بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أعلنت ثمانية فصائل فلسطينية في 19 أيلول/ سبتمبر 2019، عن مبادرة جديدة لإنهاء الانقسام، وتحديداً بين فتح وحماس. وتمثل هذه الفصائل مجمل الفصائل الفلسطينية الأساسية العاملة في الساحة الفلسطينية، من غير الفصيلين الرئيسيين. وهي فصائل منتمية إلى اتجاهات مختلفة، يسارية وقومية ووطنية وإسلامية، بما يؤكد أن ما يجمعها هو الهمُّ الفلسطيني، وتجاوز العوائق التي تمنع تقدم المشروع الوطني الفلسطيني.
وهذه الفصائل هي: الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، وحزب الشعب، وحركة المبادرة الوطنية، والاتحاد الديمقراطي (فدا)، والجبهة الشعبية- القيادة العامة، والصاعقة. وجاءت مبادرتها تحت عنوان “رؤية وطنية لتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام”؛ وتتضمن جدولاً زمنياً لإنجاز الاتفاق، وهي ترى أن الوثيقة مؤكدة ومكملة للجهد المصري في هذا الإطار.
وتتلخص المبادرة في أربعة بنود:
الأول اعتبار كلّ الاتفاقات الموقعة منذ سنة 2005 حتى اليوم مرجعية لتنفيذ المصالحة، ويشير البند الثاني إلى عقد اجتماع لـ”لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير” المسمّاة “الأمناء العامون” خلال تشرين الأول/ أكتوبر في القاهرة، بحضور عباس، على أن تشرف على تطبيق معظم إجراءات المصالحة. أما البند الثالث، فينص على اعتبار المدة من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى تموز/ يوليو 2020 “مرحلة انتقالية لتحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، يتخلّلها وقفا لتصريحات الإعلامية التصعيدية، والتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية، ومسّت حياة المواطنين في غزة”. ويتعلق البند الرابع والأخير بالجدول الزمني للمرحلة الانتقالية، بما يشمل الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية قبيل نهاية سنة 2019، وصولاً إلى إجراء الانتخابات الشاملة (التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني) في منتصف 2020.
وخلال بضعة أيام، أعلنت حماس موافقة غير مشروطة على مبادرة الفصائل الثمانية، ودونما إضافة أو تعديل، بعد أن قامت بدراستها في أطرها القيادية. وأكد رئيس الحركة إسماعيل هنية أن حماس وافقت على المبادرة “انطلاقاً من مسؤوليتها، وحرصها على تحقيق الوحدة الوطنية.. واستشعاراً للمخاطر والتحديات التي تحيط بالقضية وتهدّد ثوابتها”.
أما حركة فتح، فقد تجاهل الرئيس عباس في خطابه في الأمم المتحدة المبادرة، ودعا إلى انتخابات عامة، وركز على إنفاذ اتفاق 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بين فتح وحماس، دون غيره من اتفاقات المصالحة. أما عزام الأحمد، مسؤول ملف المصالحة في حركة فتح وعضو لجنتها المركزية، فاتهم الفصائل الفلسطينية بـ”تخريب” التحرك المصري، واتهمها بأنها تتلقى أوامرها من حماس، ووصف المبادرة بأنها غير مجدية. وقال محمود العالول، نائب رئيس حركة فتح، إنه لا جدوى لأي مبادرات جديدة لإنهاء الانقسام. وأضاف أن موقف اللجنة المركزية لفتح ثابت بأنه لا مجال لبحث مبادرة الفصائل الثمانية، لسببين؛ أولهما عدم إعطاء مزيد من الأمل للشعب الفلسطيني دون جدوى، والثاني إصرار فتح على تطبيق ما تم الاتفاق عليه في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. من جهة أخرى، اعتبر حسين الشيخ، عضو اللجنة المركزية لفتح، مبادرة الفصائل “مضيعة للوقت”. أما فايز أبو عيطة، أمين سر المجلس الثوري لفتح، فقال إنها “ورقة مجاملات فضفاضة وليست حاسمة”، وأنها لا تصلح مدخلاً لتحقيق المصالحة، ولم تطرح جديداً، ولم تحمّل أحد الأطراف (حماس) المسؤولية.
* * *
من خلال القراءة المتأنية للمبادرة ولموقف الفصائل الثمانية، وردود فعل فتح وحماس، يمكن أن نضع الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: المبادرة حظيت بشبه إجماع فلسطيني، بينما وجدت فتح نفسها منعزلة عن المجموع الوطني، بالرغم من أنها تتولى قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة الفلسطينية، أو ما يعرف بـ”الشرعية” الفلسطينية. وللأسف، فليس هذا غريباً على سلوك قيادة فتح في الآونة الأخيرة. فقد عقدت المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، في نيسان/ أبريل 2018، بعيداً عن التوافق الفلسطيني وبخلاف اتفاق بيروت الذي تبنته فتح نفسها مع باقي الفصائل في كانون الثاني/ يناير 2017، وعقدت اجتماعات المجلس المركزي للمنظمة حتى بمقاطعة الفصائل الأعضاء في منظمة التحرير، وتبنت حل المجلس التشريعي في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بخلاف اتفاق المصالحة وبخلاف الإجماع الفلسطيني، وشكلت حكومة للسلطة بقيادتها، بالرغم من مقاطعة معظم الفصائل الفلسطينية الفاعلة وبخلاف اتفاق المصالحة. ويبدو أن السير عكس التيار العام أصبح ظاهرة من ظواهر سلوك فتح في الفترة الأخيرة.
والسؤال: إذا كانت فتح تتجاهل حالة شبه الإجماع الفلسطيني، ولا تعير لها بالاً، فما هي “الشرعية” التي تستند إليها في قيادة المنظمة والسلطة، واحتكار القرار السياسي الفلسطيني، وفي التحدث باسم الشعب الفلسطيني؟!
الملاحظة الثانية: ركزت قيادات فتح على إنفاذ الاتفاق المتعلق بإدارة غزة في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، كما ركزت على تفسيره بالشكل الذي يروق لها (سلطة واحدة، سلاح واحد، السيطرة على ما فوق الأرض وما تحت الأرض، وتطبيق معايير أوسلو واشتراطات الاحتلال المطبقة في الضفة على القطاع)، وكأنها تريد أن تكون الأداة التي تُكسر بها شوكة المقاومة بعد أن فشلت “إسرائيل” في ذلك طوال 12 عاماً وفي ثلاثة حروب مدمرة.
وتعرف فتح أن مبادرة الفصائل الثمانية لم تتجاهل اتفاق تشرين الأول/ أكتوبر 2017، ولكنها وضعته في إطار فهم وإنفاذ الاتفاقات السابقة، وخصوصاً اتفاق المصالحة الأساسي المتفق عليه من الجميع في أيار/ مايو 2011، والذي غطى جميع القضايا ووضع آليات واضحة وخريطة طريق لتجاوز الانقسام. أما الاتفاقات التالية (الدوحة، الشاطئ، بيروت، القاهرة 2017..) فهي اتفاقات فرعية إجرائية وتحل بعض القضايا الجزئية، بينما يبقى اتفاق 2011 الاتفاق الشامل الوحيد الذي تصرّ فتح على تجاهله وتجاوزه.
الملاحظة الثالثة: تحدث عباس، كما تحدثت قيادات فتح، عن إجراء انتخابات؛ غير أنه من خلال متابعة التصريحات يتضح أن المقصود هو انتخابات المجلس التشريعي للسلطة فقط. ومبادرة الفصائل الثمانية تتحدث عن الانتخابات أيضاً، ولكن وفق ما تمّ التوافق عليه في اتفاق المصالحة، بأنها انتخابات متزامنة رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني. بمعنى آخر، تريد فتح أن تفرض أجندة جديدة في إنفاذ اتفاق المصالحة قائمة على رعاية حساباتها، مع إيجاد البيئات المناسبة لكسب الجولة لصالحها. وبالتالي، سعت فتح لتأجيل الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني (حبث مجال هيمنتها)؛ بينما تريد انتخابات للمجلس التشريعي التي تسيطر عليه حماس، والذي قامت فتح “الرئاسة الفلسطينية” بتعطيله منذ 2007. وهي انتخابات تريدها بعيداً عن اتفاق المصالحة 2011، وبعيداً عن خريطة الطريق التي اقترحتها الفصائل الثمانية، وبعد أن كانت قيادة فتح وراء قرار “المحكمة الدستورية” بإبطال المجلس التشريعي وتشكيل حكومة للسلطة بقيادة فتح (بخلاف مسار المصالحة وبخلاف التوافق الوطني)، وفي أجواء العقوبات على قطاع غزة، ومطاردة كوادر حماس والمقاومة في الضفة؛ مما أوجد بيئة غير صحية وغير شفافة لأي ممارسة “ديمقراطية” حقيقية.
الملاحظة الرابعة: إذا كانت خريطة الطريق التي قدمتها الفصائل الثمانية، لتُنفذ على مدى تسعة أشهر فقط “مضيعة للوقت”، وعملية “تخريب”، و”غير مجدية”، و”بلا جدوى” حسب تصريحات قيادات فتح!! فهل كان أسلوب قيادة فتح طوال السنوات الثماني الماضية في إدارة ملف المصالحة أحسن استغلالاً للوقت، وذا جدوى؟! أم أنه أعادنا سنوات إلى الوراء؟! وهل وجدت فتح في أسلوب فرض الأمر الواقع، والاستقواء بوجودها على رأس السلطة والمنظمة، والاستقواء ببيئة عربية ودولية معادية لـ”الإسلام السياسي” ولخط المقاومة.. هل وجدت فيه أسلوباً أكثر فعالية، وأكثر حفاظاً على الوحدة الوطنية الفلسطينية؟ أم أنها لم تفعل شيئاً سوى تكريس الانقسام، وتكريس هيمنة فصيل فلسطيني في مواجهة التيار الفلسطيني العام؟
الملاحظة الخامسة: لماذا لا تراجع فتح موقفها من المصالحة، خصوصاً وأنها ترى الساحة الفلسطينية تموج بالرفض للإجراءات والمواقف التي تتخذها؟
هددت قيادة فتح بوقف العمل باتفاقات أوسلو ولكنها لم تفعل، وهددت بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال ولكنها لم تفعل، وأوقفت المفاوضات مع الاحتلال ولكنها الآن مستعدة للعودة لطاولة التفاوض حسب التصريحات المتداولة مؤخراً، ورفضت استلام أموال الضرائب التي يجبيها الاحتلال ولكنها تراجعت أيضاً..
لماذا كل هذا التساهل مع الاحتلال؟ ولماذا في المقابل كل هذا الاصرار والتعنت في الملف الداخلي الفلسطيني،
ألم يأن وقت المراجعة؟!
المصدر: موقع “عربي 21″، 13/10/2019
إذا كانت مشكلة حماس وبقية الفصائل هي اتفاقية أوسلو، فلماذا يقبلون بما هو أسوأ من أوسلو كالمبادرة العربية وكعلاقات الأنظمة التي تدعمهم بالعدو؟ أما إذا لم تكن اتفاقية أوسلو مشكلة لهم فما الذي يميزهم عن فتح حتى يكون بينهم انقسام؟