بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
خرج اللبنانيون منذ أكثر من شهر، في حراك شعبي مستمر واسع، ضد المنظومة السياسية، وضد ما يرونه من فساد قد يؤدي لانهيار اقتصادي، بعد تفاقُم سوء الأوضاع المعيشية، وتراجعُ القدرة الشرائية إلى مستويات غير مسبوقة.
فإذا كانت هذه معاناة اللبناني، ابن البلد، الذي يتمتع بكافة الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وبالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي؛ فكيف باللاجئ الفلسطيني في هذا البلد، الذي كان يعيش أصلاً في أوضاع بائسة، قبل اندلاع الأزمة وتفجُّر الحراك الشعبي؛ وفي بيئة تحرمه بقوة القانون من العمل في الكثير من الوظائف، وتحرمه من حقوق مدنية معتادة تسمح له بعيش كريم. لقد جاءت الأزمة الحالية لتعصف حتى بالقليل الذي يحصل عليه أولئك الفلسطينيون الذين كانت لديهم فرص عمل، ولتضُمَّهم إلى “مطحنة” البطالة والفقر التي تَتغوّل على أغلبية فلسطينيي لبنان وتسحقهم.
حسب دراسة منشورة للأونروا، بالتعاون مع الجامعة الأمريكية سنة 2015، فإن نسبة الفقر وسط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حوالي 65 في المئة، ونسبة البطالة 56 في المئة؛ وهناك نحو 62 في المئة يعانون من انعدام الأمن الغذائي المتوسط أو الحاد. ووسط 81 في المئة من الأسر الفلسطينية في لبنان، يوجد فرد واحد على الأقل يعاني من مرض مزمن.
وخدمات الأونروا لا تكاد تفي بالحد الأدنى من احتياجات الفلسطينيين. وهناك نقص كبير في الاحتياجات التعليمية والصحية والاجتماعية وخدمات البنية التحتية في المخيمات.
وقد جاء قرار وزير العمل اللبناني بشأن التشدد في رخص العمل في صيف 2019، وتفسير القانون بشكل يشدد الخناق على اللاجئ الفلسطيني، الذي كان ينتظر بدلاً من ذلك انفراجة تجاهه، بعد توافق الأحزاب اللبنانية على تحسين أوضاع اللاجئين وحل معظم مشاكلهم، في الوثيقة الصادرة عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، التي نشرت في كانون الثاني/ يناير 2017. هذا القرار تسبب بحالة إحباط واسعة، وبمزيد من التضييقات التي خسر بسببها العديد من الفلسطينيين مصادر رزقهم، وهو ما أدى إلى موجة احتجاجات مدنية واسعة شهدتها مخيمات اللاجئين، طوال ما يزيد عن شهرين.
تفاقم المعاناة
أما الأزمة الاقتصادية الحالية التي سبقت الحراك الشعبي وترافقت معه، فقد كانت ضربة قاسية لما تبقى من قدرة الفلسطينيين على الصمود. فخلال ما يزيد عن شهر من الأزمة انخفضت قيمة العملة اللبنانية بنحو الثلث مقابل الدولار، وتعطلت في معظمه حركة التنقل، وأغلقت في معظم أيامه البنوك، ولم يعد الناس قادرين إلا على سحب مبالغ محدودة من حساباتهم البنكية، ولم يعودوا قادرين على استلام كامل التحويلات التي تأتي من أقاربهم من الخارج. وفي الوقت نفسه قام الكثير من أرباب العمل بتسريح موظفيهم الفلسطينيين، نتيجة تراجع حركة المبيعات أو نتيجة تعطل أعمالهم. وقد ترافق ذلك كله مع زيادة الأسعار، وتدهور القوة الشرائية، وعدم توفّر بعض السلع. أما المؤسسات التي أبقت على موظفيها فهي إما أنها لم تتمكن من تسليمهم رواتبهم، أو أعطتهم نصفها أو نحو ذلك.
وبالتالي، فإن تراكم معاناة فلسطينيي لبنان، وزيادة التدهور إلى الوضع المتدهور أصلاً، أوجد آلافاً جديدة من الحالات الإنسانية، التي انضمت إلى فئة الفقر المدقع، والتي لا تكاد تجد وجبة الطعام أو رغيف الخبز. وانضمت إليهم أيضاً أعداد كبيرة ممن لا يملكون نفقات العلاج، وممن يموتون ببطء نتيجة عدم القدرة على تغطية بعض الأمراض المستعصية كالسرطان والفشل الكلوي، وأعداد ممن طردوا أو من المهددين بالطرد من الشقق التي يستأجرونها، بالإضافة إلى آلاف حالات العجز عن تسديد رسوم المدارس والجامعات.
استحقاقات ومخاطر
وفي مثل هكذا أوضاع، هناك خشية أن يتضاعف نزيف الوجود الفلسطيني في لبنان من خلال الهجرة، بعد أن فقد هذا الوجود نحو 300 ألف من أبنائه، أو بعبارة أخرى أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا في لبنان (المسجلون يزيدون عن 540 ألفاً، وتقديرات الموجودين بحدود 250 ألفاً).
وهناك من جهة ثانية، خشيةٌ من أن يواصل الأمريكان ضغوطهم باتجاه إنفاذ “صفقة القرن”، والسعي لتوطين ما يتبقى من الفلسطينيين في لبنان، باتجاه إغلاق ملف اللاجئين.
ومن ناحية ثالثة، فإن حالة الفقر والبطالة والبؤس والإحباط وإغلاق الأبواب في وجه اللاجئ الفلسطيني، يُخشى أن تؤدي إلى تفشي المشاكل الاجتماعية والنفسية، والانحراف الأخلاقي والسلوكي، وإلى التعبير عن نفسها من خلال الانتماء إلى اتجاهات متطرفة.
ومن ناحية رابعة، فقد يُسهل ذلك على بعض الاتجاهات محاولة استغلال أوضاع الناس في تجنيد الشباب العاطل عن العمل لأجنداتها الخاصة، أو ليكونوا وقوداً لحالة التنافس والاحتراب الداخلي والخارجي. مع العلم أن الوجود الفلسطيني أثبت حتى الآن وعياً عالياً في النأي بالنفس عن الشأن الداخلي اللبناني.
الدور المطلوب
إذا كانت حالة اللاجئين الفلسطينيين تستحق أصلاً اهتماماً كبيراً من البيئة العربية والإسلامية والدولية لحل معضلاتهم، فإن الحاجة الآن أصبحت حاجة ماسة، وتستدعي منظومة طوارئ عاجلة على الأقل لتدارك آلاف العائلات التي تسحقها المعاناة.
والمطلوب من الأونروا أن تستنفر جهودها وتدعو الجهات المانحة لتقديم معونات طارئة للاجئين، بما يكفي احتياجات ستة أشهر على الأقل.
وعلى الجهات الخيرية والمعنية بالشأن الفلسطيني في لبنان أن تسارع بتقديم مشاريع محددة للجهات الخيرية العربية والإسلامية والدولية، لتقوم بدعمها؛ كمشاريع السلة الغذائية للفقراء، ومشاريع الإغاثة الطبية، وتغطية تكاليف التعليم، والمشاريع الإنتاجية، وكفالات الأيتام وغيرها.
إن دعم فلسطينيي لبنان ليس مجرد حالة دعم إنساني، بل هو دعم لصمود أحد أهم تجمعات اللجوء الفلسطيني، وأحد أبرز التجمعات الفلسطينية الحيوية التي صبرت وضحّت وعضت على جراحها على مدى عشرات السنين، وظلت أحد أكبر الشواهد على جريمة العدو الصهيوني في تهجير الشعب الفلسطيني، وأحد أكبر الشواهد على تمسك فلسطينيي الخارج بحقهم في العودة إلى بيوتهم التي أخرجوا منها. وهو دعم ضروري في مواجهة “صفقة القرن” ومؤامرات “التوطين” والتهجير. ثم إن الضربات القاسية التي تعرَّض لها الوجود الفلسطيني في العراق وسوريا (وقبل ذلك في ليبيا) يزيد من أهمية وحيوية الحفاظ على الوجود الفلسطيني في لبنان.
المصدر: موقع عربي21، 25/11/2019
أضف ردا