بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أشرنا في المقال السابق إلى أن كامل الشريف استمر في العمل المقاوم بعد حرب 1948، عبر قطاع غزة وسيناء. ويظهر لنا، من خلال مجموعة من المصادر والمقابلات مع مشاركين في تلك الحداث، أن الشريف ورفاقه كانوا يتابعون خطين للعمل العسكري “الإخواني” المقاوم: الأول مرتبط بإنشاء وتطوير عمل “النظام الخاص” في القطاع من خلال شباب الإخوان المسلمين، ليأخذ شكلاً صلباً مستقراً، وإن كان يحتاج وقتاً حتى تظهر ثماره، والثاني متابعة العمل العسكري من خلال شبكة المجاهدين والعلاقات التي كَوَّنها الشريف في حرب 1948، والتي تعتمد أساساً على عناصر من الإخوان الأكبر سناً، وعناصر من غير الإخوان، المستعدين للعمل تحت إشرافهم أو بالتعاون معهم. وهذه العناصر كانت في غالبها من البدو الجاهزين للقتال، والخبراء بمناطق جنوب فلسطين ذات الطبيعة الصحراوية. ونركز في هذا المقال على “النظام الخاص”الذي أنشأه الإخوان في القطاع.
“النظام الخاص” في القطاع:
يذكر أعضاء هذا التنظيم العسكري الخاص الذين قابلهم الباحث (محمد الخضري، وفوزي جبر، وخيري الأغا، ومحمد صيام) أن هذا العمل كان عملاً سرياً منظماً جداً. ولضمان نجاح العمل، لم يكن هذا النشاط موضوعاً تحت إشراف القيادة الرسمية “التقليدية” للإخوان في غزة. ولكن كانت له صلة وصل بكامل الشريف في العريش، الذي كانت تتم متابعته تنظيمياً من عضو مكتب الإرشاد الشيخ محمد فرغلي.
وكان من بين “الإخوان” الذين نشطوا تحت إمرة الشريف في قطاع غزة خليل الوزير (أبو جهاد)، حيث أسهمت سمعة الإخوان الطيبة في حرب 1948 في انضمامه للإخوان سنة 1951. ويذكر الوزير (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد، ونشرتها جريدة السفير، 25/4/1988) أنهم في سنة 1949 عندما كانوا يَسألون الناس، كان أغلبهم يقولون لهم إنهم قاتلوا في صفوف الإخوان المسلمين. وهذا مما قوى علاقة الإخوان بالشباب في قطاع غزة. ويضيف: “لقد استهوتنا تجربة “الإخوان” كمجموعة شباب، خاصة وأنه لم تكن في القطاع قوى سياسية سوى “الإخوان المسلمين” والشيوعيين. الشيوعيون كانوا قلة، وكانت لهم نظرة خاصة للأمور، لا تلتقي ومشاعر الناس… أما الكثرة المنفتحة فكانت تنسق مع شباب الإخوان”.
وفي مقابلة مع كاتب هذه السطور، أكد كامل الشريف وجود هذا العمل المسلح المنظم، وأنه كان له نقباؤه في كافة مناطق القطاع. وأن الأشخاص المعنيين بهذا العمل في القطاع، مثل محمد أبو سيدو وخليل الوزير (أبو جهاد) كانوا يزورونه بشكل منتظم، لاستلام الأوامر ولمتابعة العمل. وقد أشار عدد من أعضاء هذا الجهاز الذين قابلهم الكاتب، أن الأوامر كانت تأتي بالفعل من كامل الشريف، وكذلك من أخيه محمود الشريف، بالإضافة إلى عباس السيسي (من الإخوان المصريين) الذي كان يقيم أيضاً في العريش.
وكان أبو سيدو صلة وصلٍ رئيسية بين الشريف وبين القيادات في القطاع، فقد كان يعمل سباكاً في الجيش المصري في العريش، وكان معتاداً على العودة إلى غزة في عطلة نهاية الأسبوع. وقد وفر له ذلك غطاء مناسباً لتوصيل المعلومات والتعليمات، ابتداء من رفح مروراً، بخان يونس، ووصولاً إلى مكان إقامته في غزة.
من ناحية تنظيمية، تمّ تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق:
1- غزة: ويتولى قيادتها خليل الوزير (أبو جهاد)، وكان من بين مساعديه فوزي جبر، ومحمد الخضري، ومعاذ عابد، وعبده أبو مريحيل، وحمد العايدي.
2- الوسطى (خان يونس): ويتولى قيادتها خيري الأغا.
3- الجنوب (رفح): ويتولى قيادتها محمد يوسف النجار؛ وكان يساعده موسى نصار، وتولى إبراهيم عاشور في وقت لاحق القيادة مكان النجار.
ومن بين أعداد كبيرة من الطلاب الإخوان، كان يتم انتقاء دقيق للأفراد بناء على مواصفات محددة، خصوصاً أولئك الملتزمين، النشطين، الكتومين، الذين لا يواجهون مشاكل اجتماعية. وكان عباس السيسي وأبو سيدو يتنقلان بين شُعب الإخوان لتجنيد الأعضاء، ولعب أبو جهاد دوراً نشطاً في تجنيد عدة مجموعات من الإخوان.
وكان رياض الزعنون عضواً نشطاً في “الجهاز الخاص”، وكان مسؤولاً عن قسم الطلاب في المدارس المتوسطة والثانوية؛ وكان طالباً في مدرسة فلسطين الثانوية، وكان من الأعضاء الناشطين ابراهيم عاشور،ومحمد الإفرنجي، وعبد الله صيام.
أُسرة الحق:
وكانت هناك مجموعة يُنظر إليها كمجموعة غير منضبطة، وكان في عضويتها سليم الزعنون وصلاح خلف (أبو إياد) وسعيد المزين (أبو هشام). وكانت تطلق على نفسها اسم “أُسرة الحق” أو “كتيبة الحق”. غير أن خليل الوزير تمكن من استيعابها في التنظيم العسكري الخاص..وقد استخدم القسم العسكري اسم “شباب الثأر الأحرار” لإصدار بيانات وتصريحات في الفترة 1953-1956. وقد أشار الباحث زياد أبو عمرو إلى هاتين المجموعتين في دراسته حول الإخوان المسلمين في قطاع غزة، غير أنه قدمهما على أنهما مجموعتان تخططان لأعمال عسكرية؛ ولم يُشر إلى أنهما كانتا ضمن التنظيم الإخواني العسكري في القطاع. وقد ذكر أبو عمرو أسماء أخرى ضمن هاتين المجموعتين، مثل أسعد الصفطاوي، وعمر أبو الخير، وإسماعيل سويرجو، ومحمد النونو، وحسن عبد الماجد.
عمليات مقاومة:
كانت عملية التدريب متناسبة مع الإمكانات المحدودة للتنظيم، ومع البيئة السريّة للعمل. غير أنها استفادت من إمكانات الإخوان المصريين، ومن الضباط الإخوان في الجيش المصري، والمتعاطفين مع الإخوان والمقاومة. كما استفادت من غطاء المخيمات الكشفية في التدريب الخشن وشبه العسكري، لتوفير حدٍّ أدنى مرتبط باللياقة البدنية والانضباط والاستعداد الرجولي للتضحية.
ويذكر أبو عزة أن الاهتمام بالتدريب العسكري كان أمراً طبيعياً في الوسط الإخواني الفلسطيني في قطاع غزة، باعتبار أن حركة الإخوان هي حركة جهادية.
ويشير أبو جهاد (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد) إلى قيامه وإخوانه بعمليات زراعة ألغام، في المناطق المقابلة لمنطقة المنطار في غزة، وعلى طريق غزة- بئر السبع، وفي مكان متقدم من الطريق إلى المجدل، ومن المجدل إلى الفالوجة، كما كان يتم نسف أنابيب المياه في المستعمرات. وبحسب الوزير، فإن العمليات تعددت وتوسعت تدريجياً حتى وصلت إلى منطقة يازور قرب يافا.
أما العملية الأبرز التي تحدث عنها أبو جهاد فهي عملية تفجير خزان زوهر، وهو سدّ مياه قرب منطقة الفالوجة، وهو جزء من مشروع المياه القُطري الإسرائيلي. وبحسب أبي جهاد، فقد قامت إحدى المجموعات بزرع عدد من “التنكات” المليئة بمادة “تي.إن.تي” (TNT) في 25 شباط/ فبراير 1955، فانفجر الخزان بشكل هائل، وتدفقت المياه وغطت مساحات واسعة من الأرض إلى أن وصلت إلى منطقة “بيت لاهيا”، لتصبُّ بعد ذلك في البحر المتوسط. وهي حسب رأي الوزير العمليةُ التي استدعت العدوان الانتقامي الإسرائيلي الكبير في 28 شباط/ فبراير 1955؛ والتي شكلت نقطة تحول في السياسة المصرية. فتحت ضغط المظاهرات الواسعة في القطاع المطالبة بتسليح أهله وتجنيدهم للقتال، والمطالبة بإسقاط مشروع التوطين في سيناء، قام عبد الناصر بتكليف مصطفى حافظ بتنفيذ حرب عصابات ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما تمّ إلغاء مشروع التوطين في سيناء.
لم نجد في دراسة بني موريس الشاملة، حول الاشتباكات الحدودية ومحاولات اختراق الحدود بين البلدان العربية و”إسرائيل” في الفترة 1949-1956، ما يشير إلى عملية خزان زوهر التي تحدث عنها الوزير؛ كما لم نجد في الوثائق البريطانية ما يشير لذلك في تلك الفترة. ولم يجد الباحث يزيد صايغ أيضاً ما يؤكدها، حسبما أشار في كتابه “الكفاح المسلح والبحث عن الدولة”، وإن كان ذلك لا ينفي أن العملية قد وقعت. وثمة إشارات في الوثائق البريطانية إلى عملية وقعت في ليل 23 شباط/ فبراير 1955 في ريشونلازيون جنوب تل أبيب، وإلى عملية أخرى أدت لقتل إسرائيلي في منطقة القبيبة بعد ذلك بيومين (25 شباط/ فبراير 1955) على بعد 15 كيلومتراً جنوب شرق تل أبيب (35 كيلو متراً شمال قطاع غزة).
نفذ عبد الله صيام عمليات من شمال غزة، بينما نفذ حمد العايدي عمليات من الوسط، ونفذ إبراهيم عاشور عمليات من الجنوب. وكان محمد صيام من بين أولئك الأعضاء المسؤولين عن تزويد عبد الله صيام بالسلاح والذخيرة، وكان من بين هجماتهم الهجوم على محطة القطارات في المجدل. وقد ركز عبد الله صيام على منطقة المجدل، حيث نفّذ عمليتين أو ثلاثة. وقد قبضت السلطات المصرية على عبد الله صيام عندما كان يحاول اجتياز الحدود لتنفيذ إحدى العمليات، كما اعتقل خليل الوزير على خلفية اتهامه بإعداد لُغم، غير أنه تمّ “لفلفة” القضية من خلال بعض “الواسطات” والاتصالات، وأفرج عنه بكفالة مالية بعد أسبوع من اعتقاله.
وأشار موريس، بناء على تقارير المخابرات الإسرائيلية، إلى أن مجموعة من “الإخوان المسلمين” كانت نشيطة على طول خطوط قطاع غزة في النصف الثاني من سنة 1954؛ وأنها كانت تقوم بشكل متكرر بتدمير خطوط المياه المؤدية إلى مستعمرات النقب. وقد لاحظت مخابرات الجيش الإسرائيلي أنه في النصف الثاني من 1954 وبداية 1955 خفَّت حوادث اختراق الحدود بعد الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية، لمنع التسلل، وبعد توجيهها ضربة قاسية لجماعة الإخوان المسلمين.
خلاصة:
وعلى أي حال، فإن هذا “النظام الخاص” وإن كان بذل جهداً مقدراً في تجنيد الأفراد وتدريبهم، إلا أن أداءه كان متواضعاً على مستوى تنفيذ العمليات. إذ إن فترته الذهبية (1952-1954) لم تكن كافية لإطلاق عمل مسلح مقاوم فعال. وأياً تكن النتيجة، فإن هذا العمل عكس حرص وتوق شباب الإخوان للمقاومة المسلحة. ونحن عندما نقرأ هذه التجربة، في ضوء أحداث وظروف تلك المرحلة، فلعلنا نجد أنفسنا أمام عمل جاد منظم، وأداء عسكري أخذ قصب السبق والمبادرة مقارنة بكافة الاتجاهات السياسية والحزبية الفلسطينية. هذه التجربة لم تتمكن من النمو، خصوصاً لأسباب متعلقة بالصراع بين نظام عبد الناصر والإخوان، لكنها على الأقل وفّرت “الحاضنة” الأساسية لولادة حركة فتح لاحقاً.
يتبع..
* ملاحظة: هذا المقال مستخلص من دراسة سيتم نشرها للكاتب.
المصدر: موقع عربي21، 17/2/2020
أضف ردا