بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
قد تشهد هذه السنة بعض التطورات على مسار المصالحة الفلسطينية، لكنها ستأتي ناقصة وملغومة!! وقد تشهد تفعيلاً لمسار التسوية السلمية، كما أن قطار التطبيع قد لا يتوقف، لكنه غير مرشح للتَّسارع، وقد يودّع نتنياهو رئاسة الوزراء، لكنّ قوى اليمين ستزداد نفوذاً وتأثيراً. وستتم محاولة استيعاب قوى المقاومة تحت سقف أوسلو، بينما ستتابع قضية فلسطين حالة المخاض والتدافع بين السعي لتصفية القضية وبين السعي لانطلاقة انتفاضة جديدة.
مسارات الوضع الداخلي الفلسطيني:
بعد أن تنازلت حماس عن معظم اعتراضاتها، ومعظم أوراق القوة التي تملكها في إدارة الوضع الداخلي الفلسطيني، سعياً إلى تصليب الموقف الفلسطيني وتقويته في مواجهة مشاريع الضم والتهويد الصهيونية، ومسارات التطبيع في العالم العربي والإسلامي؛ فقد أصبح الباب مفتوحاً للمضي نحو انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، وفق شروط وتصورات حركة فتح وقيادة السلطة ومنظمة التحرير. ومن المفترض أن تجري الانتخابات والسلطة “والغة” في التنسيق الأمني، وقيادة المنظمة باقية في مربع التسوية ومسار المفاوضات. ولن يتم تفعيل المجلس التشريعي الحالي إلى حين إجراء الانتخابات، كما أن شرط “التزامن” في إجراء الانتخابات (تزامن إجراء انتخابات المجلس التشريعي مع رئاسة السلطة مع المجلس الوطني الفلسطيني) لم يعد قائماً. هذا، بالإضافة إلى أن حماس وقوى المقاومة التزمت مع فتح بسقف المقاومة الشعبية للاحتلال في هذه المرحلة، أي أنها ربطت نسق عملها المقاوم، خصوصاً في الضفة الغربية، بظروف ومعايير سلطة رام الله، أملاً في أن تتطور يوماً إلى انتفاضة شعبية ومسلحة.
في هذه البيئة السياسية التي تملك فيها قيادة السلطة وقيادة المنظمة (قيادة فتح) معظم الأوراق الداخلية، بالإضافة إلى “الشرعية” العربية والدولية، سيتم السعي لتنظيم انتخابات المجلس التشريعي في صيف 2021. غير أنه من المستبعد جداً أن تتم الانتخابات، إذا ما كان هناك مؤشرات واضحة على فوز حماس وقوى المقاومة بالأغلبية النسبية أو بأكثر من نصف المقاعد. إذ إن عقلية القيادة الفلسطينية لا تسمح بتسليم السلطة وإعادة “شرعنة” قيادة حماس، وهو ما لا يرضاه أيضاً الكيان الصهيوني ولا البيئات العربية والدولية الحالية.
ولذلك، فقد تتم الانتخابات إذا كانت محصلتها فوز فتح وحلفاؤها، بما يؤدي إلى نزع “الشرعية” التشريعية لحماس، وبما يؤدي لثلاثة استحقاقات رئيسية:
الأول: تسليم حماس لقطاع غزة للشرعية الجديدة.
الثاني: إعادة الروح والحيوية لحركة فتح وقيادة السلطة والمنظمة، بما يمكنها من تجديد شرعيتها ومن تمثيل “الكل” الفلسطيني، واستيعاب حماس وقوى المقاومة في السلطة والمنظمة كـ”أقلية” يجب أن تحترم رأي الأغلبية.
الثالث: مضي قيادة فتح في مسار التسوية السلمية، في ضوء انتخاب بايدن، الذي سيسعى لتفعيل هذا المسار.
ولأن حماس لن تكون جاهزة لتسليم قطاع غزة، بالشكل الذي تريده فتح، ولأنه ليس هناك ثمة اتفاق على برنامج وطني فلسطيني ولا على طريقة التعامل مع أوسلو واستحقاقاتها؛ فإن “الوسخ” الموضوع تحت السجادة و”القنابل” السياسية والأمنية الملغومة ستعود للظهور وللانفجار في وجه مسار المصالحة، الذي قد يتعثر بعد محطة “التشريعي”، هذا إن تمكن من اجتيازها.
لقد أعطى سلوك السلطة بالعودة للاتفاقيات والتنسيق الأمني، في قمة أجواء التفاوض على ترتيبات برنامج المصالحة، مؤشراً واضحاً على عقلية السلطة التي لا تعطي قيمة حقيقية لمفهوم الشراكة، والغارقة حتى أذنيها في التزامات تتعارض مع برنامج المقاومة، ولا ترغب فعلياً في الانفكاك منها.
مسار التسوية والسلوك الأمريكي:
من جهة أخرى، فإن فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية سيعطي فرصة لتوقف بلدوزر “صفقة القرن”، والعودة إلى الصيغة الأمريكية التقليدية للحزب الديموقراطي في إدارة ملف التسوية على طريقة بيل كلنتون وباراك أوباما. حيث ستحاول الإدارة الأمريكية النفخ من جديد في مسار التسوية، وإعطاء بعض المغريات للسلطة الفلسطينية كاستئناف المساعدات المالية، وإعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، وعدم إعطاء الغطاء لمشاريع الضمّ الإسرائيلية، وتخفيف الضغوط (دون توقيفها) على الدول العربية والإسلامية بشأن التطبيع مع الكيان الصهيوني. غير أن الإدارة الأمريكية ستواصل التعامل مع “إسرائيل” باعتبارها حجر الزاوية في سياستها في الشرق الأوسط، وستواصل توفير الغطاء لها في برامج التهويد والاستيطان، وستعتمد كل ما سبق أن أعطاه ترامب للصهاينة في فترة رئاسته.
القدس:
ولذلك، فإن برامج التهويد خصوصاً للقدس وباقي الضفة الغربية ستتواصل، باتجاه حسم “هوية يهودية” للقدس، وباتجاه التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، و”شرعنة” اقتحامات اليهود للأقصى. كما ستتواصل وتتصاعد برامج البيئة الطاردة للفلسطينيين في القدس، بما في ذلك تدمير المنازل، ومنع تراخيص البناء، ومصادرة الهويات المقدسية، والضرائب الباهظة، ومنع الفعاليات الثقافية والاجتماعية والرياضية، وكذلك نشر الفساد والمخدرات.
التطبيع والبيئة العربية:
ليس من المتوقع أن يحدث تغير جوهري في سلوك البيئة العربية تجاه القضية الفلسطينية؛ وسيظل هذا السلوك يعكس ضعف الوضع العربي وهشاشته وتخلُّفه وانقسامه؛ بالرغم من حالات المخاض والتدافع التي تشهدها المنطقة. وسيسعى الصهاينة والأمريكان على دفع قطار التطبيع، ليشمل مزيداً من الدول العربية والإسلامية كالسعودية وعُمان وإندونيسيا وموريتانيا ومالي، غير أن حجم الضغوط والحسابات المحلية والإقليمية والدولية لهذه البلدان، ستلعب أدواراً في حسم قراراتها.
ومن المتوقع أن يُبقيَ الوضع العربي والإسلامي على دعمه لمسار التسوية السلمية، ولكن بشكل أقل التزاماً تجاه “المبادرة العربية”؛ كما أن موقفه السلبي تجاه المقاومة المسلحة وتجاه “الإسلام السياسي” سيستمر؛ وهو ما يعني أن قوى المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد…) لن يكون مرحباً بها في “الشرعية العربية”.
السلوك الإسرائيلي:
الجانب الإسرائيلي الذي أنهكته جائحة كورونا بأكثر من 400 ألف إصابة حتى كتابة هذه السطور، وبأحد أسوأ السنوات من حيث الأداء الاقتصادي منذ إنشائه، حيث تراجع بنسبة 12%؛ وبأسوأ تراجع في السياحة، حيث وصل إلى 76.5%؛ قد يواصل مراكمة الخسائر في النصف الأول من السنة، وربما يبدأ بالتعافي خلال الصيف، غير أن الخروج الكامل من آثار الأزمة قد يأخذ بضعة أعوام.
وفي الوقت نفسه، فإن الوضع السياسي الإسرائيلي سيستمر في حالة من عدم الاستقرار، ويدخل في الانتخابات الرابعة خلال سنتين؛ غير أن الاتجاه العام نحو التطرف الديني والقومي اليميني سيبقى سائداً، في الوقت الذي تتحلل فيه وتتفكك اتجاهات الوسط واليسار. وبانشقاق جدعون ساعر عن الليكود وتشكيله لحزب “أمل جديد”، والتوقعات الحالية بحصوله على 19–20 مقعداً، فإن عدد مقاعد الليكود سيتراجع، كما ستتراجع حظوظ نتنياهو في تشكيل الحكومة الجديدة. كما تعززت فرص كتلة “يمينا” المُتطرفة بمضاعفة عدد مقاعدها، في الوقت الذي يتجه فيه حزب أزرق أبيض نحو التفكك.
وفي مثل هذه الظروف، فإن فرص شنّ حرب إسرائيلية على قطاع غزة أو على لبنان أو إيران تبدو ضعيفة، دون أن يمنع ذلك من توجيه الصهاينة لضربات عسكرية لمحاولة الإبقاء على دورهم كشرطي للمنطقة، والتأكيد على تحكّمهم بشروط اللعبة. وسيتابع الصهاينة حصار قطاع غزة، مع رفع أو خفض وتيرة الحصار بحسب تطور الظروف، وليس من المتوقع رفع الحصار تماماً إلا بانتهاء سيطرة المقاومة (حماس) على القطاع.
***
وأخيراً، فهذه التوقعات هي وفق المعطيات المتوفرة بين أيدينا، ووفق السياق المنطقي للاتجاهات العامة للأحداث. غير أن هذه المنطقة عادة ما تكون حبلى بالأحداث والتغيرات. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وعلى قوى الإصلاح والتغيير وقوى المقاومة ألا تركن للتمنيات، لأن رأسها ما زال مستهدفاً، وعليها أن تصل الليل بالنهار لمواجهة التحديات الكبيرة التي تنتظرها.
المصدر: موقع (TRT Arabi) تي آر تي عربي، 2021/1/7
أضف ردا