بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يبدو لمن يحاول أن يعرف حقيقة “صفقة القرن” أو “صفقة العصر” التي ظهرت تسريبات أمريكية حولها، كمن يطارد مجموعة من الأشباح والأوهام.
منذ نحو سنتين بدأت تظهر تصريحات أمريكية حول مشروع تسوية سلمية نهائية للقضية الفلسطينية، وتعددت تصريحات صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر Jared Kushner والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط جيسون جرينبلات Jason Greenblatt حول الصفقة، وتعددت التسريبات الإعلامية، دون أن يُعلن عن محتواها أو بنودها رسمياً حتى الآن.
اللافت للنظر أن العالم انشغل بها، وأخذ يناقشها باحثون ومحللون وسياسيون وخبراء دون أن يكون بين أيديهم مادة رسمية يستندون إليها. والطرف الأمريكي تعمَّد لعبة الغموض والتأجيل.. فأعلن مراراً أنه سيطلقها ثم ما يلبث عندما يقترب الموعد أن يعلن عن تأجيلها لأسباب مختلفة مرتبطة عادة بظروف سياسية أو بظروف المنطقة. فقد كان ثمة توقعات عن إطلاقها في كانون الثاني/ يناير 2018، ثم أجلت للشهر التالي، ثم الذي بعده، ثم إلى أيار/ مايو. وتواصل التأجيل ليعلن أنه سيكشف عنها بعد الانتخابات النصفية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، ثم إلى مطلع 2019، ثم إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في نيسان/ أبريل 2019، ثم إلى حزيران/ يونيو، ثم إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية التي ستعقد في منتصف أيلول/ سبتمبر 2019. وطوال تلك الفترة لم يتم الإعلان إلا عن الشّق الاقتصادي للصفقة في ورشة البحرين التي عقدت في 25 حزيران/ يونيو 2019، والذي جاء مخيباً تماماً لمن يعقد عليه الآمال، وسط مقاطعة فلسطينية ومقاطعة عربية واسعة. أما الشق السياسي الأهم فلم يكشف بعد.
وهكذا، يجد المرء نفسه يطارد “أشباحاً”، ويحاول أن يرسم بنفسه اللوحة التي يتخيلها للصفقة.
لا يبدو الأمر سلوكاً أمريكياً “بريئاً”؛ إذ إن كل المعطيات والتسريبات التي بين أيدينا، والسلوك الأمريكي على الأرض؛ يشيران إلى أنه ليس هناك “صفقة” حقيقية، ولا تسوية تاريخية بين طرفين. وأننا أمام اسم زائف، يحاول أن يبيع “الأوهام”. وأننا أمام سلوك تاجر”وقح نذل” يعلم أن بضاعته فاسدة لا سوق لها، فيلجأ إلى استخدام مصطلحات وشعارات رنانة فارغة من مضمونها. ويحاول أن يستفيد من حالة الغموض والشائعات والتسريبات لإيجاد بيئة فلسطينية وعربية متكيفة نفسياً مع متطلبات الصفقة، أو تشعر بالضعف والعجز أمام “الشبح” القادم الذي لا يمكن مقاومته أو تحديه!!
الصفقة تكون بين طرفين، والطرفان المعنيان أساساً (الفلسطينيون والعرب مقابل الإسرائيليين) لم يعرض عليهما شيء رسمي حتى الآن. ولفظة “القرن” أو “العصر” تدل على إنجاز تاريخي عظيم، وكل ما تسرب، ربما كان تاريخياً بالنسبة للصهاينة إن تم، ولكنه كارثي بالنسبة للفلسطينيين.
على ما يبدو، فإن الطرف الأمريكي الذي يعلم أن مضامين صفقته مرفوضة فلسطينياً، لجأ إلى تكتيك الالتفاف على الفلسطينيين من خلال التواصل مع الأنظمة العربية الفاعلة (مصر، والسعودية، والإمارات، والأردن..)، وتحديداً ما يعرف بمحور “الاعتدال” العربي المعروف بارتباطه بالولايات المتحدة، لتحقيق قبوله بالصفقة، وبالتالي عزل الطرف الفلسطيني والاستفراد به لفرض “الصفقة” عليه. وهو في الوقت نفسه يعمل على دمج “إسرائيل” في البيئة العربية، و”تطبيع” علاقاتها الرسمية، ويحولها إلى “شرطي المنطقة”، دونما حاجة لتسوية مع الفلسطينيين.
وفي هذه البيئة يسهل الانتقال إلى “تصفية” القضية دون ضرورة الوصول إلى “تسوية” متفق عليها، ويتم إسقاط قوى المقاومة، كما يتم مطاردة كافة حركات الإصلاح والتغيير والنهضة، وخصوصاً ما يعرف بـ”الإسلام السياسي”، في الوقت الذي تُشغل فيه المنطقة العربية بصراعات طائفية عرقية، تستنزف فيها ثرواتها وإمكاناتها.
ومن جهة أخرى، فالطرف الأمريكي يبدو أنه غير معني بإقناع الطرف الفلسطيني بما لديه، وإنما بموافقة الطرف الإسرائيلي، وبالتالي ترتيب الأوضاع بما يتوافق مع إرادة وشروط ومواصفات الصهاينة. ولذلك، فقد بدأ بإجراءاته على الأرض لحسم مصير كل الملفات المعلقة أو “المستعصية”؛ فاعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارته إليها. وهو الآن يسعى لتصفية حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة من خلال محاولة إلغاء الأونروا، والضغط على الدول المستضيفة (خصوصاً الأردن، ولبنان) بتوطين اللاجئين. وهو بذلك يسعى لإنشاء الحقائق على الأرض والتي يراهن أن البيئة العربية والدولية ستتقبلها مع الزمن. وخلال هذه الفترة يتابع الناس مطاردة أوهام “صفقة القرن” وأشباحها!!
* * *
وعلى ذلك، ومن خلال استقراء التصريحات والتسريبات الأمريكية على مدى السنتين الماضيتين، مع السلوك الأمريكي على الأرض، فلعلنا نخرج بخمسة معالم أساسية لما يسمى “صفقة العصر”، وما دون ذلك هو تفصيلات تندرج تحتها:
أولاً: الانتقال من “تسوية” القضية الفلسطينية في إطار “اتفاق سلام”، إلى “تصفية” القضية في إطار فرض الحقائق على الأرض. وشطب كل قضايا “الحل النهائي” من خلال شطب حق العودة، وأن تكون القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وبقاء المستوطنات في الضفة، والهيمنة على الحدود ومصادر المياه والمجال الجوي..
ثانياً: إسقاط مشروع “حل الدولتين”، وإنشاء حكم ذاتي للفلسطينيين (يمكن أن يسمى دولة!!)، في قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، بحيث تكون السيادة الحقيقية للكيان الصهيوني.
ثالثاً: فكرة السلام الاقتصادي من خلال التركيز على مشاريع التنمية الاقتصادية، والقفز عن حقيقة وجوهر الصراع في المنطقة مع المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأرض والإنسان، ويُعطل مشاريع النهضة الحقيقية في الأمة.
رابعاً: التطبيع قبل التسوية: من خلال إقامة علاقات رسمية مع الأنظمة العربية قبل الوصول إلى تسوية سلمية متفق عليها بين قيادة منظمة التحرير وبين الكيان الصهيوني؛ وهو ما كانت تشترطه الأنظمة العربية.
خامساً: حرف بوصلة الصراع: بحيث يدخل الكيان الصهيوني ككيان “طبيعي” في المنطقة، ويتحالف مع أنظمة “الاعتدال” العربي في مواجهة ما يسمى “التطرف والإرهاب” وتيارات “الإسلام السياسي”؛ أو في مواجهة إيران.. كما يشغل المنطقة بنزاعات طائفية عرقية تستنزفها بشرياً ومادياً، وتجعل من المشروع الصهيوني “سيّد” المنطقة، وعصاها الغليظة.
* * *
لا مجال في هذا المقال للتطرق إلى تفصيلات أخرى، ولا إلى الاستشراف والتوقعات، ولكننا نقول أنه بالرغم من خطورة الوضع، وبالرغم من تغوّل المشروع الصهيوني، وحالة الضعف والتخلف والانقسام العربي والإسلامي؛ فما زالت هناك عقبات كبيرة أمام الصفقة، وما زالت الأمة قادرة على إسقاطها وإفشالها، وما زال الشعب الفلسطيني صامداً وثابتاً على أرضه، ولا تستطيع أمريكا ولا “إسرائيل” فرض إرادتها عليه، وسينزع حقوقه طال الزمان أم قصر.
المصدر: موقع عربي 21، 30/8/2019
ان صفقة القرن التي ضهرت مؤخرا هي نتاج سياسة اسرائيلية واداء امريكي تم الاعداد والتخطيط لها على المدى البعيد، ولكن الاهم من ذلك هو عهر الانظمة العربية ؛”محور الاعتدل” التي تخلت عن مبادئ واخلاقيات وقيم شعوبها المشتركة وقبولها بصفقة القرن ، ولكن في المقابل سينقلب السحر على الساحر ومن استرعى الذئب فقد ظلم وسيخذل الجمع ويحق الحق ولو كره الكافرون …