بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يبدو أنه بات لزاماً على الفلسطينيين أن يخوضوا “معركة نضالية” في مواجهة القيادة الفلسطينية الحالية، في سبيل ترتيب البيت الفلسطيني، وإعادة الحيوية والفعالية إلى المؤسسات التمثيلية والتنفيذية الفلسطينية، كشرط أساسي لاستنهاض عناصر القوة في مشروع التحرير. والمعركة المقصودة ليست قتالاً ولا حرباً داخلية، ولكنها مجموعة من الإجراءات الجدية الضاغطة، التي تُلزم هذه القيادة باحترام إرادة الشعب الفلسطيني.
فبعد أن كان من المؤمل لدى كثيرين، أن تستجيب القيادة الحالية التي تمسك بتلابيب المؤسسات الرسمية الفلسطينية وتهيمن عليها، منذ أكثر من خمسين عاماً، فتمضي في مسار المصالحة الفلسطينية وفي خطة الطريق المتوافق عليها فلسطينياً، لإجراء الانتخابات بمراحلها الثلاث (التشريعي، ورئاسة السلطة، والمجلس الوطني الفلسطيني)، فإنها قامت بتعطيل الانتخابات يوم 29نيسان/ أبريل 2021، وبتأجيلها بشكل مفتوح، مما تسبَّب بحالة من الإحباط والسخط الواسعين في الوسط الفلسطيني ضد هذه القيادة؛ التي تضع مصلحة الشخص أو الفصيل مكان المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وتقدم حساباتها واعتباراتها الذاتية، حتى لو أدى ذلك لانهيار المؤسسات وتعطلها وعجزها وفشلها.
هذه المعركة النضالية صارت أمراً لازماً، بعد أن لم تعد هذه القيادة شريكاً نضالياً يعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني، بقدر ما أصبحت حالة ديكتاتورية تُعبّر عن بؤس البيئة العربية السياسية المتخلفة وأمراضها؛ وبعد أن أصبحت هذه القيادة عاجزة مترهلة، غير قادرة على استنهاض الطاقات الهائلة للشعب الفلسطيني؛ وهي أعجز من أن تمثل مشروعاً وطنياً أو عربياً أو إسلامياً في مواجهة المشروع الصهيوني وجبروته العالمي.
وهي معركة لازمة لأن هذه القيادة أضاعت عشرات الفرص، وسنوات ثمينة من عمر قضية فلسطين وهي ترفض التزحزح من مكانها، ولا تسمح لأي انتخابات أو ترتيبات أن تتم، إلا إذا أعادت إنتاج المنظومة المستبدة الفاشلة التي تديرها.
وإذا كان هذا هو الدرس الأول من قيام محمود عباس وقيادة فتح بتعطيل الانتخابات، فإن الدرس الثاني هو أنه لا بدّ من قيادة فلسطينية انتقالية تدير عملية إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتدير أي عملية انتخابية، بما يضمن جدية الإجراءات وعدالتها ونزاهتها ومصداقيتها، ووصولها إلى نهاياتها بما يعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني؛ خصوصاً بعد أن خسرت هذه القيادة ما تبقى لديها من “ثقة ومصداقية” هي شرط أساس لأي جهة تشرف على انتخابات حرة نزيهة.
لم يعد من المقبول ولا المعقول أن يدير شخص أو فصيل منافس العملية الانتخابية، فإن توقع النتائج لصالحه أمضاها، وإن كانت التوقعات تسير لصالح منافسيه أجَّلها وعطلها وألغاها؛ ليصبح الأمر مرتهناً بمزاجه وحساباته ومعاييره. وحتى حركة فتح نفسها عندما استلمت زمام قيادة منظمة التحرير في 1968- 1969، فإنها جاءت في ظل قيادة انتقالية برئاسة يحيى حمودة، بعد استقالة القيادة السابقة، التي كان يرأسها أحمد الشقيري.
الدرس الثالث هي أن الساحة الفلسطينية أصبحت بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تشكيل جبهة وطنية موسعة من القوى والفصائل والرموز التي تؤمن بضرورة إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبضرورة إعادة الحيوية والفاعلية للمؤسسات التشريعية والتنفيذية التي اهترأت في ظل القيادة الحالية، والتي تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، واحترام الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني. هذه الجبهة يجب أن تشكل حالة إجماع شعبي فلسطيني في وجه القيادة التي ما زالت تتمترس خلف هيمنة شخصٍ أو فصيل مُعيّن، وتستفيد من بيئة خارجية عربية ودولية تسندها، ليس لشرعيتها أو شعبيتها أو لأدائها الوطني، وإنما لاتساقها مع خط سياسي ترفضه غالبية الشعب الفلسطيني.
هذه الجبهة يجب أن تسعى بكل فعالية لحشر القيادة الحالية في زاوية التزاماتها، واحترام إرادة شعبها، وقطع الطريق على مزيد من التهرّب من إعادة بناء المؤسسات التمثيلية الفلسطينية، لأن ذلك مُدمّر للمشروع الوطني ولمشروع التحرير، وخطورته تكاد ترقى إلى خطورة الاحتلال نفسه؛ لأنه يَصبُّ بشكل مباشر وغير مباشر في استدامة الاحتلال، وفي استدامة معاناة وتشريد الشعب الفلسطيني ومصادرة أرضه ومقدساته.
من ناحية رابعة، فإن تقديم التنازلات لدفع القيادة الحالية للمضي في إصلاح البيت الفلسطيني، زاد أطماع هذه القيادة في مزيد من الاستحواذ والتفرد، وفي فرض شروطها ومعاييرها، وفي تهميش الشركاء والمعارضين. وطوال السنوات الماضية وحتى انطلاق العملية الانتخابية، فإن تنازل حماس عن أوراق تشكيل الحكومة، أو الشراكة فيها، وعدم تفعيل المجلس التشريعي، وحتى السكوت عن إلغائه، والتنازل عن شرط التزامن، وعدم تفعيل الإطار القيادي المؤقت، ورهن العملية الانتخابية بوعود ومراسيم عباس… كل ذلك لم يمنع هذه القيادة من وضع هذه الأوراق في جيبها، وفتح شهيتها للمُطالبة بمزيد من التنازلات؛ ثم المضي بممارساتها سواء في مسار التسوية أم في التنسيق الأمني، أم في تحييد وتهميش شركائها، أم في إضعاف وإفساد المنظومة التمثيلية والتنفيذية المؤسسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة)، أم في التحكُّم الفوقي بترتيب البيت الفلسطيني وفي عملية الانتخابات، أم في التعامل مع إرادة الشعب الفلسطيني كمسألة تكتيكية هامشية.
وعلى ذلك، فلم يعد ثمة مجال لتقديم المزيد من التنازلات لهذه القيادة، لأنها لم تؤدِّ إلا إلى خسارة عدد من أوراق القوة، وإلى إضعاف التموضع الاستراتيجي، بالرغم مما يبدو من مكاسب تكتيكية مؤقتة، تذوي قيمتها بسرعة. والمطلوب الآن من القيادة الحالية أن تدفع استحقاقاتها وديونها، وأن تفي بالتزاماتها وتعهداتها تجاه شعبها… ففلسطين تحترق… وليس ثمة فسحة للمساومات و”الشطارة” والتكتيكات.
وبناء على النقطة السابقة، فإن الدرس الخامس يُنبه إلى أن مجرد تسجيل المواقف الأخلاقية، أو تحقيق مكاسب تكتيكية لا يحرك التاريخ ولا يرسم معالم المستقبل؛ وأن هذه المواقف لا تأخذ قيمتها في صناعة الأحداث، إلا إذا جاءت في إطار عمل استراتيجي فعَّال يبني الحقائق على الأرض، ويتقدم بحزم وحكمة وبروح مبادرة، ليفرض رؤيته الإصلاحية النهضوية. وإذا كنا ندرك أن الله سبحانه “يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وأنه “إنما تبكي على الحب النساء”؛ فإن بعض التصفيق لتنازلات تقدمها القوى الفلسطينية هنا أو هناك، قد يضيع أثرها في جيب القوى المتنفذة؛ وأنها إن تمّت، فلا بدّ أن تُستثمر بشكل صحيح ومنهجي في إثبات مصداقية المعارضة، وفي فرض الإرادة الشعبية على القيادة المتنفذة.
أما الدرس السادس فينبّه إلى أن المعطيات تُشير إلى أن ثمة حالة حراك شعبي وشبابي واسع رافضٍ للأمر الواقع، ويتطلع للتغيير، وقد عبر عن نفسه بالإقبال الهائل على التسجيل في قوائم الانتخابات وفي الكثير من القوائم المستقلة. وهو تيار يقف بمجمله ضد مسار التسوية ويدعم المقاومة بدرجاتها المختلفة، وهو تيار سيتعاظم مستقبلاً؛ ولن تستطيع القيادة أن تصمَّ آذانها عنه، لأنه إلى جانب قوى المعارضة سيتمكن من فرض مسار ترتيب البيت الفلسطيني وإعادة تفعيل المشروع الوطني الفلسطيني.
من ناحية سابعة، فإن الضمانات العربية والإسلامية يجب أن تُقدّر بقدرها، وتوضع ضمن حجمها الطبيعي، وضمن سياقها السياسي، وضمن الاعتبارات الخاصة بكل دولة، وضمن حجم النفوذ والتأثير والوزن النوعي الذي تتمتع به كل دولة. والضمانات بحدّ ذاتها مفيدة وتُمثل عنصر إسناد، لكن لا يمكن المراهنة عليها، ولا يجوز أن تعطى أكثر من حجمها. إذ إن هذه الضمانات تلاشت عملياً عندما حسمت قيادة فتح أمر تأجيل الانتخابات، ولم تصدر حتى مجرد تصريحات من الدول العربية بعد قرار التأجيل. وكان من الواضح أن عملية التأجيل تلاقت مع مصالح عدد من الدول العربية الأساسية المفتاحية في الشأن الفلسطيني، وعالجت إشكالية القلق الذي شعرت به هذه الدول، نتيجة تشرذم حركة فتح، وارتفاع حظوظ حماس، وكسب تيار المقاومة للجولات الانتخابية.
ويشير الدرس الثامن والأخير إلى أن ثمة واجباً وطنياً وأخلاقياً على تلك الفصائل الفلسطينية المشاركة في الأطر القيادية، غير أنها لم تعد موجودة على الخريطة السياسية الشعبية الفلسطينية ولا في الفعل المقاوم على الأرض، والتي ما زالت القيادة الفلسطينية الحالية تستخدمها كأدوات خادعة للتظاهر بديكور “ديموقراطي”… هذه الفصائل أصبح من واجبها أن تتنحى وتفسح الطريق للتمثيل الحقيقي الفلسطيني، وأن تكف عن تقديم أقدام من طين أو عكازات خشبية لشرعية فلسطينية منقوصة مشوهة؛ فيكون بقاؤها وأداؤها شهادة زور، وتزويراً للإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني.
المصدر: موقع ”عربي 21“، 14/5/2021
أضف ردا