بقلم: د.محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يبدو أن حماس حريصة على ألا تكون طرفا معوقا لانعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح المقرر في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2016. ويظهر ذلك من رسائل الطمأنة العديدة التي صدرت عن قيادات في حماس والتي تؤكد الحرص على وحدة فتح واستعادتها لعافيتها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، وعدم دعم طرف على حساب طرف آخر، وكذلك السماح لأعضاء فتح المقيمين في قطاع غزة بالسفر والمشاركة في مؤتمر فتح.
ترتيب البيت الفلسطيني
لعل إحدى المهمات الرئيسية لمؤتمر فتح السابع هي مناقشة الوضع الداخلي الفلسطيني، وسبل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبالتالي لا بد من التعرض لموضوع العلاقة مع حماس وإنفاذ اتفاق المصالحة الموقع عليه منذ مايو/أيار 2011، وكيفية إدماج حماس وقوى المقاومة في المؤسسات القيادية والتشريعية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، غير أن ذلك لن يكون مهمة سهلة ما لم تحدث مراجعات جذرية لأسس الاختلاف بين الطرفين.
فبين فتح وحماس تاريخ طويل من التنافس والصراع وانعدام الثقة، ورغم أنهما يمثلان عمودي الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ويحصدان عادة أكثر من 80% من أصوات الناخبين الفلسطينيين، فإنهما لم ينجحا حتى الآن في إدارة خلافاتهما ضمن بنية مؤسسية واحدة، ولا من الاتفاق على أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، ولا من تنفيذ الاتفاقات التي يوقعانها. وأدت حالات الشد المتبادل بين الطرفين في أحيان عديدة إلى نتائج سلبية على العمل الفلسطيني، وإلى تعطيل كل طرف لمسار الآخر بحجة المصلحة الوطنية.
وتعود محاولات الاتفاق بين فتح وحماس إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وإلى بدايات صعود حركة حماس كحركة مقاومة وطرف رئيس في المعادلة الفلسطينية، فكانت لقاءات في اليمن وتونس والخرطوم والقاهرة في الفترة 1990-1995. وتكررت لقاءات القاهرة في الفترة 2002-2005 التي تُوِّجت باتفاق القاهرة في 17/3/2005 الذي هيأ لتوقف انتفاضة الأقصى وللانتخابات التشريعية الفلسطينية، ولإطلاق مشروع إعادة بناء منظمة التحرير، ثم تكررت الاتفاقات في وثيقة الحوار الوطني (وثيقة الأسرى) 2006، واتفاق مكة 2007، وصولا إلى اتفاق القاهرة 2011.
وليس من الصحيح تبسيط الخلاف بين فتح وحماس في مجرد الصراع على السلطة، فالمرجعية الإسلامية الأيديولوجية لحماس تمنعها من عقد اتفاقات تؤدي إلى التنازل عن أجزاء من فلسطين أو الاعتراف بـ”إسرائيل”، والمرجعية العلمانية الواقعية لفتح لا تمنعها من عقد اتفاقات كاتفاق أوسلو برنامجا مرحليا للعمل الوطني.
ومن ناحية أخرى فإن أولوية العمل الوطني لدى فتح مرتبطة بمسار التسوية السلمية كمعبر لإنشاء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بينما تكمن أولوية العمل الوطني لدى حماس في مسار المقاومة المسلحة باعتبارها الأداة العملية الصحيحة لدحر الاحتلال. ولذلك تجد محمود عباس يتحدث عن عبثية عمليات المقاومة وصواريخها، بينما تجد حماس تتحدث عن عبثية مسار التسوية السلمية.
وفي الوقت الذي تتهم فيه فتح حماس بالتسبب في الانقسام والانقلاب والخروج على الشرعية، وفرض السيطرة على قطاع غزة، فإن حماس تتهم فتح بالديكتاتورية واحتكار القرار الفلسطيني، والهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية، وتعطيل مؤسساتها وإغلاق الباب في وجه الشراكة الحقيقية لحماس والقوى الفاعلة في المنظمة، كما تتهمها بتعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني، فضلا عن اتهامها لفتح بالتسبب في الانقسام نتيجة الدخول في مسار أوسلو وفرضه على الشعب الفلسطيني، وعدم اكتراثها بوجود قوى معارضة واسعة (الفصائل الفلسطينية العشر) لهذا المسار.
ولا يخلو الأمر من اتهامات متبادلة بين الطرفين بتعطيل مسار المصالحة، حيث تتهم فتح حركة حماس بعدم الجدية في إنفاذ المصالحة وتسليم المؤسسات في قطاع غزة، بينما تتهم حماس حركة فتح بعدم الجدية، لأن فتح هي التي تمسك بمفاتيح المصالحة من خلال سيطرتها على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والدعوة لاجتماعات الإطار القيادي المؤقت، ولأن فتح تستقوي على حماس من خلال التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي، ومن خلال الاستقواء بالبيئة العربية والدولية المخاصمة أو المعادية لحماس ولتيارات “الإسلام السياسي”.
مشاركة ممثلي فتح بغزة
بالرغم من البرود الذي تتسم به علاقة حماس بفتح، وبالرغم من تصاعد درجات التوتر بين الطرفين في الأشهر الماضية، حيث تتهم حماس قيادة فتح بالتراجع (تحت عباءة محكمة العدل العليا) عن إجراء الانتخابات البلدية، وبالاستمرار في التنسيق الأمني مع الطرف الإسرائيلي، وبمطاردة عناصر المقاومة، وبعدم تفعيل ملف المصالحة، وبعدم حل مشكلة الموظفين الذين عينتهم حكومة هنية، إلا أن قيادة حماس صرحت بأنها لن تقف عائقا أمام مشاركة ممثلي حركة فتح في المؤتمر من أبناء قطاع غزة.
وكانت حكومة هنية قد أعاقت مشاركة هؤلاء الممثلين في مؤتمر فتح السادس الذي انعقد في رام الله في صيف 2009، في خطوة اعتبرتها ردا على حملات الاعتقالات التي تنفذها الأجهزة الأمنية في الضفة ضد عناصر حماس وقوى المقاومة، بينما قوبل هذا الإجراء بالسخط من قبل فتح التي رأت في ذلك محاولة لإفشال مؤتمرها أو إضعاف مصداقيته التمثيلية.
قضية دحلان
في اللقاء الذي جمع أبو مازن مع خالد مشعل برعاية قطرية في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2016، كان أبو مازن مسكونا بمشكلته مع محمد دحلان أكثر من أي شيء آخر، وحتى من ملف المصالحة نفسه، وعبَّر عن انزعاجه الشديد من الضغوط الكبيرة التي تعرض لها بشأن المصالحة مع دحلان وإعادته إلى حركة فتح. وفي هذا اللقاء، كما في غيره، تلقى تطمينات من قيادة حماس بعدم دعمها لدحلان، وعدم التدخل في الشأن الداخلي لحركة فتح.
وكانت ثمة مخاوف لدى قيادات من فتح من تدخل حماس في محاولة للتأثير على مؤتمر فتح ومخرجاته من خلال “اللعب” بورقة دحلان، خصوصا مع ملاحظتهم لنشاط عناصر مؤيدة لدحلان في قطاع غزة، وإدخالهم لأموال لدعم بعض المشاريع التي تحمل ظاهرا “خيريا” غير أن استخدام دحلان للمال السياسي ومحاولة استجلاب الدعم والتأييد لا تقتصر على القطاع، فهو ينشط في أوساط كوادر فتح نفسها، وفي مناطق الضفة الغربية حيث تسيطر فتح، وفي مخيمات اللاجئين في الخارج.
وكان دحلان المعروف بطموحه للوصول إلى قيادة فتح والسلطة قد انتخب لعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح سنة 2009، ودخل في خلافات كبيرة مع محمود عباس، انتهت بفصله من اللجنة المركزية ومن حركة فتح في يونيو/حزيران 2011، وبتوجيه اتهامات إليه بالفساد واستغلال سلطاته، وهو ما اضطره للجوء إلى الإمارات حيث عين مستشارا لمحمد بن زايد.
وعلى ما يبدو، فإن مشكلة حماس مع دحلان لا تقل عن مشكلة عباس معه، إذ تُحمِّل قطاعات واسعة من حماس دحلان مسؤولية الانفلات الأمني في قطاع غزة ومحاولة الانقلاب على حكومة إسماعيل هنية وإيصال الأوضاع إلى الحسم العسكري الذي قامت به حماس في القطاع صيف 2007. وتنظر حماس بارتياب تجاه دور دحلان الكبير في السعي لإفشال وضرب تيارات “الإسلام السياسي” وقوى المعارضة في المنطقة، كما تضع كثيرا من علامات الاستفهام على علاقاته الإسرائيلية والغربية.
وقد أكد عدد من قادة حماس طوال الشهور الماضية على النأي بالحركة عن خلافات فتح الداخلية، وربما لمّح بعضهم إلى أن عباس -رغم أدائه السيء تجاه حماس- فإنه يظلّ خيارا أهون بالنسبة لهم من دحلان.
وعلى سبيل المثال، فقد ذكر صلاح البردويل أن حماس لا يسرها رؤية فتح “مفتتة ومدمرة، لأن تفتت فتح قنبلة نووية، ستشوِّه سمعة الشعب الفلسطيني، وتبدد طاقاته” (جريدة الرسالة، فلسطين، 16/5/2016). وقال البردويل في تصريح آخر إن حماس ليست جزءا من الخلاف بين عباس ودحلان، ولا مصلحة لها إطلاقا فيه، وإن الذين يتحدثون عن تقارب بين حماس ودحلان يريدون الهرب من مسؤولياتهم السياسية، ويحمّلون غيرهم المسؤولية عن فشلهم في إدارة خلافاتهم (قدس برس، 23/10/2016). كما نفى خليل الحية وجود صفقة بين حماس ودحلان، وأكد أن الخلافات الفتحاوية تؤثر سلبا في القضية الفلسطينية، وأن استعادة فتح لعافيتها وقوتها يشكل قوة للشعب الفلسطيني (الاستقلال، غزة، 6/10/2016).
من جهة أخرى، فإن كشف السلطات في قطاع غزة عن خلية سرية ترتبط بالطيراوي ودحلان (الجزيرة نت 3/5/2016؛ وعرب 48، 4/5/2016) تسعى لشيطنة قطاع غزة وحماس في عيون الفلسطينيين والمصريين والعالم، قد أثار قلقا متزايدا لدى حماس من الدور الخطير الذي يلعبه دحلان. والخلية التي أعلن البردويل عنها كانت تخطط لاغتيال شخصيات فتحاوية (محسوبة على عباس) أمثال أحمد نصر، ومأمون سويدان، وجمال كايد، وعماد الآغا، وجميعهم محافظون عينهم عباس.
والخلية متهمة بتسجيل مقاطع فيديو تتضمن تهديدات للنظام المصري ولعباس باسم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويظهر أن القبض على هذه الخلية، وتسليم حماس عددا من الوثائق المتعلقة بالخلية إلى عباس، عبر عن سعي حماس لإظهار مصداقيتها، ولعله أيضا كان مصدر طمأنة لعباس.
***
وأخيرا، فإن التحدي الأكبر الذي تواجهه فتح لا يتعلق بحماس، وإنما يتعلق بثلاث أزمات أساسية: الأولى مرتبطة بالرؤية والمسار السياسي وإعادة عمل مراجعة جادة لمسار التسوية السلمية وتجربة المنظمة والسلطة لإعادة توجيه البوصلة باتجاه خدمة المشروع الوطني الفلسطيني.
والثانية مرتبطة بالبنى الداخلية والتنظيمية لفتح ومعالجة ما أصابها من ترهل وفساد.
والثالثة مرتبطة بالقيادة وما تحتاجه من تجديد ودماء شابة وعلاج مرحلة ما بعد عباس.
أضف ردا