بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
كما يوافق يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر ذكرى انطلاق الانتفاضة المباركة (الأولى) سنة 1987، فإنه يوافق أيضاً ذكرى الاحتلال البريطاني للقدس سنة 1917. في ذلك اليوم، أنهى البريطانيون نحو سبعة قرون من الحكم الإسلامي المتواصل للقدس بعد تحريرها من الصليبيين. لقد أعلنت الدولة العثمانية الحرب على بريطانيا في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1914، وبعد أربع سنوات بالتمام والكمال (31 تشرين الأول/ أكتوبر 1918)، وضع اتفاق إنهاء الحرب معها موضع التنفيذ؛ ولكن بعد أن استكملت بريطانيا احتلال فلسطين وباقي بلاد الشام والعراق، بينما كان يتم ترتيب انسحاب العثمانيين مما تبقى من اليمن والحجاز.
نتابع اليوم بعض الوقفات حول مشهد سقوط القدس، بعد أن تحدثنا في مقال سابق عن مشهد انتهاء الحكم العثماني في فلسطين.
الوقفة الأولى: بالرغم من حالة الضعف والإنهاك الذي كانت تعاني منه الدولة العثمانية، إلا أن الاحتلال البريطاني لفلسطين لم يكن مهمة سهلة كما يظن البعض. ففي السنتين الأوليين للحرب كان الوضع البريطاني على جبهة فلسطين صعبا، وكانت اليد العليا في المبادرة والهجوم للعثمانيين، فقد نفذوا هجومين كبيرين على القوات البريطانية في مصر؛ وظلوا يسيطرون على أجزاء من سيناء طوال الفترة 1915- 1916. ولم تتمكن القوات البريطانية من استعادة سيطرتها على سيناء إلا أواخر 1916، حيث سيطرت على العريش في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1916، ورفح المصرية في 8 و9 كانون الثاني/ يناير 1917.
الوقفة الثانية: بدأ البريطانيون محاولاتهم لاحتلال فلسطين في ربيع 1917، وقد أمنوا ظهورهم في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتشكَّل حزام عربي مؤيد لهم من البحر الأحمر وحتى الخليج العربي. وبعد أن سقطت بغداد بأيديهم في 11 آذار/ مارس 1917، بالإضافة إلى تزايد التأييد في بلاد الشام لثورة الشريف حسين؛ التي تعني عملياً في ذلك الوقت تأييداً لقدوم البريطانيين أنفسهم، وما تسببت هذه الثورة به من متاعب للعثمانيين.
أما الهجوم البريطاني الأول على فلسطين فيما يُعرف بمعركة غزة الأولى (25-27 آذار/ مارس 1917) فقد مُني بفشل كبير، بالرغم من أن القوات البريطانية كانت خمسة أضعاف القوات العثمانية وأفضل إعداداً وتسليحاً. وقد خسر البريطانيون باعتراف قائد جيشهم على جبهة فلسطين الجنرال (Murray) موراي 4,450 قتيلاً وجريحاً. كما فشل الهجوم الثاني البريطاني في معركة غزة الثانية في 18- 19 نيسان/ أبريل 1917، حيث خسروا نحو ستة آلاف بين قتيل وجريح وأسير، بينما خسر العثمانيون 1,670 قتيلاً وجريحاً ومفقوداً. وإثر هذين الفشلين، قامت القيادة البريطانية بإزاحة موراي، وتعيين الجنرال ادموند اللنبي (Allenby) مكانه في 28 حزيران/ يونيو 1917.
الوقفة الثالثة: بدأت المعارك التي انتهت بالاحتلال البريطاني لجنوب فلسطين حتى خط يافا – القدس في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 1917، حيث أعاد اللنبي إعداد الجيش البريطاني للهجوم بنحو 100 ألف مقاتل (من غير خدمات الإسناد والدعم) مقابل 20 ألف مقاتل عثماني. وكان الجيش البريطاني لا ينقصه شيء من لباس وطعام وسكن ورعاية صحية، بينما كان الجيش العثماني يعاني وضعاً صعباً على صعيد القيادة والتسليح والإمكانات والتموين، وكان الجندي العثماني، كما يصفه المؤرخ الفلسطيني خليل السكاكيني حسبما كتب في مذكراته في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 “جائعاً، رث الثياب، ممزق الحذاء، لا شيء يقيه من المطر والبرد، قائماً وراء مدفعه يتقفقف من البرد، ويتضور من الجوع، فلا يجد غير كسر الخبز اليابس”!!
تمكن البريطانيون من احتلال بئر السبع في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1917، واحتلال غزة بعد ذلك بأسبوع، واللد والرملة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، ويافا في اليوم التالي. وأسهمت العمليات العربية في عزل القوات العثمانية في معان وتبوك والحجاز، حيث عزلوا نحو 23 ألفاً من القوات العثمانية.
الوقفة الرابعة: في 8 كانون الأول/ ديسمبر، أصبح الوضع حرجاً للقوات العثمانية في القدس، وشعر علي فؤاد، قائد الفيلق العشرين، باستحالة الدفاع عنها، وقرر إخلاءها حتى لا تتعرض مقدساتها للتدمير. وبعد الظهر، سلم رئيس بلدية القدس حسين الحسيني وثيقة التسليم إلى قائد الفرقة البريطانية العاشرة. وبعد الظهيرة، دخل الجيش البريطاني المدينة من ثلاث جهات. أما دخول اللنبي الرسمي للقدس فكان في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1917، بمشاركة قائدي القوات الفرنسية والإيطالية الرمزية التي شاركت في المعارك. وفي المدينة رُفعت أعلام بريطانيا، بينما غاب مندوبو “الثورة العربية” التي لم يرتفع علمها على الإطلاق. ولم تَفُت هذه الملاحظة على الجماهير العربية التي آلمها ذلك. وقد أورد إميل الغوري في مذكراته؛ أن اللنبي في خطابه بمناسبة احتلال القدس، والذي ألقاه في زعماء البلد ووجهائها في ذلك اليوم، تحدث عن الحروب الصليبية، منهياً كلامه: “والآن انتهت الحروب الصليبية”… مما أثار جواً من الاستياء؛ دَفعّ مفتي القدس كامل الحسيني للانسحاب من “الاحتفال”، وتبعه كثيرون احتجاجاً على ذلك.
تُظهر خسائر معارك احتلال جنوب فلسطين بما فيها القدس (31 تشرين الأول/ أكتوبر-11 كانون الأول/ ديسمبر 1917) التي استمرت نحو ستة أسابيع أن البريطانيين واجهوا مقاومة عنيفة، بالرغم من تفوقهم الهائل في الإمكانات، إذ اعترف البريطانيون (حسب وثائقهم) بوقوع 19 ألف إصابة بينهم، بينما قدروا الخسائر العثمانية بـ15 ألف قتيل و12 ألف أسير.
الوقفة الخامسة: انتظر البريطانيون أكثر من تسعة شهور حتى تمكنوا من احتلال باقي فلسطين، فقد حاولوا الهجوم باتجاه شرقي الأردن وشمالي فلسطين في الفترة بين 22 آذار/ مارس و 3 نيسان/ أبريل 1918، لكن الهجوم انتهى بالفشل. وعندما أطلق البريطانيون هجومهم الحاسم في 19 أيلول/ سبتمبر 1918، كان جيشهم بقيادة اللنبي يبلغ 468 ألفاً، بينهم نحو 100 ألف مقاتل. ومن اللافت للنظر أن مقاتلي الجيش من الهنود كانوا أكثر من البريطانيين أنفسهم (51,400 هندي مقابل 48,400 بريطاني)، وكان في وحدات الدعم والإسناد اللوجيستي المختلفة نحو 112 ألف هندي و227 ألف بريطاني. كما تمّ تشغيل 129 ألف مصري في الخدمات، ولكن لم يكن بينهم مقاتلون. وهنا يلاحظ أن الاستعمار البريطاني لجأ إلى استغلال مستعمراته في الهند ومصر، واستخدام أبنائها وقوداً لحروبه وخدمةً لمصالحه.
أما الجيش العثماني، فكان مجموعه 104 آلاف بينهم 29 ألف مقاتل. وكان يتولى حماية شمال فلسطين الجيش السابع بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك) في نابلس، والجيش الثامن بقيادة جواد باشا في طولكرم، والجيش الرابع بقيادة جمال باشا في عمّان.
أنهى البريطانيون احتلال باقي فلسطين خلال أسبوع تقريباً من بدء هجومهم، واحتلوا باقي بلاد الشام خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1918.
أما المحصلة النهائية لخسائر البريطانيين في حرب فلسطين، منذ بدايتها وحتى نهايتها، فقد اعترف وزير الحرب البريطاني إيفانز لاحقاً (في جلسة لمجلس العموم سنة 1922) أنها كلفت الجيش البريطاني 16,366 قتيلاً، و38,090 جريحاً. وهو أكثر مما اعترف الصهاينة بتكبده في حروبهم وخسائرهم طوال السبعين سنة الماضية، منذ حرب 1948 وحتى الآن (2018)!!
الوقفة السادسة: أنه بالتأكيد كان تأثير الثورة العربية بقيادة الشريف حسين كبيراً، كما أشرنا سابقاً، فقد ضرب ذلك معنويات الجيش العثماني، وتسرب الكثير من جنوده، وعولت أعداد متزايدة من الناس مع اقتراب نهاية الحرب؛ على إنشاء الدولة العربية الموعودة، ونظرت قطاعات كبيرة منهم للبريطانيين كحلفاء وليس كأعداء، وهو ما سهَّل بشكل هائل تنفيذ البريطانيين لمخططاتهم. وكان اللنبي قد أرسل إلى رئيس الأركان البريطاني في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1917 (قبيل هجومه بثلاثة أسابيع)، مشيراً إلى أن كل حساباته في احتلال جنوب فلسطين مبنية على أساس أن وضع العرب سيستمر مرضياً، وأن رجال الشريف حسين سوف يغطون جناحه واتصالاته من الجهة الشرقية، وأكد أن استمرار دعمهم “يعتمد على استمرار اعتقادهم بأننا سنفي بعهودنا”، وهو ما يشير ضمناً إلى ضرورة استمرار عملية الخداع البريطاني لحلفائهم العرب ضدّ العثمانيين.
ومع ذلك، فإن أعداداً لا بأس بها من أهل فلسطين (وباقي البلاد تحت الحكم العثماني) ظلوا على ولائهم للعثمانيين؛ لعدم ثقتهم بالبريطانيين، وربما لشكهم في جدوى ثورة الشريف حسين. وبحسب المؤرخ الفلسطيني الذي عايش تلك الفترة، إحسان النمر، فإن كثيراً من الفارين من الجيش العثماني، في منطقة نابلس، عندما علموا بوعد بلفور وسايكس بيكو، عادوا للتطوع في الجيش العثماني. كما أن التقارير البريطانية نفسها تشير إلى أن عدداً من المناطق والقبائل ظلت على ولائها للعثمانيين، حتى بعد الاحتلال البريطاني لجنوب فلسطين وقبيل الاحتلال البريطاني للجزء الشمالي منها.
الوقفة السابعة: أن الإجماع الفلسطيني لم يتزحزح طوال الوقت في العداء للمشروع الصهيوني، وأن المشاعر المعادية للبريطانيين زادت بسرعة، مع انكشاف خداعهم، ونكثهم لوعودهم وتبنيهم العملي للمشروع الصهيوني. فسرعان ما أخذت تتشكل جمعيات سرية ذات طبيعة عسكرية، خلال الأشهر الأولى من استكمال الاحتلال البريطاني لفلسطين، لتكون ذراعاً ضارباً في حال نشوب ثورة في البلاد. فنشأت منذ مطلع 1919 جمعية “الفدائية” التي كان اسمها في البداية “الكف الأسود”، وكان مركزها في يافا، ولها فروع في القدس والخليل ونابلس وطولكرم والرملة وغزة. واعترف تقرير للمخابرات البحرية البريطانية في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919 بتزايد الشعور المؤيد للأتراك وسط المجتمع المسلم، وأن كل الطبقات الدنيا والوسطى تؤيدهم، وأنه يجري توزيع أوراق تدعو للفكرة الإسلامية، وأن العداء يزداد في كل فئات المجتمع ضد الصهيونية، وأن الحركة قد اتخذت شكلاً معادياً جداً للبريطانيين.
ولم يطل الأمر حتى استعادت الحركة الوطنية الفلسطينية قدرتها على المبادرة، وبُعدها العربي والإسلامي، ووحدت صفها نحو المطالبة بإنهاء الاحتلال البريطاني وإلغاء المشروع الصهيوني. كما لم يطل الأمر حتى كانت أولى انتفاضات الشعب الفلسطيني تتفجر في نيسان/ أبريل 1920، وهي الانتفاضة المعروفة باسم انتفاضة القدس أو انتفاضة موسم النبي موسى.
المصدر: موقع عربي 21، 21/12/2018
أضف ردا