بقلم: د. محمود الحنفي*. (مقال خاص بمركز الزيتونة).
أعلن الرئيس الفلسطيني في 20/5/2020 أن منظمة التحرير الفلسطينية أصبحت في حلّ من أي اتفاق أو التزام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
1. ماذا يعني هذا الكلام قانونياً؟
2. وهل أن تصريح أو خطاب يكفي للتحلل من الالتزامات القانونية؟ أم أن ثمة إجراءات دستورية وأخرى إجرائية واجبة التطبيق؟
3. وهل هذه الاتفاقيات التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مرّت أساساً بالمسارات الدستورية؟
4. وهل يمكن إبرام اتفاق يتعارض مع الأحكام الآمرة للقانون الدولي كما هو الحال مع اتفاق أوسلو سنة 1993؟
5. وهل خطوة التحلل من الاتفاقات والبرتوكولات الملحقة (الملحق الاقتصادي والأمني) مع الاحتلال الإسرائيلي هي نهاية المطاف، أم أن هناك خيارات قانونية وديبلوماسية أخرى؟
لا شكّ أن قرار الرئيس محمود عباس بالتحلل من الالتزامات مع الاحتلال الاسرائيلي هو قرار هام جداً، حتى وإن كان متأخراً جداً. والأهم من ذلك هو البحث عن آليات تطبيقية فعالة. فالاحتلال الإسرائيلي استفاد من هذه الاتفاقيات، وأعمل آلته التوسعية والاستيطانية في جسد الضفة الغربية والقدس، حتى بقي للفلسطينيين فتات من الأرض بالإضافة إلى مئات الحواجز الثابتة والمتحركة، فضلا عن جدار الفصل العنصري وحصار قطاع غزة… .
وفي الوقت الذي طبق فيه الاحتلال قاعدة الالزام وليس الالتزام بالاتفاقيات، تمسك الطرف الفلسطيني بهذه الاتفاقيات وألزم نفسه بشكل دقيق.
إن خطاب الرئيس محمود عباس، بالرغم من أنه ليس الأول من نوعه، إلا أنه في إطار معالجتنا القانونية، يعد بمثابة إعلان التحلل الأولي من هذه القيود أو الاتفاقيات، لكن ثمة خطوات أخرى لا بدّ من اتباعها. وبما أن التوقيع على اتفاقية ما والمصادقة عليها يمر بخطوات (التوقيع، المصادقة، النشر في الجريدة الرسمية)، كذلك فإن التحلل من الالتزام يجب أن يمر بالطرق الدستورية نفسها. لكن هذا الأمر يتطلب دون شك تفعيل المؤسسات الدستورية هذه.
اتفاق هدنة أولاً وليس اتفاق “سلام”:
تميزت اتفاقات أوسلو بتضمنها نصوصاً عدة وحاسمة تتعلق بإنهاء حالة الحرب والانتقال إلى الحالة السلمية، وتحديد قواعد لتسوية المنازعات بين الطرفين بشأن تنفيذ تلك الاتفاقات.
وبغض النظر عن موقفنا الرافض لهذا الاتفاق، فإنه في الإطار القانوني، فقد كان الأصل أن يتم توقيع اتفاق هدنة أولاً، خصوصاً وأن منظمة التحرير الفلسطينية بما تمثله من حركة تحرر وطني هي في حالة حرب مع “إسرائيل”، كما جاء في ديباجة اتفاق أوسلو أنه “آن الأوان لوضع حد لعقود من المواجهات والصراع”، ثانياً توقيع مقدمات “السلام”، ثم ثالثاً توقيع اتفاق “سلام”. ما جرى هو الدخول مباشرة في مفاوضات “سلام”.
إن اتفاقات أوسلو التي هي معاهدات دولية متعلقة بـ”السلام” بوجه عام فيها من خصائص مقدمات السلام، وأيضاً من خصائص معاهدات “السلام”، الأمر الذي يجعلها معاهدات من نوع خاص (ذات ماهية مختلطة).
إن اتفاقات أوسلو يمكن اعتبارها نوعاً خاصاً من مقدمات “السلام”، يترتب على ذلك أنه إذا فشلت المفاوضات (وهي فشلت فعلاً منذ فترة بعيدة)، والتي كانت تهدف لعقد معاهدة “السلام”، فإن اتفاقات أوسلو باعتبارها من مقدمات “السلام” تعد لاغية وفقاً لقواعد القانون الدولي.
ولذلك فإن الحل الأفضل هو قطع مفاوضات التسوية المتعثرة، وإرجاع القضية الفلسطينية إلى أصلها بين شعبٍ تحت الاحتلال، وبين قوة احتلال غاشمة سيطرت على أرضه وهجرت شعبه؛ وبالتالي يستند الشعب الفلسطيني إلى حقوقه الطبيعية في أرضه وفي المقاومة والتحرير، وإلى ما منحه إياه القانون الدولي من استخدام كافة الوسائل الممكنة لاستعادة أرضه وتقرير مصيره وعودة لاجئيه، ومن الحق في الدفاع عن النفس، ومن عدم منح الاحتلال أي مشروعية على الأراضي المحتلة، وتحميله كامل المسؤولية الجزائية والمدنية.
الاعتراف المتبادل مصلحة في اتجاه واحد:
لقد تم الاعتراف بحق حركات التحرر الوطني في إبرام الاتفاقيات الدولية، ذلك أنها كيانات محاربة في نزاح مسلح ذو طبيعة دولية، أي النزاع المسلح بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني.
إن الأصل أن يتم الاعتراف بالشعب الفلسطيني كشعب له الحق في تقرير المصير، وليس مجرد الاعتراف بمن يمثله، أو الاعتراف بفلسطين كدولة خاصة بعد الاعتراف الواسع بها من قبل الجمعية العامة (119 دولة). لقد تجاهلت رسالة إسحق رابين Yitzhak Rabin القرارين 242 و338 بشكل كامل، هذا يعني أن “إسرائيل” ليست ملزمة بهما كقاعدة في العملية التفاوضية.
طبقاً للقواعد المُنظِّمة للاعتراف في القانون الدولي، نجد أن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ”الدولة الإسرائيلية” غير قابل للتراجع عنه، وذلك انطلاقاً من المادة 6 من اتفاقية مونتيفيديو Montevideo Convention لسنة 1933 التي تشترط عدم الرجوع عن الاعتراف بالدول، في حين أن اعتراف الحكومة الإسرائيلية يشبه إلى حد ما الاعتراف بالمجالس أو الهيئات الثورية، وهو اعتراف واقعي في أغلب الأحيان ويمكن التراجع عنه.
لم يتم المصادقة على اتفاقات أوسلو وفق القواعد الدستورية الفلسطينية:
ورد في النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بشأن المجلس الوطني في المادة 7 من الباب الثاني “المجلس الوطني هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها وبرامجها”.
ويتضح من المادة الدستورية الخامسة عشر من النظام الأساسي أن اللجنة التنفيذية تنفذ قرارات المجلس الوطني، فهي بالتالي ليست المرجعية القانونية (في أي حال) للموافقة على اتفاق مصيري، لأن المرجع القانوني الوحيد هو المجلس الوطني الفلسطيني.
إن المؤسسات المختصة في “إسرائيل” كانت تقوم بمناقشة كل تفصيل في الاتفاقيات قبل التصديق عليها أول بأول، والملاحظ أن الكنيست والحكومة يحرصان كل الحرص ليس فحسب على بحث الاتفاقات والتصديق عليها، بل ووضع شروط لتنفيذ كل مرحلة، الأمر الذي يعني أن التصديقات ليست نهائية. وعلى الجانب الآخر، نجد أن السلطات المختصة الفلسطينية لم تصادق على الاتفاقيات الأساسية فحسب، بل لم تتعمق فيها ولم تناقش تفاصيلها الدقيقة.
المشكلة في اتفاقات أوسلو أنها في مجملها نصت على سريانها من تاريخ توقيعها أو بعد فترة من التوقيع، ولم تشترط التصديق الذي يستتبعه الإيداع. كما لم يتم تبادل وثائق التصديق بين الطرفين.
اتفاق أوسلو خالف قواعد قانونية آمرة:
إن أي معاهدة دولية تبرم خلافاً للقواعد الآمرة تعد باطلة بطلاناً مطلقاً من لحظة إبرامها، حتى لو كانت المعاهدة صحيحة وقت الإبرام ثم ظهرت قاعدة آمرة بعد ذلك متعارضة معها، بطلت هذه الآخرة ووجب انتهاء العمل بها.
لم يخالف الموقعون على وثائق اتفاقات أوسلو القانون الداخلي الفلسطيني فحسب، بل خالفوا أيضا ما تضمنه القانون الدولي من قواعد آمرة كان يتعين الالتزام بها؛ ومن أبرزها: مبدأ سمو ميثاق الأمم المتحدة، وقواعد تسوية المنازعات الدولية، ومبدأ اختصاص المنظمة الدولية في إدارة عملية التسوية، ومبدأ علنية المفاوضات المتفرع عن مبدأ علنية الاتفاقات، وقاعدة التكافؤ في المعاهدات، ومبدأ نسبية الأثر الملزم عملها، وقاعدة بطلان التقسيم الإجباري للإقليم، ومبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة، ومبدأ المساواة في السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحق الاسترداد، وقاعدة بقاء الشيء على حاله.
لم يتم تسجيل اتفاقات أوسلو في الأمم المتحدة:
أوجب ميثاق الأمم المتحدة، في المادة 102، ضرورة تسجيل المعاهدات الدولية: “كل معاهدة وكل اتفاق دولي يعقده أي عضو من أعضاء “الأمم المتحدة” بعد العمل بهذا الاتفاق، يجب أن يسجل في أمانة الهيئة، وأن تقوم بنشره بأسرع ما يمكن”؛ فالقاعدة هي أن تسجيل المعاهدات الدولية شرط للاحتجاج بها أمام أجهزة الأمم المتحدة.
لم يتم تسجيل الاتفاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، وهما الطرفان الرئيسيان كما تقرر قواعد إجراءات التسجيل، بل بواسطة الراعين والطرفين. ومناط التسجيل يعني النشر في المجلدات الخاصة بمجموعة المعاهدات الدولية، ولم يتم تسجيل كل الاتفاقات بل ثلاث منها فقط وليس الرئيسية منها، كما هو الحال مع اتفاق شرم الشيخ 4/9/1999، ومذكرة التفاهم واي ريفر (واي بلانتيشن) Wye River Memorandum 23/10/1998.
إن آلية تسوية المنازعات المنصوص عليها في اتفاقات أوسلو تُحرِّم أو على الأقل تعرقل الاستفادة من واقعة التسجيل (فض المنازعات فقط من خلال لجنة الارتباط المشتركة وليس من خلال الآلية الدولية المعروفة).
إن عدم تسجيل الاتفاقات بشكل سليم يهدف إلى نزع أيَّ بُعدٍ دولي للقضية الفلسطينية، أو منح الطرف الفلسطيني فرصة الاستفادة العملية من مؤسسات الأمم المتحدة في فض هذه المنازعات.
ليت المفاوض الفلسطيني استمع بإنصات إلى المستشار القانوني فرانسيس بويل Francis Boyle.
خيارات قانونية وديبلوماسية:
لا شك أن توقيع اتفاقات أوسلو كان خطيئة بالمفهوم القانوني، وأنه ترك تشوهات مؤلمة في الأرض الفلسطينية المحتلة وبنية المجتمع الفلسطيني، في المقابل حقق الاحتلال مكاسب ميدانية كبيرة جداً من الاستيطان والجدار وتهويد القدس وإحكام الحصار على قطاع غزة. هل كانت هذه الاتفاقات هي نهاية المطاف؟ أم أنه هناك خيارات قانونية وديبلوماسية متعددة؟
إن العودة عن الخطأ فضيلة. إن الاستفادة من البعد الدولي للقضية ومن المؤسسات الدولية أمر يمكن تداركه. كما أن التحلل من اتفاقات أوسلو سوف يفتح أمامنا آفاقاً واسعة وخيارات قانونية متعددة أتاحها القانون الدولي، وهي بالتأكيد أكبر بكثير من المكاسب الوهمية التي حققتها اتفاقات أوسلو.
إن “إسرائيل” هي سلطات احتلال وتترتب عليها التزامات كثيرة، كما أن العالم اليوم لم يعطِ أي مشروعية قانونية لهذا الاحتلال على الرغم من التغييرات الميدانية التي أحدثها على مدار عقود.
كما أن التحلل من قيود أوسلو سوف يفتح المجال واسعاً أمام المصالحة الوطنية، وسوف يعزز الصمود الداخلي، وسوف يمكّن الشعب الفلسطيني من التعبير عن رفضه للاحتلال بوسائل مختلفة.
أخيراً، من وجهة نظر إجرائية، من الأسلم الانسحاب المنظم من الاتفاقات، لإن الانسحاب العشوائي تترتب عليه تداعيات كثيرة.
* أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان في الجامعة اللبنانية الدولية.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23/5/2020
أضف ردا