بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
قدمت ست وثلاثون قائمة انتخابية أوراق ترشيحها إلى اللجنة المستقلة للانتخابات، حيث كانت حركة فتح “الرسمية” آخر من قدم مرشحيه في الساعة الأخيرة قبيل إغلاق باب التسجيل.
ثمة أكثر من عشرين قائمة قدمت نفسها كقوائم مستقلة غير حزبية. وربما عكس ذلك جانباً من الحيوية في البيئة السياسية الفلسطينية؛ غير أنه يعكس في الوقت نفسه حالة من عدم الثقة والإحباط لدى قطاع لا يستهان به من المستقلين تجاه الفصائل الفلسطينية وأدائها، كما يعكس حالة من “التشرذم” لدى المستقلين أنفسهم، حيث لم تنجح معظم قوائمهم في تكوين قوائم على أسس صلبة، تُمكّنهم على الأقل من تجاوز نسبة الحسم، التي تسمح بدخول أعضاء منهم في المجلس التشريعي. والعديد من الشخصيات والرموز التي شكلت قوائم مستقلة لها احترامها ومكانتها، غير أن فرصها في الفوز لا تبدو مشجعة. ومع ذلك، فإن وجود هذا العدد الكبير من القوائم المستقلة قد يسهم في تشتيت أعداد لا بأس بها من الأصوات، وفي إضعاف قدرة القوائم الرئيسية على تجيير أصوات المترددين لصالحها.
***
عمقت هذه الانتخابات الأزمة الداخلية لدى حركة فتح، التي تقدمت باسمها ثلاث قوائم انتخابية. وشهد تشكيل القائمة “الرسمية” نفسها (التي تمثل القيادة المركزية لفتح) مخاضاً عسيراً، حيث اضطرت الحركة للتراجع عن قرارها بعدم ترشيح أعضاء من اللجنة المركزية أو المجلس الثوري أو المحافظين؛ وضمت قائمتها النهائية خمسة أعضاء من اللجنة المركزية (كما تداولت الأنباء) هم جبريل الرجوب ومحمود العالول وروحي فتّوح وأحمد حلّس ودلال سلامة؛ في إشارة إلى شعور قيادتها بجدية التحدي الذي تواجهه القائمة وضرورة دعمها بشخصيات معروفة وازنة.
ومع ذلك، فقد توالت الاحتجاجات من عدد من المناطق مثل جنين وقلنديا، بينما قام بعض المرشحين بسحب ترشيحهم، احتجاجاً على وضع أسمائهم في ترتيب متأخر، واعتبارهم جزءاً من الديكور الذي لا فرصة له بالفوز بحسب القائمة النسبية. وقد يتسبب ذلك، بضعف الحماسة للانتخابات والدعاية للقائمة الرسمية، وربما بذهاب الكثير من الأصوات الساخطة إلى قائمة القدوة والبرغوثي، وحتى دحلان، أو الاستنكاف عن المشاركة.
وقد تعقد المشهد الفتحاوي بإصرار عضو اللجنة المركزية لفتح ناصر القدوة على المضي قُدماً في تشكيل قائمته الانتخابية، حتى بعد صدور قرار فصله من قيادة فتح، وهي قائمة تضم عدداً من الرموز المثقفة والمستقلة، بل والمعترضة على مسار أوسلو، وعزز قائمته بانضمام أنصار الرمز الفتحاوي الكبير مروان البرغوثي لهذه القائمة (دون أن يكون مرشحاً لعضوية المجلس)؛ وهي قائمة تحظى بحظوظ قوية لتجاوز نسبة الحسم بشكل مريح، وتحصيل نحو 13 مقعداً، وفق استطلاعات الرأي الأولية.
أما تيار دحلان أو ما يعرف بالتيار الإصلاحي، فقد رتب أوراقه جيداً؛ واستخدم ما لديه من نفوذ و”مال سياسي” في استقطاب الكثير من عناصر فتح، وخصوصاً في قطاع غزة. وتعطيه استطلاعات الرأي نحو 6% من الأصوات أو نحو ثمانية مقاعد.
وربما أسهمت حالة الانقسام الفتحاوي في أن تصبّ الأصوات الفتحاوية في النهاية داخل “قبيلة” فتح أو تيارها الأوسع، ولا تذهب لخصومها أو منافسيها. كما أن التجربة التاريخية الفتحاوية تشير إلى أن فرقاء فتح لا يختلفون في جوهر البرنامج، وربما أمكن توحيدهم داخل المجلس التشريعي في عدد من الاستحقاقات المهمة. وقد ينطبق هذا بدرجة أو بأخرى على قائمة القدوة والبرغوثي؛ غير أن هذا مستبعد بالنسبة لقائمة دحلان.
***
من ناحية أخرى، فإن التشرذم عاد ليطبع أوضاع اليسار الفلسطيني، ولم تفلح الجهود لجمعه في قائمة واحدة، فنزلت الجبهة الشعبية في قائمة، ونزلت الجبهة الديموقراطية في قائمة ثانية، بينما نزل حزب الشعب وفدا في قائمة ثالثة. وثمة حظوظ للجبهة الشعبية في تجاوز نسبة الحسم، أما القائمتين الأخريين فتواجهان صعوبات حقيقية في ذلك.
أما قائمة المبادرة الوطنية برئاسة مصطفى البرغوثي وقائمة سلام فياض اللتان تمكنتا من تجاوز نسبة الحسم في انتخابات 2006، فهما أيضاً أمام تحدٍّ حقيقي في إمكانية تجاوز نسبة الحسم، في هذه الانتخابات.
حركة حماس، التي شهدت نقاشات داخلية واسعة، واعتراضات من عدد من كوادرها، في أول الأمر، على مسار الانتخابات، نجحت في التعامل المرن مع بيئتها الداخلية، بحكم وجود بنية شورية ومؤسسية قوية؛ وتوحدت خلف قرار المشاركة الفاعلة في الانتخابات. ولذلك لم تواجه صعوبة في تقديم قائمتها الانتخابية، وفي التفاف قواعد الحركة خلفها؛ كما حالفها التوفيق في اختيار شعار “القدس موعدنا”، وفي اختيار عدد متميز من الرموز وقيادات الأسرى والوجوه الإعلامية والسياسية.
***
من السابق لأوانه الحديث عن النتائج المتوقعة للانتخابات (إن حصلت). أما توقعات المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية الذي يرأسه خليل الشقاقي، والتي تعطي قائمة فتح الرسمية وضعاً أفضل من حماس، فيصعب الركون إليها لأنه ما يزال أمامنا شهران قد تحدث فيهما العديد من التّغيرات، وليس من الواضح مدى تأثير تشكيل قائمة القدوة والبرغوثي على سلوك أنصار فتح ومسار التسوية. كما أن نسبة لا تقل عن عشرين بالمئة لم يحددوا مواقفهم، بالإضافة إلى أن مراكز الاستطلاع في سنة 2006 فشلت في تقديم نتائج قريبة من الدقة، وعانت من نسب خطأ عالية.
كما أن مقاطعة حركة الجهاد الإسلامي لانتخابات المجلس التشريعي، قد يدفع قواعدها والكثير من داعمي التيار الإسلامي إلى تجيير أصواتهم لقائمة حماس. ثم إن كثرة القوائم المستقلة وصعوبة تجاوز نسبة الحسم، قد يدفع الكثيرين من مؤيدي خط المقاومة أو المعارضين لمسار التسوية للتصويت لقائمة حماس، باعتبارها الجهة المضمونة الأبرز لتمثيل خط المقاومة.
ولا ينبغي في مجال التوقعات، القياس على تجربة انتخابات 2006، فالبيئة السياسية الداخلية، ومجموعة المعطيات الإسرائيلية والعربية والدولية، والوعي الفلسطيني التراكمي الجمعي بتجربتي فتح وحماس طوال الخمسة عشرة سنة الماضية، تقدم مؤشرات مختلفة، وغير متطابقة أو متماثلة مع الأوضاع سنة 2006. وقد انضم إلى أعداد المنتخبين في الضفة والقطاع أكثر من مليون شاب في الفئات العمرية بين 18 و30 عاماً يمثلون نحو 40% ممن يحق لهم الاقتراع، وهؤلاء لم يشاركوا في انتخابات 2006، ولعل عدداً من معاييرهم وتطلعاتهم وزوايا نظرهم لا يتطابق مع الجيل السابق؛ بالرغم من إدراكنا من أن الفرز الرئيسي في الساحة يظل عملياً بين تياري التسوية والمقاومة.
***
لم تنجح الجهود السابقة التي بذلتها حماس وفتح في الوصول إلى قائمة وطنية مشتركة بعد أن وجدت عملية التشكيل اعتراضات داخل الفصائل نفسها، وفي أوساط المستقلين، كما لم ينجح أيٌّ من تياري المقاومة أو التسوية في تشكيل قائمة واحدة تؤيد مساره. وانتهى الأمر إلى العودة للمربع الأول بتشكيل كل فصيل لقائمته الخاصة. وربما زاد ذلك من سخونة الانتخابات، وزاد من المخاوف حول حالة التوافق الفلسطيني القائمة، والخشية من عدم المضي للمراحل الانتخابية التالية، وكذلك الخشية من الخروج بنتائج تكرس حالة الانقسام وتعمقه.
تزايدت المخاوف في أوساط فتح نتيجة أزمتها الداخلية، ونتيجة الخشية من تراجع أدائها، وبالتالي إعادة “شرعنة” حماس وخط المقاومة، وإمكانية تحقيقها لانتصارات معتبرة. وتلتقي هذه المخاوف، مع الاتجاهات الإسرائيلية والعربية والدولية بضرورة الضغط لقطع الطريق على إمكانية تحقيق خط المقاومة لانتصار انتخابي جديد. وهي لا تتعامل مع الانتخابات إلا من زاوية “شرعنة” مسار التسوية، وإخراج المقاومة و”الإسلام السياسي” من المعادلة. وربما أمكن تفسير حملات الاعتقال الإسرائيلية لرموز حماس في الضفة، وإبلاغ الصهاينة للاتحاد الأوروبي بعدم إمكانية إجراء الانتخابات في القدس، وتواصل عدد من الضغوط العربية والدولية لتأجيل الانتخابات في هذا الإطار. كما أن الأنباء غير المؤكدة عن إرسال عباس لاثنين من مستشاريه للولايات المتحدة للتحاور في إمكانية تأجيل الانتخابات تقع ضمن هذا الإطار أيضاً.
ثم إنّ بطء أو توقف المسار المتعلق بالمجلس الوطني الفلسطيني، وعدم جدية القيادة الفلسطينية في متابعته أو إنزاله على الأرض، يعطي مؤشرات سلبية حول هذا المسار.
من جهة أخرى، فإن الانتخابات القائمة على النسبية الكاملة، تشكل عنصر طمأنة لعباس، لأنها تضمن أن تخسر حماس أغلبيتها المطلقة (النصف زائد واحد) في المجلس التشريعي. كما أن فرص الفصائل الأخرى الداعمة لخط المقاومة تبدو ضئيلة عدا الجبهة الشعبية، بالإضافة إلى أن قوائم المستقلين المعارضين لأوسلو تعاني من التشرذم وضعف فرصها في تجاوز نسبة الحسم. وهذا ما قد يعطي فرصة أفضل لاحتمال استيعاب فتح “الرسمية” مجموعة “المشاغبين” الذين يقودهم القدوة والبرغوثي بعد انجلاء المعركة الانتخابية، كما حدث مع “مشاغبي” فتح سنة 1996. كما أن هذا التيار يلتقي، فيما يتعلق بالمسار السياسي التسووي، مع تيار دحلان ضمن المنظومة العامة لـ”قبيلة” فتح.
في المقابل، فقد يوفر المنع الإسرائيلي للانتخابات في القدس ذريعة أو “قميص عثمان” لعباس إذا شعر بمخاطر حقيقية من إمكانية الخسارة، مع تصاعد الضغوط عليه لتأجيل الانتخابات أو إلغائها.
المصدر: موقع ”عربي 21“، 2/4/2021
أضف ردا