بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يُخيّل للمطلع على الهجمات الإعلامية الحادة التي تقوم بها منذ أشهر؛ قيادات في فتح ورموز في السلطة في رام الله ومنظمة التحرير، ضدّ فكرة التهدئة في القطاع وضدّ حماس، كما لو أن هؤلاء الرموز خرجوا للتو من معركة الكرامة (1968)، أو ينفضون عن ثيابهم العسكرية المرقطة غبار ملحمة الشقيف (1980)، أو الصمود البطولي في بيروت (1982)!!
يقول أسامة القواسمي، الناطق باسم فتح، إن ‘الهدنة تنفيذ حرفي للمخطط الإسرائيلي الهادف لتدمير القضية الفلسطينية’ (وفا، 21/8/2018)، ويصف حديث حماس عن هدنة بينها وبين ‘إسرائيل’ دون دفع ثمن سياسي؛ بأنه ‘هراء وكذب وتضليل إعلامي’، ويضيف أن ‘الثمن هو تمرير صفقة القرن الصهيو أمريكية، وضرب منظمة التحرير وتحويل الانقسام إلى انفصال’ (الشرق الأوسط، 21/8/2018). ويرى صائب عريقات عضو اللجنة المركزية لفتح، ومسؤول ملف المفاوضات في المنظمة أن انفراد حماس بالاتفاق مع ‘إسرائيل’ (لعمل التهدئة)؛ هو ‘تدمير للمشروع الوطني الفلسطيني’ (الشرق الأوسط 21/10/2018). أما أمين سر المجلس الثوري لفتح ماجد الفتياني، فيصل به الأمر إلى وصف حماس بأنها ‘واجهة تحالف شيطاني تقوده إسرائيل والإدارة الأمريكية لضرب المشروع الوطني وإبقاء الاحتلال’ (الشرق الأوسط، 21/10/2018).
أما أحمد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية وأحد مساعدي عباس المقربين (ليس عضواً في فتح)، فيقول إن التهدئة هدفها ‘خلق إطار سياسي يمهد لصفقة سياسية ينشأ عنها كيان سياسي في القطاع يكون بديلاً عن حلّ الدولتين’. ويدّعي أن ‘حماس اتخذت موقفاً انتظارياً من صفقة القرن، ولم تتخذ موقفاً واضحاً’ (الحياة الجديدة، 30/8/2018)، مع أنه يعلم أنه صدرت لحماس وقياداتها مئات التصريحات الرسمية القاطعة ضدّ صفقة القرن منذ أن بدأت التسريبات حولها.
هل قلق قيادات فتح والمنظمة من حدوث تهدئة بين قطاع غزة والكيان الإسرائيلي نابع من خوفهم فعلاً على المشروع الوطني، أو من سلوك حماس السياسي تجاه صفقة القرن؟! لا أظن ذلك!! فبالرغم من الحملة الفتحاوية القاسية واللهجة الهجومية ضدّ حماس، إلا أنها هدفت في جوهرها إلى:
1- قطع الطريق على حماس لقطف ثمار مسيرات العودة، والتي تسببت بحالة ضغط شديد على الكيان الإسرائيلي، وخصوصاً مستعمرات غلاف غزة؛ حتى لا يؤدي نجاح حماس في التخفيف عن الحصار الإسرائيلي لإفشال مسار العقوبات والضغوطات التي وضعها عباس على القطاع، في سبيل إخضاع حماس لإرادة قيادة فتح وسلطة رام الله.
2- تلميع صورة محمود عباس التي تعرضت لانتقادات كثيرة وقوية في الوسط الفلسطيني، نتيجة سياساته الإقصائية والفوقية تجاه القوى الفلسطينية، والإصرار على الهيمنة على القرار الوطني الفلسطيني، وتعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني.
3- محاولة تبرير استمرار العقوبات التي فرضها عباس على القطاع، والتهيئة لتشديدها، بالرغم من الاعتراضات الواسعة والمتزايدة ضدها في الوسط الفلسطيني.
باختصار، فإن القوى الإسلامية والوطنية في القطاع أرادت أن تقطف بعض ثمار مسيرات العودة التي أبدعت في إطلاقها واستمرارها، من خلال تخفيف الضغط والحصار عن غزة. وحماس نفسها لا ترغب في عقد هدنة إلا ضمن توافق وطني، خصوصاً بين قوى المقاومة. وهذه القوى لا تحتاج شهادة ‘حسن سلوك’ من سلطة رام الله، فهي رافضة أصلاً لمسار التسوية واستحقاقاته، ورافضة للاعتراف بالكيان الصهيوني، وهي تدفع منذ سنوات طويلة أثماناً باهظة في مواجهة الاحتلال حصاراً وتجويعاً وقتلاً ومطاردة وتدميراً. والذي يرفض أوسلو واستحقاقاتها؛ من باب أولى أن يرفض صفقة القرن ومتطلباتها، بينما ربطت فتح التهدئة بالمصالحة (على مقاسها)، وربطت المصالحة بتطويع حماس وإخضاعها في القطاع، وهو ما يعني عملياً حرمان قطاع غزة من جني أي مكاسب تكتيكية أو انتزاع أي منجزات، بانتظار أن تأتي حماس وهي ‘شالحة’ على حد تعبير أحد قيادات فتح.
أما إن كان لدى قيادات فتح مخاوف حقيقية على المشروع الوطني، ومن صفقة القرن، فعليهم أن يجيبوا على النقاط التالية:
أولاً: أليست فتح هي الجهة السياسية التي تسيطر على ‘الشرعية الفلسطينية’، والتي أدخلت منظمة التحرير في مسار التسوية السلمية؟ أليست هي وراء التنازل عن معظم فلسطين التاريخية (77 في المئة من مساحتها) للعدو الصهيوني؟ أليست هي وراء سراب الدخول في مغامرة ‘حلّ الدولتين’، من خلال الحكم الذاتي المسمى السلطة الفلسطينية، والذي أوصلنا إلى نتائج كارثية، حيث أصبحت السلطة تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما تخدم المشروع الوطني الفلسطيني؟ أليست هي من كان وراء إلغاء أو تعطيل كل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني المعادية للاحتلال والمشروع الصهيوني؟
على قيادة فتح ان تخبرنا كيف تَعدّ هدنة تكتيكية تدميراً للمشروع الوطني الفلسطيني، بينما تعدُّ اتفاق أوسلو الذي تضمن التنازل عن معظم فلسطين للعدو منجزاً وطنياً؟! ومن هي الجهة التي يُخشى من سلوكها السياسي في هذه الحالة؟
ثانيا: هناك إجماع على وجود أزمة حقيقية عميقة في المشروع الفلسطيني. وجوهر الأزمة هو في وجود فصيل فلسطيني (فتح) يُهيمن منذ خمسين عاماً على منظمة التحرير و’الشرعية الفلسطينية’؛ ولا يرغب في شراكة سياسية حقيقية تعكس أوزان القوى الفلسطينية المختلفة، وهو الجهة المسؤولة عما آلت إليه منظمة التحرير ومؤسساتها من ترهل وضعف وانعدام فاعلية، وهو الجهة المسؤولة عن تعطيل عقد الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني، وهو الجهة التي تصر على عقد المجلس الوطني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبخلاف اتفاقات المصالحة في القاهرة وبيروت.
فإذا كان ثمة خوف من تدمير المشروع الوطني الفلسطيني، فهو ممن أوصلنا إلى الوضع البائس الذي نحن فيه!!
ثالثاً: إذا كان سعي حماس لهدنة لرفع الحصار أو تخفيفه عن قطاع غزة؛ يُعدّ ‘تمريراً لصفقة القرن’ و’واجهة تحالف شيطاني تقوده إسرائيل والإدارة الأمريكية’، فماذا نسمي انفراد فتح بمشروع التسوية مع الكيان الإسرائيلي، وإنشاءها لسلطة إحدى مهامها الرئيسية حماية أمن ‘إسرائيل’ والتنسيق الأمني مع العدو، ومطاردة قوى المقاومة؟ وبالرغم من حالة الإذلال والامتهان التي تعاني منها السلطة، وإمعان الاحتلال في برنامج التهويد والاستيطان في مناطقها، فإن رئيس حركة فتح يتحدث بالفم الملآن عن أن التنسيق الأمني ‘مقدس’، وأنه لم تتوقف لقاءاته مع رئيس الشاباك، وأنه في لقاءاته معه يتفقان على 99 في المئة من المواضيع، وأنهم في السلطة يجرون تنسيقاً أمنياً يومياً، وأنهم ‘يفعلون كل ما بوسعهم لكي لا يُصاب أي إسرائيلي بأذى’ (يديعوت أحرونوت، وعرب 48، 2/9/2018).
هل ما تقوم به قيادة فتح والسلطة في الضفة مقاومة متقدمة في مواجهة الاحتلال عن تلك التي تقوم بها حماس في غزة حتى تحتج على الهدنة؟! ومن هو أقرب في التساوق مع البرنامج ‘الشيطاني’ الإسرائيلي الأمريكي حسب تعبير القيادي الفتحاوي؟
رابعاً: إذا كانت فتح حريصة على إنفاذ المصالحة، ومواجهة صفقة القرن ومنع فصل غزة عن الضفة، فلماذا تُصرّ على وضع شروط تعجيزية لم ترد في اتفاق المصالحة لسنة 2011 ولا في الاتفاقات التالية؟ ولماذا تُصرّ على السيطرة على ما فوق الأرض وما تحت الأرض (سلاح المقاومة)، مُطبقةً معايير أوسلو والتنسيق الأمني ‘المقدس’ على القطاع؟ ومن هو المستفيد الأكبر من ذلك؟ ولماذا هي مشغولة بإخضاع وإسقاط حماس في القطاع و’شيطنتها’ وفرض مزيد من العقوبات، بدلاً من اتخاذ خطوات عملية حقيقية لاستعادة الحيوية للمشروع الوطني الفلسطيني؟
وأخيراً، فعلى فتح ألا تقلق على موقعها كـ’وكيل حصري’ لمسار التسوية، ولكن عليها أن تقوم بمراجعة فورية وشاملة لأدائها السياسي، وللحالة المتردية لمؤسسات ‘الشرعية الفلسطينية’ التي تقودها؛ وأن تنفتح على شراكة حقيقية مع القوى الفلسطينية، في إعادة بناء منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بشكل ينهي أزمة المشروع الوطني الفلسطيني.
المصدر: موقع “عربي 21″، 26/10/2018
أضف ردا