بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
انغرس في اللاوعي الفلسطيني في السنوات الماضية، وبطريقة “غير بريئة”، صورة غير حقيقية عن السلطة الفلسطينية. ففي غمرة ضخ إعلامي متواصل عن السلطة وقياداتها وفعالياتها، ومع تراجع وانزواء منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، برز انطباع “واهم” لدى الإنسان الفلسطيني والعربي العادي، بأن السلطة تمثل الشعب الفلسطيني وتعبر عن تطلعاته.
ولأن السلطة لديها رئيس ورئيس وزراء وحكومة ومجلس نواب، فلعله قد تراءى لكثيرين أن السلطة كأي دولة لها سيادتها وحدودها وقواتها العسكرية، وأنها الآمر الناهي في مناطقها أو أراضيها. بل ربما علق في أذهان بعض الأجيال الفلسطينية الجديدة أن السلطة تتسع ولايتها لتشمل فلسطينيي الخارج، وربما ظن آخرون أن إصلاح النظام السياسي الفلسطيني يرتبط بجوهره بإصلاح السلطة الفلسطينية.
تتحمل قيادة منظمة التحرير (التي هي قيادة السلطة) المسؤولية عن الحالة المزرية التي وصلت إليها المنظمة، فتآكلت وانزوت لتصبح أقرب إلى دائرة من دوائر السلطة، في الوقت الذي نسي فيه كثيرون أن منظمة التحرير هي التي أنشأت السلطة الفلسطينية سنة 1994 كاستحقاق لاتفاق أوسلو.
وإذا كان ثمة كلام جاد عن إصلاح البيت الفلسطيني، فيجب أن تُكشف صورة السلطة أمام الشعب الفلسطيني كما هي على حقيقتها، باعتبارها إحدى المكونات المستهدفة بالمعالجة، وأن نستخدم التعبيرات والأوصاف الصحيحة، بعيداً عن الدعايات والفذلكات وخداع الذات وخداع الجماهير.
باختصار، وبعد 26 سنة من نشأة السلطة، نحن أمام كيان “هجين” تحت الاحتلال الإسرائيلي، يقوم أساساً بدور وظيفي في خدمة الاحتلال وأهدافه. هذا الكيان فشل فشلاً ذريعاً في التحول إلى دولة فلسطينية مستقلة على الأرض المحتلة 1967.
وإذا ما نحّينا قطاع غزة جانباً باعتباره الجزء المُحرَّر الذي خرج عن إملاءات الاحتلال، وأنشأ حالة مقاومة تتجاوز اتفاقات أوسلو وتبعاتها، فإن حديثنا عن السلطة هنا يتركز على السلطة “الرسمية” في رام الله، التي هي السلطة “الرسمية” في نظر الاحتلال والبيئات العربية والدولية.
السلطة التي نتحدث عنها تمارس سلطتها الإدارية والأمنية على 18 في المئة فقط من الضفة الغربية أي أقل من 4 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، وعلى شكل جزر متناثرة في بحر الاحتلال الإسرائيلي. ويشترك الاحتلال مع السلطة في الإدارة الأمنية لـ22 في المئة من مناطق الضفة، بينما ينفرد الاحتلال بإدارة 60 في المئة من باقي مناطق الضفة. غير أن الاحتلال يستطيع أن يستبيح متى شاء حتى الـ18 في المئة التي تديرها السلطة أمنياً وإدارياً.
والسلطة التي نتحدث عنها ليس لديها جيش، وإنما أجهزة أمنية استفاد منها الاحتلال طوال السنوات الماضية في ضبط الأوضاع وملاحقة قوى المقاومة، وبشكل جعل من احتلاله احتلالاً بخمس نجوم.
والسلطة لا تتحكم في الحدود ولا في المعابر، ولا في مجالها الجوي، ولا في طرقها البرية، ولا في حركة الأفراد من مناطقها إلى الخارج ولا من الخارج إليها. ويستطيع أي “شاويش” إسرائيلي أن يعطل مرور أو سفر أكبر شخصية في السلطة، ابتداءً من رئيس السلطة نفسها، وليس انتهاءً بوزرائه وقياداته المختلفة.
والسلطة يهيمن الاحتلال على اقتصادها، فهو يستطيع منع دخول البضائع والواردات، ويستطيع منع خروج الصادرات، وهو الذي يتولى جميع الإيرادات الجمركية للسلطة والتي شكلت في سنة 2019 نحو 67 في المئة من إيراداتها العامة، فيسلمها متى شاء، أو يستخدمها الاحتلال كعنصر ابتزاز في تنفيذ سياساته. ويستأثر الاحتلال بنحو 84 في المئة من صادرات السلطة، كما يستأثر بنحو 56 في المئة من وارداتها. ويتحكم الاحتلال بنحو 85 في المئة من مياه الضفة الغربية، ولا تستطيع السلطة حفر بئر ارتوازي واحد دون موافقة الاحتلال.
وتحت احتلال ينهب الأرض ويُلغي الإنسان، فإن الناتج المحلي الإجمالي للسلطة أقل من 5 في المئة من الناتج المحلي الإسرائيلي، بينما يزيد دخل الفرد الإسرائيلي بأكثر من 13 ضعفاً عن دخل الفرد الفلسطيني.
وفي بيئة اتفاقات أوسلو وأجواء السلطة ترعرع الاحتلال في الضفة وتوسع، ليحوي ما يزيد عن 160 مستوطنة، وأكثر من 100 بؤرة استيطانية، وليعزل جداره العنصري منطقة القدس ونحو 12 في المئة من أراضي الضفة؛ وليقيم في أرجاء الضفة أكثر من 600 حاجز ونقطة تفتيش، بالإضافة إلى الطرق الالتفافية المقتصرة فقط على اليهود، والتي تزيد عن 900 كيلومتر. هذا، مع تضاعف أعداد المستوطنين اليهود في مناطق الضفة (خلال عهد السلطة) لتزيد عن 800 ألف مستوطن. ولتتحول الدولة الفلسطينية الموعودة في الضفة إلى فسيفساء متناثرة أو “جبنة سويسرية” في “بطن” الاحتلال، ولتريحه السلطة من صداع إدارة السكان، بينما يواصل هو التهام الأرض والمقدسات.
والسلطة لا تستطيع إجراء انتخابات تشريعية أو بلدية دون ضوء أخضر من الاحتلال، ولا عقد اجتماعات للمجلس تشريعي، أو للحكومة دون سكوت الاحتلال.
نحن أمام سلطة “لا فقارية” لا تملك أقداماً تقف عليها، ولا جذعاً تستند إليه؛ ويتم التعامل معها صهيونياً وعربياً ودولياً كـ”قاصر” لم تبلغ سن الرشد، وما تزال تحت ولاية الاحتلال.
فإذا كان إصلاح البيت الفلسطيني مرهوناً “بإصلاح” السلطة الفلسطينية، وفكفكة “طلاسم” علاقتها “سلمياً” مع الاحتلال.. فأبشر بطول سلامة يا مربع!!
ولمن يتغزل بالمصالحة، ثم يرتهنها بانتخابات المجلس التشريعي، المرتهَن أساساً بالمزاج الصهيوني.. نقول إن رحلة الألف ميل لا تبدأ من هناك؛ وإن حبّك وحبنا للمصالحة يجب أن يدفعنا باتجاه الصراحة والمكاشفة والارتقاء لمستوى اللحظة التاريخية وخطورة المرحلة، وتحمل المسؤولية وتحديد أولويات المرحلة وبرنامجها الوطني.
وإذا كان ثمة رؤى جادة لإصلاح البيت الفلسطيني، فيفترض النظر إلى السلطة كأحد خطوط العملية الإصلاحية، التي تديرها قيادة فلسطينية تحافظ على الثوابت؛ وتملك رؤية منهجية لرزمة إصلاحات شاملة ومتوازية ومتكاملة، جوهرها المظلة الجامعة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج (منظمة التحرير)، بينما تأتي انتخابات المجلس التشريعي (إن تمت) كإجراء فرعي ضمن منظومة الإصلاح، وإن لم تتم فإن قطار الإصلاح لا يتوقف لأجلها ولا ينتظرها.
ومن المفترض بناءً على ذلك أن يُعاد تعريف السلطة لتتخلى عن دورها السياسي وعن التعاون الأمني مع الاحتلال، وتكتفي بخدمة الشعب الفلسطيني في مناطق تواجدها. وقد قامت قيادة السلطة ببعض الخطوات كتجميد العمل باتفاقات أوسلو وبالتنسيق الأمني، غير أن أمامها شوط طويل لتحويل ذلك إلى استراتيجية عمل وطنية فلسطينية تنتقل من مربع التسوية إلى مربع المقاومة.
أما جوهر الطاقة الهائلة للشعب الفلسطيني فيجب أن يتركز على المقاومة والتخلص من الاحتلال… وليس على العيش وإدارة الحياة تحت الاحتلال..
المصدر: موقع عربي21، 2020/10/16
ألم يُغرس كذلك وهم قدرة هذه السلطة على ملاحقة المقاومة الفلسطينية ومنع عملياتها رغم أنها لا تسيطر إلا على 18% من مساحة الضفة الغربية -أي 4% من مساحة فلسطين- بدون أي سيطرة على الحدود والمعابر؟ ألا تشكل بداية منظمة التحرير نفسها نموذجا لمن يريد الآن مقاومة الاحتلال والتخلص منه، وحجة عليه؟ إذن فالسلطة ليست عقبة حقيقية، لكن كيف يستطيع مواجهة الاحتلال من يستعين بمن هو أسوأ من السلطة الفلسطينية؟ بحكومات دول مستقلة، تنازلت بإرادتها عن كل ما احتل من فلسطين عام 1948، حين أصدرت مبادرة بلفور العرب ووافقت عليها، وما زالت تتعامل مع النظام الأمريكي بعد مشاركته الصريحة في احتلال القدس والجولان، وبعد محاولته فرض خطته لابتلاع المزيد، وتتهاوى في دركات التطبيع. مقاطعة هؤلاء أول خطوة في المقاومة، أما بدون مقاطعتهم فالدخول في هذه السلطة وفي المصالحة الداخلية وفي التفاهمات على حدود المقاومة المكانية والزمانية والفردية والجماعية هو إقرار بالعجز عن التخلص من الاحتلال حاليا، وسعي لإدارة الحياة داخل معازل السلطة، وهي حالة تشبه تقريبا حالة الأسرى في معتقلاتهم، وحالة المحكومين بالحبس المنزلي حين يكون الأب والأم سجانين لأبنائهما.