بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لا أدري أين كان يسرح خيال جدي “سليمان” وهو عائد إلى فلسطين، بعد أن أضناه الجوع والتعب، وأعيته سنوات القتال في الجيش العثماني في اليمن، أثناء الحرب العالمية الأولى. لقد قاتل بشرف عن الدولة التي يؤمن أنها دولته، غير أن الخواطر والمخاطر والآمال والكوابيس كانت تتقاذف نفسه؛ فها قد زال حكم الدولة الإسلامية التي حكمت بلده أربعة قرون متواصلة، وها هي بلده الآن تحت الاحتلال البريطاني والآمال تتصاعد بين فئات من الناس بقيام دولة عربية تحت زعامة شريف من الدوحة النبوية، والمخاوف تتعاظم بين فئات أخرى بنكث البريطانيين لعهودهم، وتطبيق اتفاقات سايكس بيكو، وتسليم فلسطين للصهاينة اليهود. كان هذا حاله وحال عشرات الآلاف ممن قاتلوا مع العثمانيين، وحال مئات الآلاف من أبناء فلسطين الذين أربكهم المشهد فاحتاروا أين تخطو أقدامهم خطواتها التالية؟!!
في الشهر الماضي، أقيم في فرنسا احتفال عالمي بمرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى (11/11/1918). وفي الوقت نفسه، ترجع بنا الذاكرة إلى أن البريطانيين كانواقد أنهوا في النصف الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر 1918 احتلال شمال فلسطين، واستكملوا في الشهر التالي احتلال سوريا.
مئة عام مرت على الخروج العثماني من بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية. ولنا في هذه المناسبة وقفات مختارة متعلقة بفلسطين:
الوقفة الأولى: أن أهل فلسطين (ومعهم بشكل عام أبناء البلاد العربية التي حكمها العثمانيون) كانوا في العهد العثماني، كما يقول مؤرخ فلسطين عارف العارف “مخلصين في شعورهم نحو الدولة والسلطان؛ وكانوا على أتم الاستعداد للحرب والكفاح دون دين الإسلام وسلطان المسلمين”. وكانوا، كما يذكر زعيم فلسطين ومفتيها الحاج أمين الحسيني، يشاطرون الأتراك جميع مناصب الدولة المدنية والعسكرية، ويتمتعون بجميع الحقوق التي يتمتع بها الأتراك. وعلى سبيل المثال، فإن موسى كاظم الحسيني الذي أصبح زعيم فلسطين بعد انتهاء الحكم العثماني (في الفترة 1920-1934) كان متصرّف (حاكم) منطقة عسير 1892، ونجد 1896، والإحساء1900 (والمناطق الثلاث من مناطق السعودية الحالية). كما عمل متصرفاً بعد ذلك وحتى 1912في بتليس وأرجيدان في الأناضول، ثم في المنتفق في العراق، ثم في حوران في سوريا.
الوقفة الثانية: أن هذا الولاء استمر بشكل لا لبس فيه إلى أن حدث انقلاب حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد سنة 1908. فقد صُدم الفلسطينيون وباقي العرب والمسلمين باتخاذ قيادة الدولة منحى قومياً تركياً، وبتبني سياسة “التتريك”، والتزام سياسة نفَّرت العرب والقوميات الأخرى. وزاد من مخاوف أهل فلسطين تغلغل اليهود الصهاينة في الاتحاد والترقي، ومظاهرُ البهجة والفرح التي سادت وسط اليهود الصهاينة في فلسطين إثر نجاح انقلاب الاتحاد والترقي، وتزايد نشاطهم لتحقيق مشروعهم في فلسطين. وعندما تشكلت الحكومة الجديدة للاتحاد والترقي في حزيران/ يونيو1913، شارك فيها عربي واحد هو سليمان البستاني، مع أن العرب كانوا نصف سكان الدولة العثمانية في ذلك الوقت.
وقام الاتحاديون بتخفيف القيود على الهجرة اليهودية لفلسطين، كما خففوا القيود على تملّك اليهود للأراضي فيها. غير أن الاتحاديين اضطروا لتغيير موقفهم من الحركة الصهيونية في أثناء الحرب الأولى، عندما اتخذت موقفاً معادياً للدولة العثمانية.
وهكذا، فإن أبناء فلسطين شعروا بالصدمة وانتابتهم المخاوف، وهم يرون الدولة المعنية برعايتهم تهيمن عليها قيادة لا تكترث بهم، أو “تتآمر” عليهم، فتعارضت في نفوسهم مشاعر الولاء والحب للدولة، مقابل مشاعر القلق والغضب والرغبة في التغيير تجاه قيادتها.
الوقفة الثالثة: أنه عندما أعلنت الدولة العثمانية دخولها في الحرب العالمية، جمَّد زعماء الجمعيات والحركات العربية الإصلاحية نشاطاتهم، وقرروا الالتفاف حول الدولة العثمانية في حربها ضدَّ أعدائها، على أمل أن يُستجاب لمطالبهم الإصلاحية. وأقيمت في فلسطين استقبالات حافلة للجيش العثماني القادم من الشام في كانون الأول/ ديسمبر 1914، في طريقه لمهاجمة قناة السويس، وعُلِّقت الزينات وأقواس النصر، وخرج أهل القدس بأسرهم للترحيب به. وعندما انتصر العثمانيون في معركة جناق قلعة، ذهب وفد من 30 عالماً من علماء بلاد الشام وأدبائها، بينهم ثمانية من علماء فلسطين، إلى إسطنبول في 28 أيلول/ سبتمبر 1915، للتهنئة بالانتصار على الحلفاء. وحتى 1916، كان ما يزال الولاء للعثمانيين قوياً والآمال كبيرة.
الوقفة الرابعة: تزايد الشعور لدى الزعامات العربية أن القيادات الممسكة بزمام الدولة العثمانية، لم تلتزم بوعودها الإصلاحية، بينما أدت ممارسات جمال باشا “السفاح” في بلاد الشام تجاه قيادات ورموز إصلاحية عربية؛ إلى إيجاد أجواء جديدة من النفور والإحباط والعداء. وفي الوقت نفسه، تواصل البريطانيون مع الشريف حسين في مكة ليشجعوه على الثورة على العثمانيين، وتواصل هو بدوره مع زعماء الجمعيات العربية في الشام ليشتركوا معه في الثورة. وبغض النظر عن التفصيلات التي يعرفها الكثيرون، فإن بريطانيا هدفت إلى إضعاف الشرعية الدينية العثمانية، وإلغاء تأثير إعلان الجهاد الذي أعلنه السلطان العثماني، وإلى تعميق الشرخ بين العرب والأتراك، وإضعاف الروح المعنوية وإرادة القتال لدى العثمانيين، في الوقت الذي كانت بريطانيا ترتب فيه سراً اتفاقيات سايكس بيكو مع الفرنسيين والروس، وتتفاوض مع الصهاينة لإصدار وعد بلفور. أما الشريف حسين، فكان يحلم بإنشاء دولة “خلافة” عربية في المشرق العربي.
الوقفة الخامسة: بعد أن أعلن الشريف حسين ثورته في حزيران/ يونيو 1916، أصبح المشهد مربكاً جداً للإنسان العادي. فقد استخدمت الثورة مسوغات إسلامية دينية، بالإضافة إلى الخلفيات العروبية لتبرير انطلاقتها. قفي إحدى المنشورات الموجهة من الشريف حسين، والتي ألقتها الطائرات البريطانية مستهدفة الجنود العرب في الجيش العثماني، يقول الشريف: “هلموا للانضمام إلينا نحن الذين نجاهد لأجل الدين وحرية العرب، حتى تصبح المملكة العربية كما كانت في عهد أسلافكم”.
وفي مثل هذه الأجواء، أخذت تتنازع الناس آمال باستعادة أمجاد “الخلافة” تحت زعامة رجل من بني هاشم، بالتحالف مع البريطانيين (ولا غرابة فقد تحالف الأتراك مع الألمان)، وبعد أن انقض الاتحاديون على الخلافة العثمانية فأفرغوها من محتواها ومصداقيتها. كما كانت تتنازع الناس – في المقابل – الرغبة في البقاء مع الأتراك تحت الدولة العثمانية على أمل الإصلاح في إطارها، ولعدم ثقتهم بقدرات وإمكانات الثورة، ولأن البريطانيين لا يؤمن جانبهم، ولما أخذ يظهر من “إشاعات” حول تقسيم المنطقة وفق سايكس بيكو، وتسليم فلسطين لليهود.
الوقفة السادسة: بالرغم مما تسرب عن سايكس بيكو ووعد بلفور، فقد مضى البريطانيون في عملية الخداع والتضليل حتى النهاية. فبالإضافة إلى مراسلاتهم مع الشريف حسين التي فهم منها تأييدهم لقيام دولة عربية بقيادته في المشرق العربي (تدخل فلسطين في حدودها)… فقد صدرت تطمينات هوجارث في كانون الثاني/ يناير 1918، والتصريح البريطاني للسوريين السبعة في حزيران/ يونيو 1918، والتصريح الإنجلو فرنسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918. وكلها يفهم منها استقلال العرب وحكمهم لأنفسهم بأنفسهم، وعدم إضرار الهجرة اليهودية بهم، ففهموا منها أنها صارت ناسخة لسايكس بيكو ووعد بلفور لأنها صدرت بعدها… فأيدت أعداد متزايدة الثورة، فتابع البريطانيون مهمة احتلال فلسطين وباقي بلاد الشام، وقد تمكنوا من تحييد قطاعات كبيرة من الناس، بينما أسهمت هجمات قوات الثورة في الحجاز وفي شرق الأردن في إحداث خسائر كبيرة في الجيش العثماني، وإضعاف روحه المعنوية، وفي اتساع ظاهرة الهرب من الجندية، وفي حماية ميمنة الجيش البريطاني. وخسر العثمانيون حتى آذار/ مارس 1918 نتيجة الثورة نحو 4,800 قتيل و16 ألف جريح و8 آلاف أسير، حسبما يذكر المؤرخ جورج أنطونيوس.
الوقفة السابعة: ومع ذلك فقد ظلت قطاعات لا بأس بها، حتى نهاية الحرب مؤيدة للعثمانيين، فاستمرت أعداد من الفلسطينيين والعرب في الجيش العثماني. وكان لحلول جمال باشا المرسيني (الصغير) مكان جمال السفاح أوائل 1918 أثر إيجابي (وإن كان متأخراً)، حيث نالت شخصيته وكفاءته احترام وتقدير الناس، فاستعاد العثمانيون بعض الشعبية والثقة. وحتى حزيران/ يونيو 1918، تعترف تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية في فلسطين بأن جهود التجنيد في جيش الشريف لم تكن ناجحة جداً، وأن “عدداً من المسلمين يقولون إنهم لا يرون لماذا يجب أن يقاتلوا لإعطاء فلسطين لليهود”. وحتى قبيل احتلال البريطانيين لباقي فلسطين في أيلول/ سبتمبر 1918، كانت ما تزال هناك مشاعر مؤيدة للعثمانيين اعترفت بها تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية في العديد من مناطق فلسطين. كما تصاعدت مشاعر القلق وانعدام الثقة تجاه البريطانيين بعد احتلالهم للقدس (9/12/1917)، نتيجة فتح الأبواب للمشروع الصهيوني.
الوقفة الثامنة: بالرغم من سقوط الدولة العثمانية، وانحسار ظلها عن فلسطين (وباقي المشرق العربي)، فقد ظلّ ثمة اتجاه يعتقد أن زوال النفوذ العثماني كان ضربة للإسلام والمسلمين. كما تزايدت حالة الإحباط مما آلت إليه ثورة الشريف حسين، ومن نقض الإنجليز لعهودهم. وعلى سبيل المثال، فبعد سنة من الاحتلال البريطاني، رفعت الجمعية الإسلامية المسيحية في نابلس مذكرة للأمير فيصل بن الشريف حسين ومعتمدي دول الحلفاء (بريطانيا، فرنسا…) بأن الأهالي قد استولى على قلوبهم اليأس من قضية نجاح (ما يسُمِّيه الحلفاء) تخليص الشعوب المظلومة، وباتوا يذكرون ماضيهم، أي العهد العثماني، بكل خير ويتمنون عودته.
وإثر انتصارات الأتراك على اليونانيين وتحرير أزمير في أيلول/ سبتمبر 1922 زُينت شوارع القدس بصور أتاتورك، وعمّ الحماس له سائر أرجاء فلسطين باعتباره “منقذ الإسلام”. وأقيمت الاحتفالات في نابلس وغزة، ورفعت الأعلام التركية، وأقيمت صلاة الشكر في المساجد، بما فيها المسجد الأقصى، وجمعت التبرعات للمتضررين الأتراك. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1922، أرسلت 45 شخصية فلسطينية برقية لأتاتورك، يطالبون فيها بالاستقلال التام لفلسطين تحت انتداب الحكومة التركية.
غير أن إعلان أتاتورك للجمهورية التركية سنة 1923، وإلغاءه للخلافة سنة 1924، قد أفقده الكثير من الوهج الذي رافقه، وأدى إلى تراجع تلك المشاعر التي تَحِنُّ للعثمانيين وأيامهم، وقطع الطريق على إمكانية عودتها، بعد أن مضت تركيا “العلمانية” في طريقها.
المصدر: موقع عربي 21، 7/12/2018
أضف ردا