بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لعل اتفاق أوسلو الذي عقد بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، يُسجل في التاريخ الحديث والمعاصر كأسوأ اتفاق يمكن أن يُعقد بين ممثلي شعب، تحت الاحتلال وبين قوة احتلال استعمارية.
26 عاماً مضت على اتفاق أوسلو، كان المفاوض الفلسطيني يظن أنه سيكون مدخلاً لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه وجد نفسه ينشئ سلطة حكم ذاتي توفر الغطاء لاحتلال “خمس نجوم”، تابع مشاريع التهويد والاستيطان ليقضي على حلم “حلّ الدولتين”، وليبقى على سلطة فلسطينية وظيفية تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم أهداف الشعب الفلسطيني.
إنها الورطة التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حين قال إن عرفات “ورط شعبه بمصيدة لا مخرج منها”، وأنه ألقى بنفسه بين الإسرائيليين والأمريكيين. (جريدة الحياة، 21/8/1995).
نختار في هذا المقال خمس وقفات مع تجربة أوسلو:
أولاً: ضرب وتقزيم المشروع الوطني الفلسطيني:
من أسوأ ما في هذا الاتفاق أن قيادة منظمة التحرير قدمت تنازلاً تاريخياً باعترافها بـ”حق إسرائيل في الوجود” وشرعية احتلالها لـ 77% من أرض فلسطين. وبالتالي أخرجت الأرض المحتلة سنة 1948 من دائرة الصراع والتفاوض. وفي المقابل لم تعترف “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني بما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، ولا يوجد في الاتفاق ما يشير إلى الضفة والقطاع كأراضٍ محتلة، ولا يوجد أي تعهد إسرائيلي بالانسحاب منها؛ ولا يوجد أي إشارة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو إقامة دولته المستقلة ولو على جزء من فلسطين.
أدى هذا الاتفاق إلى تقزيم المشروع الوطني الذي يهدف إلى تحرير فلسطين، وحصره في إنشاء سلطة حكم ذاتي، وتسعى لإقامة دولة في الضفة والقطاع، غير أن بقاءها وتطورها مرتبطٌ برضا الاحتلال وبإرادة الاحتلال. وبدا أن القيادة الفلسطينية تعاملت مع الاحتلال وكأنه “جمعية خيرية” تسعى بحسن نية للاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني. مع أن المُدْرَك الرئيسي للاحتلال الصهيوني أنه استعماري إحلالي توسعي عدواني، ينازعك على هوية الأرض والإنسان، ويسعى لسرقة التاريخ، كما يسعى لسرقة المستقبل.
وعندما تشكّل الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال؛ أصبحت “إسرائيل” عملياً هي “الحاضر الغائب” في قرار القيادة الفلسطينية؛ بينما انشغلت السلطة الفلسطينية بإدارة “الحياة تحت الاحتلال”، وليس بـ”إدارة إنهاء الاحتلال”.
هذا التقزيم أدى إلى غياب فلسطينيي الخارج عن أجندة القيادة الفلسطينية، والذين يشكلون نحو نصف الشعب الفلسطيني، فتراجع الاهتمام بهم، بالرغم من الإمكانات الهائلة التي يمتلكونها.
ومن ناحية ثالثة فإن منظمة التحرير نفسها انزوت جانباً، وتحولت إلى ما هو أشبه بدائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، ووُضعت في “غرفة الإنعاش”، ليتم استخدامها بين حين وآخر لشرعنة ممارسات القيادة الفلسطينية.
ثانياً: تسوية “مقلوبة”:
هذا الاتفاق من التسويات النادرة في التاريخ الاستعماري الذي لا تحسم فيه القضايا الأساسية، وتترك لعملية تفاوضية لاحقة. فعادة ما يتم أولاً حسم القضايا المرتبطة بانسحاب الاستعمار، والاستقلال وحق تقرير المصير، والسيادة. غير أن كارثة أوسلو أنها انشغلت بتفاصيل وجزئيات الحكم الذاتي، ولم تحسم القضايا الكبرى مثل: مستقبل القدس، مستقبل اللاجئين وحق العودة، مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفة والقطاع، حق تقرير المصير وحدود الدولة الفلسطينية، واستغلال الثروات الطبيعية وخصوصاً المياه.
وفي الوقت نفسه، ألزمت الاتفاقية الطرف الفلسطيني بوقف كافة أشكال المقاومة المسلحة، وحل كافة مشاكله ومتابعة مفاوضاته من خلال الوسائل السلمية فقط. وهكذا تحوّل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشروع بلا أظافر ولا أسنان، وافتقد أي وسيلة من وسائل الضغط التي تجعل الاحتلال مكلفاً وعديم الجدوى. ولأن الاتفاق أخرج مرجعية الأمم المتحدة والقرارات الدولية، ولم يتضمن أي آلية (دولية) ملزمة لتنفيذ الاتفاق؛ فقد أصبح مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني مرتهناً بالإرادة الإسرائيلية، وبالراعي الأمريكي “ومن استرعى الذئب فقد ظلم”!!
وهكذا، اكتسب الجانب الإسرائيلي مزايا إمكانية التسويف والتأجيل إلى “ما لا نهاية”. واستمتع بـ”إدارة” ملف التسوية، في الوقت الذي ينشئ فيه الحقائق على الأرض ليتمكن من حسم القضايا الجوهرية، لصالحه في نهاية الأمر.
ثالثاً: التأسيس للانقسام الفلسطيني:
هذا الاتفاق أسس لأكبر انقسام في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وما زالت آثاره العميقة قائمة حتى الآن. إذ استفرد فصيل فلسطيني (حركة فتح) بقرار مصيري، يتضمن تنازلاً تاريخياً عن معظم فلسطين، ويؤسس لتسوية سلمية مع العدو. وكان ذلك دون العودة للشعب الفلسطيني، ودون التوافق مع قواه الوطنية الأساسية، وحتى بمعارضة قوية من داخل فتح نفسها!!
شكلت قوى المقاومة التي رفضت الاتفاق تحالف “الفصائل العشر” مثَّل على الأرض تكتلاً شعبياً وسياسياً قوياً واسعاً على الساحة الفلسطينية؛ وتابع مسار المقاومة، وأصبحت السلطة الفلسطينية بالنسبة له عملياً عقبة في طريق المقاومة المسلحة. أما قيادة المنظمة والسلطة فكانت ترى في “أوسلو” طوق النجاة، وخريطة الطريق لإنشاء الدولة الفلسطينية. ولأنها ملتزمة بالوسائل السلمية، فقد رأت في المقاومة المسلحة إفساداً وتخريباً للحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة، ومعوّقاً يجب إسكاته وتحييده. وبالتالي قامت بقمع المقاومة ومطاردتها، ونسقت أمنياً مع الاحتلال ضدها.
ومنذ ذلك الوقت تكرس الخلل في إدارة الأولويات والمسارات بين خطي التسوية والمقاومة، وما حدث من انقسام سنة 2007 أدى لسيطرة حماس على القطاع وفتح على الضفة، لم يكن إلا أحد تجليات الانقسام الأساس الناتج عن اتفاق أوسلو.
رابعاً: توسّع تهويدي واستيطاني:
كان من المفترض لأي اتفاقات تؤسس لاستقلال دولة، ولانسحاب المستعمر، أن تؤدي لتفكيك المستوطنات اليهودية وانسحاب المستوطنين. غير أن اتفاقات أوسلو لم تلزم الطرف الإسرائيلي بذلك، ولم تُشر حتى لوقف بناء المستوطنات. وبالتالي تابع الطرف الإسرائيلي هجومه الاستيطاني بطريقة أكثر كثافة وأكثر بشاعة، وأخذ يسابق الزمن لمصادرة ما يمكن مصادرته من أرض وحصر الفلسطينيين في “معازل” و”بانتوستانات” خاصة. فغيَّر الاحتلال وجه القدس، وبنى جداره العنصري، وأصبحت مستوطناته نحو 200 مستوطنة، ونحو 220 بؤرة استيطانية أخرى، وتضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من نحو 280 ألفاً إلى أكثر من 800 ألف في مطلع سنة 2019. لتجد القيادة الفلسطينية أن “حلّ الدولتين” فقد عملياً معناه، وأن سلطتها كان أداة “غبية” بيد الكيان الإسرائيلي لإسكات الصوت الفلسطيني والعربي والدولي بحجة وجود مسار للتسوية، وأنها كانت وسيلة “ساذجة” استخدمت لتقطيع الزمن، بما يخدم الجانب الإسرائيلي، في إنشاء الحقائق على الأرض وابتلاع الضفة الغربية.
خامساً: سلطة فلسطينية هشة:
تشكَّل البناء المؤسسي للسلطة الفلسطينية وفق نظام ومنظومة “مُعدَّة للفشل”!! بمعنى أنها لا تملك الحد الأدنى للنجاح للتطور باتجاه بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
فهذه السلطة عانت من هيمنة سياسية وسيادية للاحتلال الذي يتحكم بالحدود، وبمداخل السلطة ومخارجها، وبحركة الأفراد براً وبحراً وجواً، والذي يتمتع بالقدرة الهائلة على تعطيل العمل والحياة اليومية، وبالقدرة على ضرب البنى التحتية.
وهي سلطة أسست لفشل اقتصادي من خلال كارثة “بروتوكول باريس”. ودونما إطالة فقد تم تأسيس سلطة زبائنية استهلاكية ينخرها الفساد، ولا تملك رؤية للانفصال عن الاحتلال، ونحو 80% من إيراداتها تأتي من إما من الضرائب (إيرادات المقاصة) التي تجمعها سلطات الاحتلال، أو من الدعم والمساعدات الخارجية؛ ونحو 85% من واردات السلطة تأتي من “إسرائيل”، بينما يذهب نحو ثلثي صادراتها إلى “إسرائيل”، والصادرات والواردات محكومة بإرادة الاحتلال؛ ومعدل دخل الفرد الفلسطيني أقل من عُشر دخل الفرد الإسرائيلي…
وهي سلطة هشة أمنياً فالاحتلال “يسرح ويمرح” كما يشاء، فيحاصر ويقتحم ويعتقل ويسجن ويغتال، ويمنع من السفر أو من الدخول كما يشاء؛ وهو يحمي المستوطنين المعربدين في أحشاء السلطة، ويوفر الغطاء للعملاء، ولديه نحو ستمائة حاجز ثابت ومتحرك في الضفة.
وهي سلطة منهكة وظيفياً في خدمة الاحتلال، من خلال التنسيق الأمني الذي ما زال “مقدساً” لدى الرئيس عباس؛ ومن خلال الأجهزة الأمنية التي تستهلك مبالغ هائلة من ميزانية السلطة توازي نحو سبعة أضعاف المعدل العالمي للميزانيات الأمنية في البلدان الأخرى.
***
وأخيراً، أليست اتفاقات أوسلو، بعد ذلك كله “لعنة” على الشعب الفلسطيني وعلى مشروعه الوطني… ألم يصبح الانفكاك منها وعنها أولوية وطنية عاجلة، لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة.
المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 25/9/2019
المقال واقعي وهو استنتاج من الواقع الفعلي، لماذا لم يكون هناك رجال حكماء يوقفوا من اتخذ القرار قبل حصوله الجواب ان التفرد والتحزب والتخويف والترهيب وعدم وجود ديمقراطية وشفافية بين القادة