ووثيقة القاهرة للوفاق والمصالحة (10–19/3/2009)، واتفاق المصالحة الفلسطينية (4–6/5/2011)، ونصّ اتفاق تنفيذ المصالحة الأخير بين فتح وحماس (22/5/2012) برعاية مصرية، واتفاق الشاطئ (23/4/2014) حيث كان من المفترض أن يقود إلى توحيد البنية والمسار لحركة التحرر والمقاومة بكل مكوناتها، وهذا تطور في رؤية المقاومة الفلسطينية للعمل السياسي والتسوية، لكن المتغيرات الخارجية حالت دون نجاحه.
أكدت اتفاقية القاهرة على الحق في المقاومة لإنهاء الاحتلال بكافة أشكاله. لكن في أثناء الممارسة برز نهجين، حاول أحدهما نفي الآخر في سياق التحرر. وهذه الجدلية بين المقاومة والمنظمة يوضحها سمير عوض بقوله إن “م.ت.ف تحاول الآن أن توسع تمثيلها، وتثبت شرعيتها وتبحث عن رافعه ونقطة قوة جديدة (بمعنى ضمّ المقاومة) لكي تمكنها من تجاوز هذه الأزمة”، وبالنسبة للمقاومة فهي تستفيد كونها “ستصبح محمية لأن المنظمة اكتسبت شرعية دولية… وحماس سوف تتغطى بهذه الشرعية” . في حين تضمنت وثيقة الأسرى “الوفاق الوطني” بنود مباشرة مست صلب المقاومة وأساليبها، فالبنود 3، و2، و10، و14، و15، و16 دعت بشكل غير مباشر إلى إبقاء الباب مفتوحاً أمام مختلف أشكال المقاومة، كما نصت على استيعاب فصائل المقاومة (حماس والجهاد الإسلامي) لتكون جزءاً من الجسم السياسي والتنظيمي الفلسطيني العام، مما يعني إخضاع المقاومة للعمل السياسي وقواعده، والتزام المقاومة ضمن حدود الدولة الفلسطينية وفق الاعتراف الدولي بها في الأمم المتحدة. وهذا يعكس اعتراف واضح للتيارات المقاومة بحدود المطالب السياسية والاستراتيجية لحركة التحرر الوطني، وبالتالي الدخول لمعترك السياسة الدولية. وأكثر ما يفيد المقاومة ولكنه لم يجد ترجمة واقعية، هي الدعوة الصريحة لتشكيل جبهة مقاومة موحدة، وفق مرجعية سياسية البند 10. وهذا إعلان سياسي سيكون له ثمنه، إذ لن يتم الفصل بين ما هو سياسي وعسكري بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي في استهدافه للفلسطينيين، خاصة أنها ضمنت لكافة تشكيلات المقاومة حقّ السعي لتحرير الأسرى وفق البند 8.
ورسخت اتفاقية مكة (2007) لمبدأ المقاومة بتوحيد الجبهة الداخلية الوطنية، وحلّ الخلافات الداخلية بالحوار، كما أكدت على مبدأ الشراكة السياسية، مما ينعكس على المقاومة ومصيرها، أو القيود الجديدة حيث أن قيادتها السياسية ستكون جزء من منظمة تمارس التفاوض مع الاحتلال، كما أن بقية الاتفاقيات لم تبتعد عن السياق ذاته . إن هذه الاتفاقيات ذات سمة تكتيكية للمقاومة أكثر منها استراتيجية، والهدف تجاوز مرحلة الصدام مع السلطة الفلسطينية والمضي في مسارات التسوية والمقاومة لأجل غير معروف، والتملص من الضغوطات المحلية والإقليمية والدولية.
الملاحظ في هذه الاتفاقيات الفلسطينية الداخلية، وجود حالة من الاقتراب الحذر لمختلف الفصائل من أشكال المقاومة غير المسلحة والشعبية، في جدواها وقدرتها على التأثير على السياسات الإسرائيلية المدعومة دولياً، على الرغم من وجود بعض من التطور في موقف الفصائل من المقاومة بكافة أشكالها انسياقاً مع طبيعة السياسات الإقليمية والدولية. أما القيادة السياسية الفلسطينية (السلطة) فقد أرادت المقاومة أداة لكسر الجمود التفاوضي والسياسي. يوضح ذلك الباحث والأكاديمي علي الجرباوي بقوله “ولتحقيق هذا التأثير اندلعت الانتفاضة لتشكل في بداياتها حركة تأثير فلسطينية رسمية محسوبة في مسار عملية التسوية السياسية” . لكن فترة أبو مازن تمّ استبدال المقاومة المسلحة بالشعبية كمسار بديل لسد الفراغ الناجم حالة الجمود السياسي والتعنت في المواقف الإسرائيلية إزاء عملية السلام.
المقاومة الفلسطينية والربيع العربي: من المستفيد؟
أضعف الربيع العربي بشكل عام، الموقف الرسمي الإقليمي العربي والفلسطيني، كما وأعاد المنطقة برمتها إلى فوضى غير مسبوقة، حيث ترجمت التهديدات في حشر المجتمعات العربية في مربع الأزمة والمواجهة مع الذات، مما دفع كل القوى في المنطقة إلى الوقوف عند حدّ معين في مواقفها السياسية، وتطوراتها. لكنه أيضاً ولّد العديد من الفرص السياسية، حيث وجدت بعض القوى، وخصوصاً المسلحة والمقاومة، الفرصة لإعادة ترتيب أوراقها وتحقيق مكاسب سياسية ومالية داعمة لها. كما أن الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية زاد ضعفاً لفترة وجيزة مع وصول تيارات داعمة للمقاومة والتوجهات المسلحة المنخرطة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. في حين أنتجت الحالة تحليلات سياسية رأت في هذه التطورات دافعاً للتوجهات المسلحة إلى أن تكون أكثر براجماتية وسياسية في الانخراط في المسار السياسي الداخلي للسلطة الفلسطينية، مما يعني اندماجاً للمقاومة في السياق الفلسطيني العام.
وفي البحث، لا يمكن تجاهل عناصر ثلاث أساسية هي، التغيرات في البيئة الإقليمية الداعمة والمحتضنة للمقاومة، والبيئة الداعمة للسلطة الفلسطينية، وعلاقات البيئات الثلاث بالنهج المقاوم. إن التعامل مع الربيع العربي فيما يخص المقاومة، يأتي في جانبين أحدهما التهديد الذي تمثل بانكفاء الشعوب العربية على معالجة قضاياه الداخلية، وزيادة الضغط المصري والسوري والخليجي على المقاومة. والجانب الآخر هو الفرص، وهي إتاحة مساحة واسعة من العمل على بناء الدفاعات الذاتية للمقاومة. وهذا ما أثبتته حرب غزة 2014، حيث حققت المقاومة مكاسب، ودعم سياسي ومالي، وتسليح، وتطوير قدراتها القتالية، كما ساعد ذلك في عملية الانفكاك والانفلات من قبضة الأنظمة الديكتاتورية الجمهورية، ومنحها مرونة عالية في الحركة؛ مما جعل الغربيين يعلقون أن المقاومة والفلسطينيون أدركوا تلك “التغيرات” ، واستفادوا منها. وليس أكثر دليل على ذلك دراسة خطاب خالد مشعل في 28–29/11/2012، بتأكيده على أن الربيع العربي عبارة عن “تطور استراتيجي” أتاح العمل في بيئات أكثر انسجاماً مع المقاومة. كما أنه نوع من مصادر الاعتماد الإقليمي لدى المقاومة، ومنحها هامش واسع من الاستقلال، ومن البدائل والخيارات الاستراتيجية كذلك.
المقاومة الشعبية: مسار شعبي أم بديل رسمي سلطوي؟
جاءت المقاومة في طابعها الشعبي، في إطار ولادة ديناميات وتطوير أدوات جديدة لحركات التحرر الوطني متلائمة مع الواقع، ومحاولة لسلب القوة الكولونيالية للاستفادة من الذرائع. لكنها في الحالة الفلسطينية، وخصوصاً فترة الرئاسة الحالية للرئيس أبو مازن، برزت كنهج شخصي أكثر منه إجماع وطني وشعبي حقيقي، على النقيض من الهبة والانتفاضة الشعبية الحالية (2015) التي عكست نضوجاً ووعياً مجتمعياً ووطنياً، وخصوصاً في سعي السلطة الفلسطينية للسيطرة على الحراك الشعبي سنة 2012، والمتمثل في القرى التي تمّ إنشاؤها على الأراضي المصادرة، حتى بدت المقاومة الشعبية (السلمية) كمفهوم هلامي يتسع ويضيق وفق الاعتبارات السياسية الرسمية والشعبية. فمجمل أدبيات المقاومة تشير إلى المفهوم كإطار يشمل “العصيان المدني، والاحتجاجات الجماهيرية، وإقامة قرى مثل باب الشمس (2012)، وقرية الكرامة، وقرية كنعان في الخليل، وقرية الصمود والتحدي في جنين، وقرية عين حجلة، والمقاطعة الاقتصادية، والأكاديمية، والمسيرات الأسبوعية واليومية، والمظاهرات… وحركة التضامن الدولية”. وتعيد الدراسات مسألة إبراز مفهوم المقاومة الشعبية السلمية، إلى مبارك عوض الذي دعا إلى اعتماد نشاطات غير عنيفة، وأسس بدوره المركز الفلسطيني للدراسات غير العنيفة. هذا في الاستدراك التاريخي للمفهوم. كما أن ممارسات القوة الكولونيالية، تدفع باتجاه ابتكار أشكال جديدة للمقاومة بموازاة تأثير تلك السياسات؛ يشير الباحثين ليندا طبر وعلاء العزة لذلك بقولهما: “يعمل الوضع التاريخي، وتحديداً أنماط السيطرة الاستعمارية ومفصلاتها الذي عرفناه بالجغرافيا الكولونيالية، على تشكيل أنماط المقاومة” . وتؤكد ذلك عبير قبطي بقولها: “وولد كل شكل من هذه الأشكال في سياق تاريخي وجغرافي وسياسي معين، والانتقال من شكل إلى شكل، كان نتيجة عوامل داخلية ذاتية، وأيضاً خارجية – إقليمية” . وتأتي مبررات هكذا مقاومة، كردة فعل على ما تمتلكه القوة الاستعمارية من سلطة وقوة عسكرية وهيمنة. ومن جانب آخر، فقد وصل الوضع بالفلسطينيين، إلى الشعور بعمق الفجوة في القوة والمواقف، حيث دخلوا مرحلة “لعبة اختبار القوة Power Game” وموازين القوى وفق تعبير الباحث مارتن بيك.
أما على المستوى الشعبي، فقد اتجه المجتمع الفلسطيني إلى النأي بنفسه عن الانقسامات الحزبية الفلسطينية والحسابات الضيقة، لحالة دفاع عن الوجود المجتمعي لهم، وبالتالي الخروج من مربع الصراع الحزبي غير المفيد، وتمرد على السياسات الإسرائيلية في القدس، وأنتج الانتفاضة والهبة الشعبية الحالية. ولكن شهدت المبادرات الشعبية فيما بعد حالة من التخبط مع تزايد عمليات مختلف الأطراف على توظيف المقاومة والهبة الشعبية لصالح سياساته وتوجهاته. مع أن المبرر للنهج الشعبي في المقاومة يرويه ماجد كيالي بقوله إن “الفلسطينيون معنيون بالاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، والاقتصاد في تصريف طاقتهم في صراعهم الطويل والمضني والمعقد ضدّ إسرائيل، لا سيّما أنهم أثبتوا أن الصمود في الأرض، والمقاومة الشعبية والانتفاضة، والحث على مقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها، باعتبارها دولة محتلة، هو الشكل الأكثر جدوى بين الأشكال الأخرى، إلى حين توافر معطيات جديدة” .
وتأكيداً على أن المقاومة الشعبية مرتبط نجاحها بنجاح الأشكال الأخرى، يشير إلى ذلك قادة بارزين في حركتي فتح والجبهة الشعبية، فمثلاً يؤكد مروان البرغوثي على أن يتم “تفعيل المقاومة الشعبية على أوسع نطاق وانخراط الجميع فيها…، ووقف كل أشكال التنسيق الأمني والتفاوضي والإداري مع الاحتلال… وليس هناك تناقض بين هذا الشكل أو ذاك، بل كافة أشكال النضال هي حلقات مكتملة في سلسلة واحدة”. أما أحمد سعدات فدعا إلى “تفعيل المقاومة بكل أشكالها وإلى إرساء المصالحة الوطنية”، ويرفض سعدات حصر المقاومة في شكل واحد، وإنما يشدد على ضرورة “امتلاك القدرة على تقديم هذا الأسلوب أو ذاك على غيره من الأساليب في كل ظرف، تبعاً لحاجات هذا الظرف، أو تلك اللحظة السياسية” .
فالمقاومة الشعبية السلمية والمفاوضات مسارات بديلة وليست استراتيجيات إدارة صراع، فطريقة السلطة في الاعتماد المطلق على تلك الطريق أفقد المجتمع الثقة في القيادة وتوجهاتها. يقول عقل أبو قرع عن المفاوضات والمقاومة “إنها تعتمد أو ترتكز بشكل ما على ما يتوفر من عناصر القوة والضعف، التي يمتلكها أو من المتوقع أن يملكها الأطراف، وما يوجد من حولهما أو من خلفهما من بيئة أو ظروف أو محيط يتضمن هذه العناصر، وبالتالي تؤثر على المواقف والإمكانيات أو على الأوضاع، لتحقيق الأهداف” .
كما ترتبط تلك المبررات بحركة أوسع وأشمل هي “حركة التضامن الدولي” الساعية إلى توسيع دائرتها منذ سنتي 2001–2002 بطرح استراتيجية تفعيل الحركة، “وجعلها من الاستراتيجيات الأساسية لمقاومة الاحتلال” . فمع كل ما يسرد من مبررات للمقاومة الشعبية السلمية، فيجب أن لا يتم تجاهل أن “حدود القوة متغيرة في عالم السياسة، فمن كان يتوقع أن يساند العالم الغربي الغالبية السوداء في جنوب أفريقيا ضدّ الأقلية البيضاء ونظام الفصل العنصري فيه” .
وعلى الرغم من كل المبررات إلا أن القيادات الفصائلية والسياسية على النقيض من السلطة وقيادتها، أبقت الباب مفتوحاً أمام المتغيرات المحلية، والإقليمية والدولية، لتلعب دوراً بارزاً في تحديد أنجع أشكال المقاومة.
وعلى خلفية الجمود السياسي العام، مثلت الهبة الشعبية (كمقاومة شعبية) منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2015 وكأداة تحريكية ضاغطة، قبولاً ضمنياً في أطر حركة التحرر الوطني، والمقاومة الفلسطينية كذلك، في الحفاظ على دينامياتها وأدواتها في مقاومة القوة المحتلة الإسرائيلية. ذلك بمساعدة غير مباشرة من الظروف الذاتية والموضوعية، التي مرت بها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث الحرب الإسرائيلية على القطاع الذي ما زال يعاني من حجم الدمار وتأخر عملية الإعمار فيه، إضافة للسياسات الأمنية للسلطة الفلسطينية في الضفة والتي حجّمت المقاومة وأعاقت تطورها الطبيعي. ناهيك عن السياسة المصرية تجاه القطاع. هذه العناصر مجتمعة قادت المقاومة إلى أن تكون أكثر إيماناً بالهبة الشعبية حيث احتضنتها سياسياً وإعلامياً بشكل واضح، على الرغم من حالة التصارع الخفي أو غير المعلن على التحكم بوتيرتها وأدائها الميداني بين المقاومة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، وبقية أقطاب حركة التحرر الوطني الفلسطينية.
المقاومة الشعبية: رؤية نقدية:
بقدر ما كان لهذا النهج من داعمين رسميين وشعبيين ودوليين، منذ سنة 2012، ارتكزوا على اللحظة التاريخية والسياسية العربية والمحلية والدولية التي تشكل دافع قوي له، إلا أنه يواجه تحديات جسيمة، كما أنه لم يسلم من انتقادات جوهرية، أهمها: ضعف الالتفاف الجماهيري والقاعدة الشعبية والمجتمعية له. فالمقاومة الشعبية بدأت بمبادرات شبابية وفردية أحياناً، وهؤلاء الأفراد تحكمهم عدة اعتبارات أساسية، مثل “حسابات التكلفة، والخطورة، والمنافع الشخصية، والحسابات الحزبية أو الخلفيات السياسية التي أتوا منها”. وبالتالي للوصول لحالة عامة، ولتحويل العملية إلى “واجب الاجتماعي/ توجه نحو المجتمع Social Obligation/ Communal Orientation” ، بمعنى قدرة المجتمع على احتضان المقاومة الشعبية الشاملة والمشاركة فيها بفعالية مرتبطة بقيم عامة في المجتمع وتصيب الجوهر الاجتماعي المبني على العواطف والحوافز المعنوية العامة، حتى لا تنبني فقط على توجهات فردية. مما يبرز الحاجة إلى “تكثيف الشعور الوطني والمجتمعي”، وهذا لا يتأتى إلا بربط المقاومة الشعبية السلمية بمسار سياسي وتحرر وطني، بعيداً عن المناكفات الحزبية، وباستراتيجية محفزة لمختلف شرائح المجتمع، حتى تضمن أكبر درجة من الانخراط الجماهيري.
وعملية التكتيل للجهود المجتمعية تعني “تشغيلها بكيفية شمولية تتلاءم ومنطق الاستعمار الشمولي لتستطيع مقاطعته ومن ثم نفيَه” . وهذا يتطلب بناء وعي سياسي جماعي يتجاوز حدود الجغرافيا الكولونيالية، والتشتت الديموجرافي كنتيجة له. ويؤكد ذلك قول طبر والعزة “أن هذا الوعي السياسي لم يطور وعياً يتجاوز المشروع الاستعماري الذي يفرض حالة الموضعة والتشظي الجغرافي والتقسيم بحسب القضايا” . فالمقاومة الشعبية التي لا تستهدف أصول وأسس المشروع الاستعماري، ليس أكثر من إيجاد حالة تعايش مع منتجات المشروع نفسه. وهذه دعوة صريحة للخروج من مأزق “نصف دولة، ونصف حركة تحرر وطني” ، لأن هذه الحالة أفضت إلى “صراع بين السلطة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني” ، مما أثر سلباً على رؤية الاندماج في قيادة وطنية موحدة، الذي جعل القيادة السياسية متخوفة من فقدان ما يسمى بالمكتسبات الوطنية.
كما أن طريقة احتضان السلطة والقيادة السياسية الفلسطينية لمشروع الهبة والمقاومة الشعبية السلمية برمتها، أوقعها في فخّ الاستغلال السياسي، والتشويه المجتمعي، خصوصاً أن تبني السلطة لهذا النهج جاء بعد أن اتخذت القيادة السياسية منحى آخر في التعاطي مع القوة الاستعمارية، أساسه “أن تستبدل طريق الكفاح والمقاومة بمسار سلمي تفاوضي، في سبيل تحقيق الاستقلال” . وهذا أثار حفيظة شريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني، والأفراد المشاركون في المقاومة الشعبية بخلفية فصائلية، مما أوجد انقساماً وصراعاً داخلياً في لجان المقاومة؛ تقول عبير قبطي “وثمة عوامل ذاتية أخرى منها، خلافات داخلية وصراعات بين لجان المقاومة الشعبية المحلية في مختلف القرى وفي داخل اللجان نفسها” . فلم تكن هذه اللجان كما أراد لها مؤسسيها، وإنما ترجمت واستغلت من قبل السلطة الفلسطينية لتحسين صورتها، وعدم إيجاد حالة الفراغ التي تتيح الفرصة لولادة مقاومة مسلحة إذا ما فشلت المفاوضات.
تريد السلطة من المقاومة الشعبية في كافة أشكالها وأوقاتها، أن تكون فقط أداة (كنترول) لمنع تفجُّر الوضع. وهذا التوظيف الرسمي، بالرغم من حالة الإحباط والروتينية التي كونتها لدى المجتمع، شوّه الوعي السياسي والوطني حيال علاقة السلطة بالثورة والمقاومة وبعموم عملية التحرر الوطني؛ وهذا ما كونته السلطة، مما جعل المقاومة الشعبية حبيسة الإرادات السياسية لكل المنتفعين. وهذا وجد صداه في العديد من الأدبيات، مثل تصريحات كبير مسؤولي ملف المفاوضات بأن الشباب الفلسطيني يسعى لحماية “حلّ الدولتين”، ناهيك عن قرار السلطة بإنشاء مجلس محلي باسم “باب الشمس”. وتشير قبطي إلى أن السلطة تسعى “للسيطرة على قرار المقاومة الشعبية”، لجعلها مبرمجة وفق إرادة القيادة السياسية. فالرسالة التي تحملها المقاومة الشعبية ليست كما تراها السلطة، فالمقاومة الشعبية “نوع من المقاومة لا ينزع الشرعية عن أي شكل مقاوم آخر وإنما على العكس يمكن أن يكون مكملاً”. لكن السلطة تسعى لنزع شرعية كل شكل يختلف مع نهجها التفاوضي، وخشية من الانفجار الحتمي لفشل ذلك المسار، مع انسداد الأفق السياسي الفلسطيني والدولي حيال التسوية، ومع إعلان الإخفاق وفشل المفاوضات الثلاثية (الفلسطينية – الأمريكية – الإسرائيلية) حول قضايا الوضع النهائي لكيان أو دولة قابلة للحياة ومنزوعة السلاح، تتعالى أصوات القيادة الرسمية الفلسطينية بالدعوة لانتهاج المقاومة الشعبية (السلمية) كإطار وأداة سلمية للكشف عن الاعتداءات الإسرائيلية وفضحها كمستوطنين وجيش وإحراجهم على المسرح الدولي. كما أنها محاولة من القيادة الفلسطينية “لحفظ ماء وجهها” أمام الفلسطينيين الذين سئموا التفاوض الذي مرت عليه أجيال فلسطينية عديدة، دون إنجاز سياسي حقيقي، ولم يطبق منه إلا الشق الأمني والعسكري وبما يخدم مصالح الأقوى في العملية. ناهيك عن أن الدعوة للمقاومة الشعبية هو منع انفجار الوضع الداخلي عسكرياً وتوجيهه نحو العمل السلمي للتفريغ. ويأتي كل ذلك من باب الحفاظ على المكتسبات الوطنية التي تراها القيادة إبان حكومة سلام فياض، ومحاولات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وصيانة المرافق العامة بالأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 تحت مسمى وثيقة إنهاء الاحتلال وبناء الدولة، والتعاطف العالمي مع تلك الجهود. في هذا الإطار علينا أن لا ننسى الاعتبارات التالية:
• حالة الفجوة في القوة بين المحتل والخاضع للاحتلال كانت قانوناً طبيعياً وليس استثناءً، فلا يوجد على الأرض حركة تحرر امتلكت المستوى نفسه من القوة التي بحوزة العدو. ومن الطبيعي أن تسعى الحركات التحررية إلى امتلاك ما هو ممكن من أدوات وأساليب للمواجهة مع العدو، حتى حالة إيجاد توازن الرعب بين المتنازعين.
• إن عدم مواتاة الفرصة للكفاح المسلح لا يعني إنكاره بالضرورة كأسلوب للمواجهة مع الاحتلال، فالنهج الديبلوماسي في الأمم المتحدة والاعتراف بالدولة الفلسطينية كانت خطوة بارزة إلى جانب مقاطعة “إسرائيل” أكاديمياً واقتصادياً، لكن ذلك يجب ألا يوصل للعالم رسالة بأن المقاومة المسلحة محرمة، ولا بدّ من إنهاء حالة التخوف الفلسطيني الرسمي من هذه المقاومة ورهن وقفها أو استمرارها بالأداء والتقدم في العملية السياسية والمفاوضات. إن حاجة العالم للاستقرار في المنطقة يجعل من المقاومة المسلحة أداة حاضرة وقوية ومؤثرة.
المقاومة في السياق الإقليمي: بين الارتباط الوطني والتبعية:
التطور التاريخي والسياسي للمسار الفلسطيني، وخصوصاً لفصائل المقاومة، أوجدت ترابطاً إقليمياً مفيداً على المستوى الوطني حتى على المسارات السياسية والمسلحة كذلك. وفيما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية إجمالاً، لا يمكن تناول البعد الوطني والإقليمي دون أن تكون دول مثل إيران، وقطر، وتركيا، في دائرة الاستهداف البحثي. والمدخل لذلك جملة من الافتراضات، في أن التبعية الإقليمية تؤثر بدرجات متفاوتة إيجاباً وسلباً على عملية تحديد سياسة واستراتيجية موحدة، حتى في إطار التوجهات والأطر المسلحة (المقاومة)، مما أدى لغياب رؤية ورواية موحدة للصراع مع القوة المحتلة؛ وما يحدث ليس أكثر من تنسيق تكتيكي سواء داخل أطر المقاومة أم بين المقاومة والسلطة الفلسطينية، بما لا ينعكس سلباً على العلاقات الثنائية للمقاومة مع دول وقوى إقليمية عربية وغير عربية.
وهناك دائماً دوامة البحث عن الدولة الوطنية في مواجهة البحث عن المصالح الذاتية لكل فصيل وتوجه في الساحة الفلسطينية، وجدلية من يُجيِّر ويطوِّع من لمصلحته؟ كما أن المطالب والحوارات الاستراتيجية التي تجريها السلطة الفلسطينية مع المحيط الإقليمي وتطالب فيها الدول بضرورة الضغط على المسار المقاوم في فلسطين، لحثها ودفعها باتجاه العملية السياسية والقبول بالمفاوضات وبقواعد اللعبة السياسية برمتها، توضح مدى وجود درجة كبيرة من التأثر للخارج بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في قبولها أو رفضها لأي تهدئة أو تصعيد في العمليات المسلحة.
إن تأثير القوى الإقليمية فكرياً وأيديولوجياً وفي الممارسة لحركات المقاومة سينسحب على طبيعة وتكوين الحقل أو النظام السياسي المستقبلي. وبالمشهد العام، يجب التأكيد على نقاط استراتيجية، لأن علاقة هذه القوى بالسياسات الدولية والإقليمية الأخرى، ستبقى ذات أهمية، على الرغم من إدراك أن النفوذ ذو درجات متفاوتة في مرحلة الثورة والدولة واستقرارها، وهذا ما تسعى له القوى. تقول فاطمة الصمادي حول السياسة الإيرانية، إن إيران “لا تنكر سعيها الطموح للحصول على إقرار عالمي وإقليمي بشرعية دورها في المنطقة باعتبارها لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه… ويتخذ ذلك أشكالاً عدة أكثرها وضوحاً تقديم الدعم لحركات المقاومة” ، فهي (إيران) تريد الانتقال بنفسها من محور الشر إلى محور الاستقرار. ويؤكد ذلك نجيب نور الدين بقوله إن “إيران استطاعت من خلال هذه القضية المركزية أن تحجز لنفسها كدولة مكانة مهمة على الخارطة السياسية للمنطقة والعالم” . كما أن تركيا تمتاز بنظام مزدوج من العلاقات الثنائية مع المقاومة و”إسرائيل”، كمدخل لدور سياسي إقليمي، يتم اللجوء إليه في تسويات الأمور العالقة على ضوء أحداث غزة سنة 2009. يقول محمد عبد القادر “هذا في الوقت الذي عادت فيه تركيا كدولة لها وزنها الدبلوماسي في العالم العربي” ، في ضوء لجوء مصر في الفترة القصيرة لحكم مرسي، لتركيا وقطر للضغط على “إسرائيل”. ويؤكد سعد حقي كذلك “أن الدور الإيراني في دعم الحركات الإسلامية داخل فلسطين مثَّل إحدى أوراق منظمة التحرير في تفاوضها مع إسرائيل التي تعمل على توظيف هذه المنظمة واستخدامها كجدار ضدّ العمليات الفدائية التي تقوم بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي” . إن تلك العلاقات الجدلية بالذات في السياق التحرري العام، تجعل الكل يستخدم الكل في إطار ما يحدد لنفسه من تكتيكات واستراتيجيات بحجج الأمن القومي، والشك المتبادل.
إن تراجع السياسة العربية وتفاعلها القوي مع المسألة الفلسطينية، هو أكبر مشجع لولوج لاعبين إقليميين جدد، من خلال العلاقة بين الأطر المسلحة الفلسطينية (الحقل المسلح) مع دولة إيران، وتركيا، وقطر، وذلك لكثافة وتنوع أنماط العلاقات البينية، لأن تقوقع الديبلوماسية العربية، بالذات، سيدفع إيران نحو “تصدير ثقافتها السياسية في التحرر الإقليمي” . وأبرز توضيح لمسألة الوطنية، والإقليمية في توجهات المقاومة الفلسطينية، ما جاء في خطاب خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، بقوله إن “مبدأ القرار الوطني المستقل يقوم على عدم التبعية والارتهان لأي دولة أو طرف… ولكن ذلك لا يعني ولا يمكن أن نقبله في إطار حصر القضية الفلسطينية في الشعب الفلسطيني وشطب وإضعاف الدور العربي والإسلامي” . إن فحص وتدقيق هكذا توجه بانتظار ماهية الكيان الفلسطيني المستقبلي يؤكد على قدرة المستوى السياسي الذي يوظف المقاومة الفلسطينية على بناء مواقف مستقلة ومنحازة للأجندة الوطنية والشعبية، وهذا ما حدث في المسألة السورية، حيث استطاع العمود الفقري للمقاومة من مناهضة المواقف السورية الرسمية (النظام الحاكم) والإيرانية، مما أغضب الأخيرة. وهذا الموقف أكده أكاديمي إسرائيلي هارل كوريف في إشارته إلى بروز أزمة داخل محور المقاومة. إن العملية برمتها أشبه بلعبة محفوفة المخاطر، بين الاعتماد على إيران في بناء القدرات الصاروخية، واللجوء لدول الخليج لكسب الدعم والمعونات المالية والسياسية.
المقاومة الفلسطينية في السياق الدولي:
يتطلب من المقاومة الفلسطينية أن تحافظ دوماً على أنها حركة تحرر وطني، أو جزء من منظومة تحرر، أكثر من كونها حركة دينية ذات أجندة إقليمية، لما في ذلك من دور مهم في وضع المقاومة في سياقها الدولي، كون المقاومة مجرد وسيلة لتحقيق أهداف مشروعة، وهذا يحميها من مغبة الوقوع في الصورة التي تحاول “إسرائيل” رسمها للمقاومة في أنها مرتبطة بقوى إقليمية تهدف إلى إزالة “إسرائيل” ككيان من الوجود، وترفض الشرعية الدولية والمفاوضات كوسيلة. فـ”إسرائيل” نجحت لحد ما في إقناع الأطراف المؤثرة في عملية السلام أن المقاومة ليست تحررية بقدر ما هي وسيلة ضدّ “إسرائيل”. وهذه الصورة بدت واضحة في مؤتمر هرتسليا Herzliya، بعنوان “ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي” في الفترة ما بين سنتي 2000–2001. وبالتالي مطلوب من المقاومة أن تنأى بنفسها عن أن تكون مجرد أداة بيد قوى إقليمية، بقدر ما هي فلسطينية. هذا وجد صداه فيما ورد في خطاب رئيس المكتب السياسي لحماس بقوله “غير أن ضرورة توحيد الموقف الفلسطيني والعربي على برنامج القواسم المشتركة… هو الذي يملي علينا… أن نذهب لهذا الموقف”، ويقصد به القبول بدولة على حدود 1967، وهذه مرونة لإحدى الحركات الراديكالية المقاومة.
المسارات والسيناريوهات المحتملة:
حتى تتم عملية التحديد الدقيق والمنطقي، للمسارات المحتملة للمقاومة الفلسطينية في إطار حركة التحرر الوطني، لا بدّ من تناولها آخذين بعين الاعتبار تساؤلات مثل، هل سيكون هناك دولة فعلية؟ وما هي طبيعة حدودها؟ وهل هناك ضمانات دولية وإقليمية لاستمرارها؟ وهل سيستمر وجود حركة تحرر وطني في إطار تسوية مؤقتة؟ على هذه الأرضية يمكن طرح المسارات التي تخص المقاومة الفلسطينية بالذات وفق السيناريوهات التالية:
• فرض تسوية تلتزم بموجبها المقاومة بشكل غير مباشر أو علني انسجاماً مع قاعدة الوفاق الوطني والعربي والإسلامي، وإنجاز تسوية دولية إقليمية تفرض على الأطراف.
• الاندماج في النظام السياسي (الانتقالية السياسية) لمستقبل غير مستقر، وبالتالي تصبح المقاومة جزء من مؤسسة أمنية وعسكرية رسمية، خصوصاً إذا نجحت عملية إصلاح وتفعيل م.ت.ف.
• يمكن أن تحافظ المقاومة على موقعها في غزة، وقيادتها السياسية تقوم بالمشاركة السياسية في الضفة في حال استمرار التعنت الإسرائيلي في المفاوضات وإعاقة تسوية سلمية سياسية. بمعنى إدارة أمنية خاصة، وإدارة مؤسساتية موحدة إدارياً.
• المقاومة قد تندمج بالنظام أو بالصفقة السياسية في المنطقة بضمانات إقليمية ودولية، بانتظار أن تطرأ تغييرات استراتيجية إقليمية ودولية، وفي تركيبة النظام الدولي، فتعود الفرصة للمقاومة لتحسين شروط الاندماج من جديد.
• قد تلجأ مكونات حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى صياغة إطار عمل، يُحيَّد فيه البعد الأيديولوجي والديني، مما يزيد من فرص التقارب أو التعاطي السياسي مع الحلول الواقعية والممكنة.
• سيناريو عملية سلمية مؤقتة يتم في إطارها نزع سلاح المقاومة الفلسطينية مقابل مكاسب سياسية كاستمرار لصفة حركة تحرر وطني.
[1] باحث متخصص بالشأن الإقليمي والدولي. حائز على درجة الماجستير في الدراسات الدولية من جامعة من بيرزيت في فلسطين سنة 2006، ويهتم بدراسات العنف واللا عنف في المنازعات الدولية، والنظريات المتعلقة بالتوتر الاجتماعي والسياسي للمجتمعات العربية، وله العديد من المقالات المنشورة.
اسباب المقاومات