بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تقف الانتفاضة الفلسطينية هذه الأيام يتيمة ومهددة بانطفاء جذوتها، غير أنه من المهم التأكيد على أن أي نجاحات في إسكات الانتفاضة ستكون ذات طبيعة مؤقتة، وربما تؤجل الوضع فقط، إذ إن بيئة انفجار الأوضاع قائمة ومتزايدة.
تبدو انتفاضة القدس، وقد تجاوزت يومها المئة، كزهرة وحيدة تشقُّ طريقها إلى أعلى، في جوّ عاصف، أو كطفل يتيم رائع بلا أب أو أم، ولا رعاية ولا حماية ولا دعم… مع تضييق وخنق وتعتيم محلي وعربي ودولي، لتموت بهدوء، وتُوارى التراب دونما صخب.
هذه الانتفاضة ”اليتيمة“ اختلف الكتَّاب والمحللون والسياسيون في تسميتها، هل هي ”انتفاضة“ أم ”هبة“ أم ”احتجاجات“… ليس فقط لأنها أعطت نموذجًا متميزًا، ولكن لأن القوى السياسية تدرك مدلولات الكلمات. فقوى المقاومة كحماس والجهاد تقدمها على أنها انتفاضة سعيًا لتأجيجها وتوسيعها، والقوى المحسوبة على فتح ومسار التسوية تسميها ”هبة“ وكأنها فورة غضب مؤقتة، لأنها تريدها تحت سقف معين، وفي بيئة جغرافية ضيِّقة.
هذه الانتفاضة قدَّمت إبداعًا جديدًا من إبداعات الشعب الفلسطيني المقاوم والرافض للاحتلال، مرتبطًا بالمبادرات الفردية والقدرة على إرباك الاحتلال بوسائل بسيطة.
في الانتفاضتين السابقتين، الانتفاضة المباركة (1987-1993) وانتفاضة الأقصى (2000-2005)، كان التحشيد الجماهيري والانتشار الواسع والمظاهرات والصدامات الشعبية مع الاحتلال مظاهر رئيسية في المراحل الأولى.
أما هذه الانتفاضة فقد تكفلت إجراءات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بخنقها ومحاصرتها في مناطق محدودة، ولذلك تركزت أبرز فعاليتها الشعبية والمقاومة في شرقي القدس، حيث لا توجد سلطة فلسطينية وتكون المواجهة مباشرة مع الاحتلال، وفي مناطق الخليل حيث تكثر نقاط التداخل والاحتكاك مع المستوطنين وقوات الاحتلال.
في الانتفاضتين السابقتين جاء الفعل المسلح المقاوم لاحقًا للفعاليات الشعبية والمظاهرات، أما هذه الانتفاضة فقد جاء الفعل المسلح منذ البداية، لم ينتظر إذنًا من أحد، لا من الفصائل ولا من أجهزة السلطة. وظهرت عمليات المقاومة لشباب وفتيات قرروا القيام بأنفسهم بعمليات بطولية، تكاد تكون احتمالات الاستشهاد فيها مؤكدة، ودون أن يكون ذلك ضمن خلايا مقاومة، تقوم بعمل الترتيبات اللازمة. إذ إن أجهزة أمن السلطة، بالتعاون مع قوات الاحتلال، قامت بتفكيك معظم خلايا المقاومة وضربها، حتى قبل أن تقوم بعمليات مسلحة.
واللافت للنظر أيضًا أن الجيل الذي حمل عبء هذه الانتفاضة هو ما يسمونه ”جيل أوسلو“، أي الجيل الفلسطيني الذي ولد ونشأ في ظلّ اتفاقية أوسلو للتسوية السلمية، لكنه شبَّ رافضًا لها، وهو ما يضع مسمارًا جديدًا في نعش هذه الاتفاقية، التي فرطت في الكثير من حقوق الشعب الفلسطيني، ولم يحترمها الاحتلال الإسرائيلي نفسه، بل استخدمها أداة لإخضاع الشعب الفلسطيني، ولمزيد من تهويد الأرض ونشر الاستيطان. هذا الجيل أعطى رسالة واضحة للقيادات السياسية بأنه آن الأوان لطي صفحة ”أوسلو“، ولاستئناف المقاومة لطرد الاحتلال.
الأستاذ خالد مشعل نفسه قال إن الانتفاضة ”تشكو من غياب الأبوة القيادية والسياسية“، ودعا التنظيمات الفلسطينية إلى تبنيها. وربما فضلت الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس، عدم تبني عمليات أو فعاليات المقاومة، رغبة منها في أن تأخذ الانتفاضة شكلها الوطني الوحدوي الشامل، وتحافظ على روحها الشعبية، وحتى لا يتم عزلها أو محاربتها باعتبارها نشاطًا لفصيل مُعيَّن. ولذلك لاحظنا أن الكثير ممن قاموا بالعمليات منتمون أو محسوبون على حماس أو فتح أو الجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية وغيرها… ولكننا لم نعلم بذلك إلا بعد استشهادهم أو في جنائزهم، دون أن يعلن فصيل مُعيَّن مسؤوليته عن عملية من العمليات.
وربما أسهمت هذه الحالة في صعوبة منع الأجهزة الأمنية للعمليات قبل تنفيذها، مما ساعدها على الوصول إلى أهدافها، ونشر حالة الرعب في أوساط المستوطنين وقوات الاحتلال بأدوات فردية بسيطة كالسكاكين، أو بحوادث الدعس بالسيارات.
ويبدو من المتابعات الإعلامية أن حماس والجهاد الإسلامي والقوى المعارضة لأوسلو تدفع بقوة باتجاه تأجيج الانتفاضة وتفعيلها، ويظهر ذلك بوضوح في تبنيها للانتفاضة وتغطيتها بشكل كثيف وتعبوي واسع في إعلامها، كما في قنوات الأقصى والقدس وفلسطين اليوم. أما حركة فتح فتبدو منقسمة تجاه الانتفاضة، إذ شاركت فيها قطاعات شبابية منتمية لها أو محسوبة عليها، بينما لا ترغب قيادة السلطة الفتحاوية في دعم المقاومة المسلحة أو حتى في انتشار الفعاليات الشعبية في المناطق التي تسيطر عليها.
ويظهر أن قيادة السلطة في رام الله المستاءة من التعامل الإسرائيلي ومن التجاهل الأميركي أرادت ”انتفاضة تحت السيطرة“ أو ”انتفاضة محسوبة“ بسقف يكفي لتحريك مسار التسوية الراكد، ولكن دون أن يغضب الطرفين الإسرائيلي والأميركي لدرجة تُعرِّض السلطة إلى عقوبات جديدة.
وفي بيئة كهذه، يصعب أن تكون للانتفاضة قيادة موحدة تديرها لأنها ستُعتقل فورًا من الأجهزة الأمنية للسلطة أو من قوات الاحتلال الإسرائيلي. ولكن ربما احتاجت الانتفاضة إلى قيادات ميدانية (منتشرة في كل مكان، وذات قدرة عالية على الحركة والمناورة) من الفصائل المختلفة لتنسيق عملها، ولتضمن استمرارها وانتشارها ونجاحها، بالرغم من إدراكنا لصعوبة مهمة هذه القيادات في بيئة سلطوية واحتلالية تلاحقها، ولكن أمثال هذه القيادات ستجد على الأقل حاضنة شعبية فلسطينية مؤيدة واسعة.
بعد أكثر من مئة يوم لم تتمكن سلطات الاحتلال من قمع الانتفاضة، وإن تمكنت من محاصرتها، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية للسلطة. وشقت الانتفاضة طريقها لتقتل نحو أربعين إسرائيليا وتجرح نحو خمسمئة آخرين، بينما استشهد نحو 150 فلسطينيًّا وجرح نحو 15 ألفًا.
وشهدت الانتفاضة خلال 85 يومًا من عمرها 72 عملية إطلاق نار و71عملية طعن، و19 عملية دعس، و41 محاولة طعن. وأشارت تقارير إلى حدوث نحو ألف عملية حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2015 منها 296 عملية وقعت فيها إصابات إسرائيلية.
إذًا، نحن أمام فعاليات مقاومة مسلحة تُحدث إصابات في الجانب الإسرائيلي كتلك التي كانت تحدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، بل تتجاوز في تأثيرها العديد من الأوقات التي مرت بها تانك الانتفاضتان.
وإذا ما علمنا أن القدس وحدها شهدت 420 عملية نفذها 145 فلسطينيا، فإننا سنلاحظ مدى الإمكانات المذخورة في الانتفاضة، وقدرتها على الفعل على الأرض عندما تكون بعيدة عن هيمنة ”سلطة أوسلو“.
الانتفاضة التي كانت من أبرز دوافعها الدفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات التي تتعرض لانتهاكات إسرائيلية بشعة وعمليات تهويد منظمة، نجحت في الحدِّ من التغوُّل الإسرائيلي، وفي تعطيل عملية التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وأجبرت وزير الخارجية الأميركي على القدوم إلى المنطقة ومحاولة تهدئة الوضع بالتنسيق مع الحكومة الأردنية وحكومة السلطة والحكومة الإسرائيلية.
وتسببت الانتفاضة في خسائر اقتصادية فادحة للجانب الإسرائيلي، خصوصًا بسبب فقدان الشعور بالأمن الذي أقرَّ به 77% من الإسرائيليين، وانخفاض نسبة الخروج إلى الشوارع والأسواق، بالإضافة إلى التراجع الكبير في السياحة.
من جهة أخرى، فإن الانتفاضة تجد حاضنة شعبية واسعة تدفع باتجاهها، ووفق الاستطلاعات التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (وهو مركز في رام الله، ومحسوب على جهات علمانية) في الأشهر الماضية، فإن ”جيل أوسلو“ (الأعمار 18-22 عامًا) هو الأكثر تأييدًا للانتفاضة، وهناك 68% من الشعب الفلسطيني يؤيدون التخلي عن اتفاق أوسلو ولا يؤيد إبقاءه سوى 25% فقط، ويؤيد 67% استخدام السكاكين، ويؤيد 64% وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، كما يؤيد 65% استقالة محمود عباس من رئاسة السلطة، ويؤيد 60% انتفاضة مسلحة، كما يؤيد نحو نصف المستطلعة آراؤهم حلَّ السلطة.
وتجد قوى المقاومة رصيدًا قويًّا حتى في أماكن نفوذ السلطة وسيطرتها في الضفة الغربية بعد أكثر من عشر سنوات من القبضة الأمنية والمطاردات لحماس والجهاد، إذ تشير نتائج الاستطلاع الذي أُجري في ديسمبر/ كانون الأول 2015 أنه في حال حدثت انتخابات رئاسية فإن إسماعيل هنية سيفوز على محمود عباس بفارق 10% (51% لهنية و41% لعباس) مع ملاحظة أن شعبية هنية تزداد أكثر في الضفة الغربية؛ وأن شعبية حماس في الضفة الغربية أعلى من شعبية فتح.
إن مثل هذا الاستطلاع وغيره من الشواهد، تؤكد أن هناك بيئة حقيقية جاهزة للانتفاضة في الضفة الغربية، وأن هناك حالة إحباط كبيرة من السلطة وأدائها ومن مسار التسوية السلمية وانعكاساته.
وبالرغم مما سبق، فإن محمود عباس وقيادة السلطة ما زالوا مُصرِّين على التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وعلى اتخاذ إجراءات لمحاصرة الانتفاضة، وإبقاء سقفها تحت السيطرة. واللافت للنظر أن الجمهور الفلسطيني لم يعد يأخذ تهديدات قيادات السلطة تجاه ”إسرائيل“ على محمل الجد، فثلثا الفلسطينيين يعتقدون أن محمود عباس غير جادّ في تهديداته.
وكان من النماذج المحبطة ما نُشر عن صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية وعضو اللجنة المركزية لفتح من أن السلطة ستبدأ قطع علاقاتها مع ”إسرائيل“ رسميًّا مطلع سنة 2016، بما فيها وقف التنسيق الأمني (جريدة الاتحاد، أبو ظبي، 21/12/2015)، وهو ما لم يحدث.
بل إن ما حدث هو تسرُّب أنباء عن عقد اجتماعات سرية في عمَّان والقاهرة بين قيادات في السلطة وبين مسؤولين إسرائيليين، وهو ما وصفته الجبهة الشعبية بأنه ”طعنة غادرة في خاصرة الشعب الفلسطيني“. كما سبق أن قامت قيادات من السلطة بالتواصل مع قيادات فلسطينية في فلسطين المحتلة 1948 لتطلب منها وقف أو تخفيض وتيرة الانتفاضة في مناطقها.
أما التنسيق الأمني فقد شهد تنشيطًا وتفعيلًا أكبر في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2015، حيث رصدت لجنة أهالي المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية 265 انتهاكًا لأجهزة أمن السلطة الفلسطينية بحق أبناء وكوادر المقاومة وخصوصًا حماس.
وتحدثت جريدة هآرتس الإسرائيلية (7/1/2016) عن تقرير لأجهزة الأمن الإسرائيلية يشير إلى أن قيادة السلطة في رام الله عملت على تقليص ”التحريض“ في الإعلام، ونشرت عناصرها الأمنية بالزي الرسمي في مناطق التماس، خصوصًا في الأسابيع الأخيرة، وجدَّدت الحملات الاعتقالية لعناصر حماس، مع تراجع في مشاركة عناصر فتح، وتحسُّنٍ كبيرٍ في التنسيق الأمني، واعتقال شبكة معنية بالعمل العسكري لحماس من 25 ناشطًا.
وأخيرًا، فإن هذه الانتفاضة التي تحمل إمكانات النجاح والتوسع والانتشار، تقف ”يتيمة“ هذه الأيام وهي تعاني من القمع الصهيوني، ومن الحصار الأمني والإعلامي للسلطة في رام الله، ومن عدم التبنّي الفعال للفصائل الفلسطينية، ومن التجاهل السياسي والإعلامي العربي والإقليمي والدولي.
ولذلك، فإن الانتفاضة مهددة بالفعل بانطفاء جذوتها. غير أنه من المهم التأكيد على أن أي نجاحات في إسكات الانتفاضة ستكون ذات طبيعة مؤقتة، وربما تؤجل الوضع فقط، إذ إن بيئة انفجار الأوضاع قائمة ومتزايدة، وسيسير الوضع نحو موجة قوية عارمة ستتمكن من تحييد السلطة وأجهزتها، هذا إن لم تتسبَّب في تغيير منظومة العمل السياسي والإداري والاقتصادي في الضفة، باتجاه بيئة مقاوِمة، تجعل اتفاقات أوسلو وترتيباتها ورموزها شيئًا من الماضي.
أضف ردا