بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يظهر أن نتنياهو سيظفر بولاية خامسة لرئاسة الوزراء، بحسب النتائج شبه النهائية للانتخابات الإسرائيلية، وسيقف إلى جانب بن غوريون الزعيم المؤسس للكيان الصهيوني، في طول المدة التي قضاها رئيساً للوزراء؛ حيث أتم نتنياهو 13 عاماً (الفترة 1996-1999، والفترة 2009-2019). وهو إنجاز كبير في البيئة السياسية الإسرائيلية، التي تتميز بكثرة الأحزاب، وبكثرة الانشقاقات والاندماجات، وبكثرة المناورات والمناكفات السياسية، مع قدرة كبيرة على التعايش في إطار المشروع الصهيوني.
نقف هنا عدداً من الوقفات كقراءة أولية لنتائج الانتخابات الإسرائيلية التي عقدت مؤخراً في 9/4/2019:
الوقفة الأولى: أن نتنياهو تمكن بما لديه من خبرة، وبما عُرف عنه من حنكة ودهاء، من تجاوز تحدي الانتخابات بنجاح كبير. فبالرغم من أنه جاءها وملفات اتهامه بالفساد جاهزة لرفعها لمحاكمته؛ إلا أنه تجاوز كل بيئة الاتهامات، وظلت أغلبية كبيرة ترى أنه المؤهل لرئاسة الوزراء، حتى من غير مؤيدي حزبه (الليكود). بل وتمكَّن من إضافة ستة مقاعد إلى مقاعد الليكود لتصبح 35 مقعداً. ونجح في تجاوز أو تحجيم القوى الأكثر يمينية، التي كانت تتهمه بالضعف؛ فسقط نفتالي بينيت وحزبه “اليمين الجديد”؛ كما سقط حزب “هوية” الذي يرأسه موشيه فاغلين النائب الليكودي السابق. وتراجع حزب “كلنا” برئاسة موشيه كحلون وزير المالية في الحكومة السابقة من عشرة مقاعد إلى أربعة فقط. وبالتالي ظلَّ نتنياهو متربعاً كـ”مَلِك”ٍ على اليمين الصهيوني؛ الذي لا يملك مرشحاً سواه لرئاسة الوزراء. أما الأحزاب الدينية التي حصلت على 16 مقعداً؛ فهي بالتأكيد ستميل إلى نتنياهو في أي تشكيل حكومي، لتقاربها السياسي العام معه.
الوقفة الثانية: أن المسار العام للانتخابات في العشرين عاماً الماضية، يؤكد ازدياد يمينية وتطرف المجتمع الصهيوني في الكيان الإسرائيلي؛ وتفتُّت وانزواء ما يُعرف بمعسكر “اليسار”، الذي أخذ هو نفسه يأخذ صبغة يمينية، ويتبنى رؤى وجدليات “يمينية”. وجاء السقوط المدوي لحزب العمل في هذه الانتخابات بحصوله على ستة مقاعد فقط، بعد أن كان يقود “المعسكر الصهيوني” بالتحالف مع تسيبي ليفني، الذي يملك 24 مقعداً. مع العلم أن حزب العمل (بأشكاله المختلفة) هو الذي قاد الحياة السياسية الإسرائيلية، منذ إنشاء الكيان الصهيوني 1948 وحتى 1977. وفي الوقت نفسه، يجب أن لا تفوتنا ملاحظة أن تسميات اليمين واليسار والوسط في “إسرائيل” هي تسميات لا تُعبر بالضرورة عن المصطلحات والمدلولات العلمية المتداولة، ولكنها تستخدم لتقريب الصورة. إذ إن “الصهيونية التوفيقية” التي تُعلي الشأن اليهودي الصهيوني هي التي تحكم الجميع.
الوقفة الثالثة: أن تنياهو استفاد من رصيد “منجزاته” على الصعيد الإسرائيلي؛ فالاقتصاد الإسرائيلي في أحسن أحواله، ويزيد معدل الدخل السنوي للفرد عن أربعين ألف دولار، وبرامج التهويد والاستيطان تجري على قدم وساق، بينما تقوم السلطة الفلسطينية في رام الله بـ “واجباتها” المطلوبة منها إسرائيلياً، وعلى رأسها التنسيق الأمني. وفي الوقت نفسه، تزداد معالم “يهودية” الكيان الصهيوني وعنصريته وتطرفه، ويتم تثبيت ذلك في قوانين ونصوص “فوق دستورية”، وعلى رأسها قانون “يهودية الدولة” الذي أجيز السنة الماضية. كما أن السياسة الأمريكية بقيادة ترامب هي أكثر تماهياُ مع الليكودية اليمينية المتطرفة؛ فقامت بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ونقلت سفارتها إليه؛ وهي تسير في خطى حثيثة لتطبيق ما يُعرف بـ”صفقة القرن” باتجاه تصفية القضية الفلسطينية.
غر أنه كان لافتاً للنظر التدخل الأمريكي لدعم نتنياهو من خلال تقديم منجز تاريخي له بين يدي الانتخابات، وهو الاعتراف الأمريكي بضم الكيان الإسرائيلي للجولان السوري المحتل منذ سنة 1967. كما كان لافتاً أن يقوم الروس بتسليم رفات الجندي الإسرائيلي، الذي ظلت جثته مدفونة في سورية طوال الـ 37 سنة الماضية قبل الانتخابات أيضاً. وهو ما يشير إلى أن قوى كبرى كانت تدعم فوز نتنياهو، وقامت ببعض الخطوات المهمة، عندما أظهرت استطلاعات الرأي تقدّم بني غانتس (حزب أزرق أبيض) عليه.
وفي الوقت نفسه، تمّ إظهار خطوات تطبيعية مع عدد من الأنظمة العربية. كما زاره قُبيل الانتخابات رؤساء البرازيل وقبرص واليونان وهنغاريا وتشيكيا وتشاد.
الوقفة الرابعة: أنه مع تكرُّس يهودية الدولة، وازدياد القوانين العنصرية، أصبح فلسطينيو 1948 أكثر يأساً من إمكانية تحصيل أي مكاسب من خلال المشاركة في الانتخابات والمنظومة السياسية الإسرائيلية. وانضم الكثيرون إلى الحركة الإسلامية (الشمال)، وحركة أبناء البلد في مقاطعة الانتخابات؛ وهبطت نسبة المشاركة في التصويت من 63% إلى نحو 50%. كما أن انقسام القائمة العربية، التي نزلت بشكل موحد في الانتخابات الماضية إلى قائمتين، أسهم في إضعاف قوة الدفع في الوسط الفلسطيني، فانخفض عدد المقاعد التي تم تحصيلها من 13 مقعداً إلى عشرة مقاعد.
الوقفة الخامسة: أن مسار التسوية السلمية، وفق اتفاقيات أوسلو، يلفظ أنفاسه الأخيرة (هذا مع ميلنا مع عدد من المحللين، إلى أنه مات منذ أمد بعيد؛ وما ينتظره فقط هو الإعلان الرسمي للوفاة). فقد نجح الكيان الإسرائيلي في “إدارة” التسوية، وفي استخدامها كغطاء لتوسيع التهويد والاستيطان، وفي توظيف قوى فلسطينية “تؤمن بالتسوية” في قمع قوى المقاومة؛ والقيام بالمهام “القذرة” التي يحتاجها الاحتلال. ومع ظهور نتائج هذه الانتخابات، يلاحِظ “كبير المفاوضين الفلسطينيين” صائب عريقات أن المجتمع الصهيوني صوَّت ضدّ “السلام” وضدّ مسار التسوية السلمية؛ فلم يفز سوى 18 عضواً من أصل 120 عضواً ممن يؤيدون حلَّ الدولتين. وهكذا وجدت قيادة السلطة الفلسطينية نفسها بعد أن غامرت بأوسلو وتنازلت عن معظم فلسطين، أنها كانت كالنعامة التي ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين!!
أما الحل الذي يقدمه نتنياهو ومجتمعه الصهيوني فلن يتجاوز حكماً ذاتياً (تحت مسمى الدولة) فاقداً للسيادة، فاقداً للقدس، فاقداً لحق عودة اللاجئين، فاقداً لأجزاء واسعة من الضفة الغربية… يتم تسويقه بالتنسيق مع إدارة ترامب، التي تضغط لتطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والبلاد العربية، وتجاوز الملف الفلسطيني، ومحاولة فرض ما يُعرف بـ”صفقة القرن”.
من ناحية سادسة، فعلى المقاومة الفلسطينية وخصوصاً في قطاع غزة، أن تتوقع بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية، مزيداً من الضغوط، ومزيداً من محاولات تطويع القطاع ونزع سلاحه. ومع أن الطرف الإسرائيلي لا يرغب بأن تتحقّق وحدة سياسية بين الضفة والقطاع فإن ما هو أهم بالنسبة له إنهاكُ وإنهاءُ وإسقاطُ تجربة المقاومة في القطاع. ولعله سيتابع ضغطه بتصعيد بعض أشكال الحصار، لتشجيع إيجاد بيئات ساخطة بين الناس في القطاع، تستغلها القوى المعادية لحماس والمقاومة لمحاولة إسقاطها. وقد يصل الأمر بالإسرائيليين إلى تنفيذ اغتيالات للقادة والرموز وتوجيه “ضربات نوعية”؛ لكن الإسرائيليين سيظلون مترددين في الدخول في حرب شاملة نظراً لكلفتها الباهظة، ولاحتمالات فشلها. ولا تملك المقاومة إلا أن تتعامل بمزيد من الحكمة في استيعاب الناس وهمومهم، وبمزيد من الجهود لتوسيع دائرة التحالفات الوطنية لحماية المقاومة، وبمزيد من حسن التدبير والقوة والحزم في مواجهة العدو الصهيوني.
المصدر: موقع “عربي 21″، 12/4/2019
أضف ردا