بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
عندما مرَّ الأمير (الملك لاحقاً) سعود بن عبد العزيز في 14 أغسطس/آب 1935 بقرية عنبتا في طريقه إلى القدس، ألقى الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود قصيدة على مسامعه جاء فيها:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر ** ضُمَّت على الشكوى المريرة أضلعُهْ
المـسجد الأقصى أجئـت تزوره ** أم جئت من قبل الضــــياع تودِّعُهْ؟
وغداً -وما أدناه- لا يبــــقى ســــوى ** دمعٍ لنا يَهمِي، وســنٍّ نقـــرعُهْ
صدقت توقعات الشاعر، فضاع الأقصى بعد ذلك بـ32 عاماً، بينما كان قد استشهد عبد الرحيم محمود في معركة الشجرة خلال حرب فلسطين سنة 1948.
***
منذ أن بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين، ومنذ الاحتلال البريطاني لها قبل نحو مئة عام؛ والمسجد الأقصى مُهددّ بالضياع والتهويد، وأبناء القدس وفلسطين -ومن يدعمهم- يُفشلون الخطر تلو الخطر والمؤامرة تلو المؤامرة، بما يستطيعونه من إمكانات، مهما كانت بسيطة ولو بأظافرهم وأسنانهم.
استمروا في المرابطة والمصابرة والصمود…، واستمر العرب والمسلمون في الإهمال والتقصير والخذلان… ومنذ خمسين عاماً لم تتوقف برامج التهويد في القدس لتغيير وجهها العربي الإسلامي وتشويه هويتها الحضارية…، وكان الأقصى في قلب المؤامرة وفي قلب المعركة.
طفح الكيل… وبلغ السيل الزبى… ووصلت الصرخات إلى عنان السماء ولكن:
ربّ وامعتصماه انطلقت ** ملء أفواه الصــبايا اليتَّمِ
لامست أسماعهم لكنــها ** لم تلامس نَخوة المعتصمِ
وأخيراً، يخرج وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ليستخدم المصطلح نفسه، ويقول “طفح الكيل”!!فتستبشر، وتقول لعله يعني طفح الكيل بالاحتلال الإسرائيلي للقدس وفلسطين… باعتداءاته على الأقصى… وقتله النساء والأطفال والشيوخ… أو طفح الكيل بالحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، أو طفح الكيل بالاستيطان اليهودي في الضفة الغربية ومصادرة الأراضي، وببرامج التهويد والجدار العنصري العازل… أو طفح الكيل بالغطرسة الصهيونية وإنكارها لحقوق الشعب الفلسطيني… لكنك تُفاجأ به يكمل جملته بأن الكيل قد طفح بحماس وبالإخوان المسلمين!!
وأياً يكن موقف الجبير من تيارات “الإسلام السياسي”، فإن حماس كانت لسنوات عديدة وما زالت قوة المقاومة الأولى في وجه المشروع الصهيوني في فلسطين، وخط دفاع أول -إلى جانب قوى المقاومة الأخرى- عن هوية القدس وفلسطين العربية والإسلامية والحضارية.
***
الخط التاريخي المعتاد للسعودية هو الدفاع عن القدس والأقصى والوقوف إلى جانب معاناة الشعب الفلسطيني، وتصريح الجبير لا يعكس السياسة التقليدية السعودية.
ولعل من المفيد التذكير بنص تاريخي للملك فيصل بن عبد العزيز (1964-1975) قال فيه وهو يتحدث بمرارة عن القدس والدعوة للجهاد لتحريرها: “ماذا ننتظر؟ الضمير العالمي!! أين هو الضمير العالمي؟! القدس الشريف يناديكم ويستغيثكم… فماذا يخيفنا؟! هل نخشى الموت؟! وهل هناك ميتة أفضل وأكرم من أن يموت الإنسان مجاهداً في سبيل الله؟!”
ويتابع الملك فيصل قائلاً: “أيها المسلمون: نريدها نهضة إسلامية، لا تدخلها قومية ولا عنصرية ولا حزبية، وإنما دعوة إسلامية، دعوة للجهاد في سبيل الله. وأرجو الله إذا كتب لي الموت أن يكتب الموت لي شهيداً في سبيل الله”.
ويضيف الملك فيصل: “حرَمُنا الشريف ومقدساتنا تُنتهك وتستباح… بالمخازي والمعاصي والانحلال… أَدعو الله مخلصاً -إذا لم يكتب لنا الجهاد وتخليص هذه المقدسات- ألا يبقيني لحظة واحدة على قيد الحياة!!”.
هكذا كان الموقف السعودي؛ فما الذي تفعله حماس وقوى المقاومة المسلحة غير الذي تحدث عنه الملك فيصل؟! وهذا الكلام -الذي يعبِّر عن عزة الأمة وشرفها وكرامتها- لو قاله أحد هذه الأيام لاتّهمته أنظمة عربية (بل وخليجية) بالتطرف والإرهاب، أو على الأقل باللا واقعية واللا مسؤولية…
***
احتل الصهاينة غربي القدس سنة 1948 وقاموا بتهويدها بالكامل. ثم احتلوا شرقي القدس (وباقي الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء) سنة 1967. ومنذ نحو خمسين عاماً يقومون بعمل حثيث مبرمج لتهويد القدس…؛ فاستجلبوا أكثر من مئتيْ ألف مستوطن إلى شرقي القدس، وأنشؤوا نحو ثلاثين حياً ومستعمرة يهودية في شرقي القدس ومحيطها.
وعزلوا القدس بجدار عنصري صار أقرب إلى الحدود الدولية، وسحبوا الهويات المقدسية من أكثر من 15 ألف مقدسي لمنعهم من الإقامة في القدس، ويهددون نحو عشرين ألف منزل مقدسي بالهدم والتدمير بحجة البناء دون إذن الاحتلال، ويواصلون جهودهم للسيطرة على النظام التعليمي في المدارس المقدسية، مع إيجاد البيئات لنشر الفساد والمخدرات والتسرُّب المدرسي الواسع وسط الطلبة المقدسيين.
وتهدد عشرات الأنفاق والحفريات تحت المسجد الأقصى مبانيه بالتضعضع والانهيار، بينما يحاول الصهاينة تغيير الهوية البصرية للقدس بإنشاء مجموعة من الكُنُس والمباني اليهودية، بالإضافة إلى مصادرتهم لمعظم أراضي شرقي القدس (87.5 %)، ومحاولة وضع اليد أو “شراء” ما يستطيعون من ممتلكات ومساكن المقدسيين، تحت مختلف الضغوط.
بلغت ميزانية الاحتلال الإسرائيلي لبلدية القدس سبعة مليارات و370 مليون شيكل (حوالي ملياراً و930 مليون دولار أميركي). وهناك جمعيات إسرائيلية صهيونية متخصصة في تهويد القدس -كجمعية تاج الكهنة، وجمعية إلعاد، وجمعية أمناء جبل المعبد- تنفق سنوياً نحو 150 مليون دولار أميركي، وبرامج التقاسم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى ماضية، ويشجعها برود العرب والمسلمين ولا يعطلها إلا صمود المقدسيين.
***
في المقابل، فإن منظمة المؤتمر الإسلامي (التي أصبحت منظمة التعاون الإسلامي) والتي نشأت أساساً إثر حريق المسجد الأقصى سنة 1969، ويشارك في عضويتها 56 بلداً مسلماً؛ تضع ميزانية هزيلة (نحو عشرة ملايين دولار) للجنة القدس المنبثقة عنها. وهي أقل من ميزانية شراء لاعب كرة قدم لأحد الأندية، وأقل بكثير مما يصرف على الاحتفالات والبهرجات ومظاهر البذخ التي يعرفها الجميع.
ولو افترضنا أن هذه البلدان أرادت أن تنفق من إيراداتها البترولية ما يساوي قيمة الزكاة فقط (باحتساب أن الزكاة فقط هي ربع العشر أي 2.5 %) لدعم القدس وتحريرها؛ لبلغ الإنفاق السنوي أكثر من 15 مليار دولار (15 ألف مليون دولار!!)، في الوقت الذي تنفق فيه هذه الأنظمة عشرات مليارات الدولارات سنوياً لشراء أسلحة تتكدس كـ”ستوكات” في مخازنها، أو تستخدم في السيطرة على شعوبها، أو في الصراعات الداخلية فيما بينها.
أما السلطة الفلسطينية في رام الله، فإن ميزانية وزارة شؤون القدس لديها (بكل ما تعنيه القدس من مسؤوليات وتحديات…) في سنة 2016 كانت حوالي 12 مليون دولار، من أصل نحو ثلاثة مليارات و765 مليوناً هي ميزانيتها الكلية، أي نحو ثلاثة بالألف من ميزانيتها (0.3%).
وقد كان ذلك سبباً لاستقالة حاتم عبد القادر من وزارة شؤون القدس في صيف 2009 بعد نحو أربعين يوماً من تعيينه. في الوقت الذي تستهلك فيه رواتب العاملين في الأجهزة الأمنية للسلطة -حسب ميزانية 2016- نحو 867 مليون دولار، أي ما معدله 42% من الرواتب السنوية لموظفي السلطة.
***
لم ينتظر أبناء القدس قيادات المنظمة والسلطة ولا القيادات العربية والإسلامية لمواجهة الاحتلال…، وإنما أصروا على تقديم أروع الأمثلة في الثبات والصمود…، وقبضوا على الجمر حفاظاً على القدس والمقدسات، وعلى هويتها العربية والإسلامية.
كان يكفي لابن القدس القديمة أن يبيع مثلاً شقة صغيرة متداعية (أقل من مائة متر مربع) ليصبح مليونيراً، حيث سيجد عشرات المشترين اليهود…، ولكنه قرر الصمود والعض على جراحه وتحمّل كافة أشكال المعاناة والإفقار، وبرامج “التنغيص والتطفيش” الإسرائيلية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية…، حتى رغم عدم القدرة على صيانة منزله… وضعف أو انعدام المساعدات التي تعينه على الصمود.
ما زال العرب في القدس القديمة المسوَّرة والمحيطة بالمسجد الأقصى يمثلون أكثر من 85% من سكانها، وما زالوا يمثلون أغلبية سكان شرقي القدس. ورغم أن الاحتلال حاول تخفيض نسبتهم طوال السنوات الماضية في القدس (شرقيها وغربيها) إلى أقل من 22%؛ فإنهم تمكنوا من رفع نسبتهم إلى أكثر من 36% بعد أن كانوا نحو 26% بُعيد احتلال شرقي القدس سنة 1967.
وأبناء القدس كانوا في قلب الانتفاضة المباركة 1987-1993، وفي قلب انتفاضة الأقصى 2000-2005، وكانوا ولا يزالون في قمة العطاء في انتفاضة القدس الحالية التي تصعد وتخبو منذ نحو سنتين.
ولا شك أن لإخوانهم من أبناء فلسطين المحتلة 1948 وأبناء الضفة الغربية وقطاع غزة -بالإضافة إلى الناشطين من فلسطينيين وعرب ومسلمين وداعمين دوليين- أدوارهم في دعم صمود القدس وأهلها، غير أن أهل القدس يبقون في القلب والمركز.
***
نجح أبناء القدس وإخوانهم داخل فلسطين في تعطيل التهويد الزماني والمكاني للقدس، الذي كان قد دخل أطواراً عملية متقدمة في صيف 2015. وقدموا أرواحهم ودماءهم في سبيل ذلك.
غير أن البيئة العربية والإسلامية المهترئة والمنشغلة بأزماتها لم تقف إلى جانبهم، ولم تشكّل رافعة حقيقية في مواجهة مشاريع التهويد. فبدت انتفاضة القدس “يتيمة” في غياب الراعي والنصير؛ فعاد الصهاينة من جديد لمواصلة اعتداءاتهم وتصعيدها. ولذلك لم يكن غريباً أن تحدث عملية قتل الجنديين الإسرائيليين في المسجد الأقصى.
بعض المتفذلكين أخذوا يتحدثون عن عدم مناسبة توقيت العملية ومكانها، ولم يتورعوا عن التشكيك في نوايا منفذيها. وللتوضيح، فإن عمليات المقاومة لن تجد وقتاً مثالياً يُرضي الجميع، وستجد دائماً من يعترض على توقيتها، خصوصاً أولئك الذين تتضرر مصالحهم أو ينفضح تقصيرهم.
وعلى سبيل المثال، فعندما أطلقت حركة فتح عملياتها سنة 1965، اتهمتها الأنظمة العربية بالعمالة وبمحاولة جرّ الأنظمة إلى معركة غير مستعدين لها. وعندما تابعت حماس عملياتها -بعد إنشاء السلطة الفلسطينية 1994- اتهمتها قيادات في فتح ومنظمة التحرير والسلطة بمحاولة تعطيل المشروع الوطني وإنشاء الدولة الفلسطينية.
ورجال المقاومة لا يملكون دائماً “تَرَف” اختيار المكان والتوقيت، فما دام الاحتلال قائماً فإن المقاومة ستظل واجبة ومشروعة. وقد تحسب الدول أو التنظيمات الكبيرة حساباتها بشكل أو بآخر؛ غير أن أحداً لا يستطيع أن يُلزم شباباً قاموا بمبادرات ذاتية، بحسابات معينة.
وعلى أولئك الذين يَسْلقون الشباب المضحي بألسنةٍ حدادٍ، أن يسكتوا… ويكفي الشباب المجاهد أنهم بذلوا أرواحهم ودماءهم. فلا أقل من التَّرحم عليهم ومواساة أهاليهم. فهؤلاء الأبطال يمثلون ما تبقى من عزة الأمة وكرامتها، ويمثلون خط دفاعها الأول عن حرماتها ومقدساتها.
***
سينجح بإذن الله صمود المقدسيين في إفشال الإجراءات الإسرائيلية وخصوصاً البوابات الإلكترونية، وسيقومون ما استطاعوا بتعطيل المحاولات الصهيونية لتهويد الأقصى وتقسيمه زمانياً ومكانياً.
ولكن، أما آن لأنظمتنا العربية والإسلامية أن تعلم أن الكيل قد طفح منها ومن تقصيرها وسوء إدارتها؟ أما آن للنخب والمثقفين والأحزاب والمتفلسفين أن يعلموا أن الكيل قد طفح منهم ومن فذلكاتهم وتنظيراتهم؟ وأن أهلنا في القدس قد استنفدوا كل ما يملكون من قدرات ووسائل…، وأن الخطر ضد الأقصى والقدس يتعاظم كل يوم…، وأنه آن الأوان للجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم.
أضف ردا