يسر مركز الزيتونة أن ينشر ورقة السياسات هذه حول انعكاسات التطورات الأخيرة في الساحة الفلسطينية (تحديداً نيسان/ أبريل-أيار/ مايو 2021) على مسار ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. وقد شملت التطورات قيام قيادة السلطة وفتح بتعطيل الانتخابات الفلسطينية والذي رافقه حالة سخط شعبي وفصائلي واسع. كما شهدت تصاعد الهبة الشعبية في القدس ضدّ محاولات الاحتلال في السيطرة على حي الشيخ جراح، والسعي لبسط الهيمنة على المسجد الأقصى. وترافق ذلك مع دخول المقاومة في قطاع غزة في معركة “سيف القدس” دفاعاً عن الأقصى والقدس، وما صاحبه من عدوان إسرائيلي على القطاع، ومن تصاعد الهبة الجماهيرية في الضفة الغربية وفلسطين المحتلة 1948 والتفاعل العربي والإسلامي والدولي الواسع مع الأحداث. وهذه الورقة هي خلاصة حلقة نقاش عقدها المركز، وشارك فيها عدد من الخبراء المتخصصين في الشأن الفلسطيني. وقد قام الأستاذ عاطف الجولاني بإعداد نص الورقة؛ كما قام د. محسن محمد صالح بتحريرها. للاطلاع على الورقة بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: انعكاسات تعطيل الانتخابات ومعركة سيف القدس على مسار ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني … أ. عاطف الجولاني (22 صفحة، 2.9 MB) |
ورقة سياسات: انعكاسات تعطيل الانتخابات ومعركة سيف القدس على مسار ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني … عاطف الجولاني
إعداد: أ. عاطف الجولاني.[1] (خاص بمركز الزيتونة).
ملخص:
بعد أشهر من السعي الحثيث لترتيب البيت الفلسطيني، وقبيل انطلاق الحملات الانتخابية في الضفة الغربية وقطاع غزة، قامت قيادة السلطة وفتح في 29/4/2021 بتعطيل العملية الانتخابية، بما تسبب بحالة سخط شعبي واسع. وترافق ذلك مع تصاعد الهبة الشعبية في القدس في مواجهة سعي الصهاينة لمصادرة حي الشيخ جراح، وتوسيع نفوذهم الزماني والمكاني في الأقصى. وقامت قوى المقاومة في قطاع غزة من طرفها بإطلاق معركة “سيف القدس”، بينما قام الاحتلال الإسرائيلي بشن عدوان واسع على القطاع (10-21/5/2021)؛ في الوقت الذي اتسعت فيه المظاهرات وأجواء الانتفاضة في الضفة وفلسطين 1948 ووسط فلسطيني الخارج، مصحوبة بدعم وتفاعل شعبي عربي وإسلامي وعالمي واسع.
وقد خرجت حماس والمقاومة من المعركة وسط التفاف شعبي شامل، بينما وجدت قيادة السلطة وفتح نفسها معزولة سياسياً ومتراجعة شعبياً، في الوقت الذي فشل فيه الاحتلال الإسرائيلي، وتعززت فيه قدرات المقاومة على النكاية فيه.
ومن بين أربعة سيناريوهات محتملة، من المرجح أن تسعى قيادة السلطة وفتح إلى انفتاح جزئي في الوضع الداخلي، دون أن تذهب إلى خيار الانتخابات، بسبب خسارتها شبه المؤكدة فيها، كما ستسعى القوى العربية والدولية لإعادة تأهيل السلطة لمتابعة الإمساك بالوضع الفلسطيني.
وفي ضوء الخيارات الأربعة المتاحة أمام قوى المقاومة والتغيير، فلعل الخيار الأنسب يصب في اتجاه تشكيل اصطفاف وطني واسع على قاعدة المقاومة والقدس، ويكون غير ملتزم بالسلطة ولا معاييرها، ولا منتظر على أبوابها، ولكن دون أن يدخل في مناكفات معها؛ سعياً للدفع باتجاه إعادة ترتيب حاسمٍ للبيت الفلسطيني، ويعبر بشكل تام عن الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني.
مقدمة:
شهدت الساحة الفلسطينية متغيّرات مهمة خلال الأسابيع الفائتة، يرقى بعضها إلى مستوى أن يكون بدايات تحول استراتيجي في مسار الصراع العربي الإسرائيلي. ولا شكّ أن هذه المتغيرات سيكون لها انعكاسات على أطراف عديدة وجوانب مختلفة، وتركّز هذه الورقة على قراءة تداعياتها خلال الفترة القادمة على العلاقات الفلسطينية الداخلية وعلى مسار ترتيب البيت الفلسطيني، وتناقش السيناريوهات المحتملة لذلك، كمقدمة لاقتراح الخيار المناسب في التعامل معها.
الجزء الأول: أهم المتغيرات
أولاً: تعطيل الانتخابات الفلسطينية:
لم يكن مفاجئاً لجوء قيادة حركة فتح والسلطة لتأجيل الانتخابات، حيث ظهرت مؤشرات ذلك قبل أسابيع من اتخاذ القرار في 29/4/2021، وقد كان واضحاً أن المبرر الذي سيستخدم لتبرير القرار هو التذرع برفض الاحتلال الإسرائيلي إجراء الانتخابات في القدس. لكن في حقيقة الأمر كان واضحاً للجميع أن أبرز الدوافع التي وقفت وراء قرار تعطيل الانتخابات:
1. الخشية من نتائج الانتخابات، مع تزايد المؤشرات على احتمالات تراجع حركة فتح وتقدم منافستها حركة حماس.
2. احتدام الخلافات داخل صفوف حركة فتح بخصوص الانتخابات، وتمرد البرغوثي وناصر القدوة على قرارات الحركة، وإصرارهما على خوض الانتخابات التشريعية بقائمة مستقلة، الأمر الذي يهدد بانقسام حركة فتح وبتراجع فرصها في الانتخابات.
3. خشية محمود عباس من خسارة مرجّحة لموقع الرئاسة، بسبب إصرار مروان البرغوثي على الترشح للانتخابات الرئاسية في مواجهته.
4. تخوفات الولايات المتحدة و”إسرائيل” وعدد من الدول العربية من احتمالات تقدّم حركة حماس في الانتخابات، وتقديم النصائح وممارسة الضغوط على عباس لتأجيل الانتخابات.
وقد ترتب على قرار تعطيل الانتخابات عددٌ من الانعكاسات على الساحة الفلسطينية من أبرزها:
1. عزل موقف السلطة سياسياً، حيث رفضت معظم الفصائل والقوى والنخب الفلسطينية مبررات السلطة لتعطيل الانتخابات، وحمّلتها مسؤولية تأجيل الاستحقاق الانتخابي، وأكدت أن القرار اتخذ نتيجة الخشية من النتائج ومن التداعيات على وضع حركة فتح الداخلي واستجابة لضغوط خارجية. ورفضت مبررات السلطة لتأجيل الانتخابات، ورأت أن الفرصة كانت متاحة لخوض التحدي مع الاحتلال عبر الإصرار على إجرائها في مدينة القدس دون الخضوع لإرادته.
2. عودة التوتر والتأزم للعلاقات الداخلية الفلسطينية، حيث قاطعت حركة حماس اللقاء التشاوري الشكلي الذي دعت له قيادة السلطة لتغطية قرارها بتأجيل الانتخابات، ويرجّح أن ينعكس قرار التأجيل سلباً على فرص إنهاء الانقسام وترتيب البيت الداخلي.
3. التأثير سلباً في صورة السلطة وحركة فتح في أوساط الشعب الفلسطيني، الذي عبّر من خلال عمليات التسجيل الواسعة للاقتراع عن توقه لإجراء الانتخابات ولتجديد شرعية المؤسسات.
4. ظهور قيادة فتح كسبب رئيسي في الانقسام الفلسطيني، بعد تعطيلها الانتخابات، وبعد أن قدمت حماس كل الضمانات والتنازلات المطلوبة لإجرائها في أجواء حرة وشفافة.
5. إضعاف موقف عباس والسلطة لدى الأطراف العربية والدولية، بسبب هربه من استحقاق الانتخابات، وتهرّبه من نتائجها المحتملة؛ وبالتالي إضعاف شرعيته عملياً في عيونها.
ثانياً: الانتفاضة والمقاومة الشعبية في القدس:
تصدى المقدسيون بجرأة وبطولة وروح تحدٍّ قوية لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، للحيلولة دون تكريس السيادة الإسرائيلية وفرض أمر واقع فيما يتعلق ببوابات الدخول إلى الأقصى. وطوال أكثر من عشرة أيام خاض المقدسيون عملية مقاومة شعبية مميزة نجحوا من خلالها في كسر إرادة الاحتلال وإرغامه عن التراجع عن إجراءاته المتعلقة بالمسجد الأقصى. تلا ذلك تصعيد خطير من قوات الاحتلال فيما يتعلق بالتوجه لإخلاء مقدسيين من بيوتهم في حي الشيخ جراح، وفي 28 رمضان 1442هـ (10/5/2021) كان التصعيد المميز في المواجهة مع قوات الاحتلال والمستوطنين للكيان الصهيوني.
وبالوقوف على نتائج هبّة باب العامود والمقاومة الشعبية للمقدسيين ضدّ إجراءات الاحتلال على الوضع الفلسطيني الداخلي، يمكن الإشارة إلى التداعيات التالية:
1. أبرزت أهمية دور المقاومة الشعبية وتأثيرها، في تثبيت السيادة الفلسطينية، وفي إفشال مخططات الاحتلال وإجراءاته الهادفة لتهويد القدس والمقدسات.
2. أعادت الحيوية للشارع الفلسطيني، ورفعت معنويات الفلسطينيين، ووحدتهم في الداخل والخارج، وأبرزت قدرتهم على التحدي وخوض المواجهة مع الاحتلال بإرادتهم وإصراراهم وإمكاناتهم المحدودة.
3. أحرجت انتفاضة القدس قيادة السلطة وحركة فتح، وأظهرت ضعف موقفها ودورها تجاه ما يجري في القدس والأقصى، وأنها غير مؤهلة للدفاع عنهما وحمايتهما.
4. وفّرت المبرّر للمقاومة المسلحة للتدخل ولخوض المواجهة دفاعاً عن القدس والمقدسات.
5. وفّرت بيئة تفاعل عربي وإسلامي دولي واسعة وعارمة، للقدس وفلسطين.
ثالثاً: معركة القدس ودخول المقاومة في قطاع غزة ساحة المواجهة مع العدو:
على الرغم من أنها تشكل موجة من موجات المواجهة الواسعة والقوية مع الاحتلال، حيث تكررت في السنوات 2008 و2012 و2014، إلا أن المواجهة الأخيرة (أيار/ مايو 2021) تبدو أكثر أهمية وخطورة في دلالاتها وتداعياتها على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى الوضع الداخلي الفلسطيني.
وقد نجحت المقاومة في البروز مدافعةً عن القدس والأقصى، وقامت بتحمل مسؤوليتها التاريخية بالنيابة عن الأمة. فلم يكن أصل المواجهة دفاعاً عن غزة أو رفضاً لاستمرار الحصار عنها، كما أنها جاءت بعد أيام من مواجهاتٍ تركت فيها سلطة رام الله والدول العربية والإسلامية المقدسيون وحدهم في مواجهة قوات الاحتلال والمستوطنين.
ومن أهم التداعيات التي ترتبت على المواجهة:
1. إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ودولياً، وإنهاء حالة التجاهل والتهميش التي استمرت لسنوات، وإبراز صعوبة تجاوز القضية الفلسطينية والقفز من فوقها عبر تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول العربية، والتأكيد على أن الاستقرار لن يتحقق في المنطقة من خلال تلك الاتفاقات ما لم يتم إيجاد حلّ مرضٍ للقضية الفلسطينية.
2. تحقيق نقلة نوعية مهمة في مكانة المقاومة الفلسطينية، حيث كرستها في نظر الفلسطينيين والعرب والمسلمين كطرف مؤهل لحماية القدس والأقصى وللدفاع عنهما في وجه الاستهداف الإسرائيلي، في وقت غاب فيه الدور المؤثر للأطراف الفاعلة فلسطينياً وإقليمياً والتي اكتفت بالشجب والإدانة، ولم تجرؤ على اتخاذ قرارات عملية في الدفاع عن الأقصى وحي الشيخ جراح.
3. التأثير عميقاً في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي فيما يتعلق بإمكانية إنجاز هدف التحرير وإزالة الاحتلال في مدى منظور لا يتم ترحيله للأجيال القادمة. فقد أظهرت المواجهة هشاشة الكيان الصهيوني وإمكانية مواجهته وإلحاق الهزيمة به، ولم يعد الحديث عن إنجاز التحرير مجرد حلم أو حالة رومانسية غير واقعية، بل بات أمراً ممكناً بالرغم من صعوبته.
4. توحيد الشعب الفلسطيني في مختلف مواقع وجوده، في الضفة والقطاع والشتات والأراضي المحتلة سنة 1948، حيث شارك الجميع بفعالية في المعركة، بما يتوافق مع الظروف والمعطيات الخاصة لكل طرف.
5. تحريك الداخل الفلسطيني في أراضي الـ 48 وإدخالهم بقوة في دائرة الصراع مع الاحتلال، ووضع حدّ لحالة السلبية والتهميش لدورهم في مواجهة الاحتلال، واهتزاز حالة التعايش بينهم وبين الإسرائيليين في المدن المختلطة. وتشكّل هذه النتيجة تطوراً مهماً في مسيرة المقاومة والنضال الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تشكّل خطراً كبيراً في نظر “إسرائيل” التي لم تتوقع مثل هذا الأمر، وستجد صعوبة بالغة في معالجته وتجاوز آثاره وتداعياته؛ كما لا يستبعد أن تتخذ مجموعة من الإجراءات الانتقامية والقمعية بحقهم.
6. تحريك الضفة الغربية وإعادة روح الانتفاضة إليها بعد سنوات من الغياب والتهميش، وبسبب قيام السلطة بكبح جماح أي تحرك شعبي لمواجهة الاحتلال. وقد تسببت المعركة بإحراج قيادة السلطة وحركة فتح التي غابت عن المواجهة مع الاحتلال، في ظلّ مشاركة مختلف القوى الفلسطينية في المعركة، فيما اكتفت قيادة فتح والسلطة بإصدار المواقف السياسية وبإجراء الاتصالات الديبلوماسية مع الأطراف العربية والدولية. وقد أدى ضعف موقف قيادة السلطة وفتح في المواجهة بصورة واضحة إلى تراجع شعبيتها، بل إنه أحرجها تنظيمياً، وأبرز مظاهر أزمة داخل فتح بين فريق مرتهن لاتفاقيات أوسلو والتنسيق الأمني، وبين شباب الحركة الذين عبَّروا بوضوح عن غضبهم وعدم رضاهم عن سقف المواقف السياسية المتدني لحركتهم وسلطتهم.
رابعاً: انتشار مظاهر المقاومة الشعبية والتظاهرات في الضفة:
تفاعلت الضفة الغربية بصورة غير مسبوقة، خلال السنوات الأخيرة، مع التطورات في القدس ومع المواجهة البطولية بين المقاومة في غزة والاحتلال، وشهدت مختلف مناطق الضفة الغربية، ولأيام عديدة، أجواء تشبه إلى حدّ بعيد أجواء الانتفاضتين الأولى والثانية، الأمر الذي أعاد طرح التساؤلات حول إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة في المدى المنظور.
ومن أهم التداعيات التي ترتبت على تحرك الضفة الغربية وانتشار مظاهر المقاومة الشعبية في الضفة خلال الأيام الفائتة:
1. إذكاء روح التحدي لدى قطاعات واسعة من الشباب الفلسطيني الذي ولد بعد الانتفاضة الثانية.
2. كسر الحاجز النفسي الذي كان يحول دون تجدّد الانتفاضة وتنظيم فعاليات المقاومة الشعبية بسبب التنسيق الأمني والإجراءات القمعية لأجهزة أمن السلطة.
3. إحراج حركة فتح، ودفعها لتعويض غيابها عن ساحة المعركة مع الاحتلال عبر تنظيم الفعاليات الشعبية من مظاهرات وإضرابات واستعراضات مسلحة في بعض الأحيان.
ومع إدراك صعوبة الرهان على اندفاع فعاليات المقاومة الشعبية الراهنة نحو انتفاضة ثالثة بسبب ممانعة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لذلك واستمرار رهانها على الخيار التفاوضي، فإن روح التحدي والرغبة بمواجهة الاحتلال التي برزت لدى الشباب الفلسطيني بتأثير المواجهة الأخيرة ستشكل تحدياً مهماً لا يسهل على قيادة فتح والسلطة التعامل معه.
خامساً: السلوك والتعامل الإسرائيلي:
أظهر الجانب الإسرائيلي ارتباكاً واضحاً في الأداء السياسي والميداني، سواء تعلّق الأمر بإدارة المواجهة مع المقدسيين في المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جراح، أم بإدارة المعركة مع المقاومة التي كانت هي الطرف المبادر في المواجهة هذه المرة. كما ظهر تأثير العامل الشخصي والاعتبارات المصلحية لبنيامين نتنياهو في التأثير بقرارات الحكومة وفي طريقة إدارتها للمواجهة مع المقدسيين والمقاومة.
ومن أبرز التداعيات المتوقعة لفشل الجانب الإسرائيلي في إدارة ملف المواجهة مع المقدسيين ومع المقاومة في غزة:
1. تهديد المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو. فإذا كان الخوف من المحاكمة والرغبة باجتذاب اليمين الإسرائيلي وقطع الطريق على منافسه تومي لبيد في تشكيل الحكومة، الدافع الأهم المؤثر في سلوك نتنياهو وأدائه السياسي، فإن إخفاقه الذي بدا واضحاً في إدارة المواجهة مع المقاومة ربما يشطب مستقبله السياسي ويحمّله مسؤولية الفشل وتهديد مستقبل الدولة.
2. ضرب القشرة الشكلية للتعايش بين الإسرائيليين وفلسطينيي الداخل، وبروز أزمة مجتمعية حادّة يصعب التعامل معها ورأب صدعها، وهو ما يشكّل تحدّياً لأي حكومة إسرائيلية قادمة.
3. عودة هاجس القلق على الأمن الشخصي لدى الإسرائيليين بصورة قوية نتيجة التهديد الذي شعروا به خلال أيام المواجهة مع المقاومة. حيث بات مدى صواريخ المقاومة يصل جميع مساحة فلسطين التاريخية ويشمل جميع الإسرائيليين، الأمر الذي قد يجعل من الإقامة في فلسطين أمراً غير جاذب للمهاجرين اليهود، بالإضافة إلى احتمالات تأثير ذلك على احتمالات الهجرة المعاكسة.
4. إرباك المشهد السياسي، والتأثير في خيارات الناخب الإسرائيلي في الانتخابات القادمة، وتزايد تأثير عامل الأمن الشخصي كمحدد رئيسي في خيارات الناخبين، كما كان الحال في تسعينيات القرن الماضي بتأثير العمليات الاستشهادية. فقد ظهر للناخب الإسرائيلي فشل اليمين الإسرائيلي في توفير الأمن له، كما فشل بيني جانتس وتحالف ضباط الجيش “المتقاعدين” في تقديم بديل مناسب للناخب الإسرائيلي، الأمر الذي يُعقّد الحسابات في أي انتخابات برلمانية قادمة.
5. تراجع أهمية دور السلطة الفلسطينية في حسابات الجانب الإسرائيلي، حيث لم تعد طرفاً يمكن الاعتماد والرهان عليه بقدر كافٍ في ضبط الفلسطينيين، في ظلّ بروز دور متزايد لحركة حماس فيما يتعلق بقرار الحرب والاستقرار.
سادساً: التفاعل العربي والإسلامي الرسمي والشعبي:
كان التفاعل العربي والإسلامي قوياً، على المستويين الرسمي والشعبي، مع أحداث القدس والمواجهة بين المقاومة والاحتلال.
على صعيد الموقف الرسمي؛ ولأن الدفاع عن القدس كان عنواناً للمواجهة الأخيرة مع الاحتلال، برزت مواقف قوية لمعظم الحكومات العربية والإسلامية في تأييد الشعب الفلسطيني وإدانة الكيان الصهيوني.
وبخلاف كثير من المواجهات السابقة، التي حمّلت فيها بعض الأطراف الرسمية العربية المقاومة بعض المسؤولية عن تصعيد الأوضاع، بدا الموقف موحداً بدرجة كبيرة بتحميل الاحتلال مسؤولية التصعيد الأخير بفعل إجراءاته المستفزّة في الأقصى وحي الشيخ جراح، الأمر الذي وفّر للمقاومة غطاءً عربياً وإسلامياً مميزاً هذه المرة.
وقد أحرجت المواجهة الأخيرة الدول العربية التي سارعت للتطبيع مع الاحتلال أمام شعوبها وأمام شعوب الأمة العربية، وأسقطت ذرائعها التي سوّقتها لتبرير إبرام الاتفاقيات مع دولة الاحتلال بحجة الإسهام في حماية الشعب الفلسطيني، حيث فشلت تلك الدول في القيام بأي دور مؤثر لكبح جماح الاعتداءات الإسرائيلية. وبشكل عام، قامت الدول “المُطبِّعة” بإصدار بيانات خجولة، وظهر بعضها بمظهر الوسيط بين طرفين، كما لم تبادر أي من هذه الدول بأخذ أي إجراءات احتجاجية أو عقابية ضدّ العدوان الإسرائيلي مثل سحب السفراء… وغير ذاك.
وعلى الصعيد الشعبي العربي والإسلامي؛ شكّلت المواجهة الأخيرة مع الاحتلال بشقيها، المقدسي والمقاوم، رافعة قوية للمعنويات في الشارع العربي والإسلامي الذي تفاعل بصورة واسعة مع الأداء البطولي للمقدسيين وللمقاومة المسلحة. وهو ما رفع من مكانة المقاومة الفلسطينية لدى الشعوب العربية والإسلامية التي باتت ترى في تلك المقاومة أملاً مشرقاً في ظلّ حالة الضعف والاستخذاء الرسمي العربي والإسلامي.
وقد كان التفاعل الشعبي في الأردن ولبنان الأكثر قوة وبروزاً في إسناد المقدسيين والمقاومة الفلسطينية، سواء عبر الفعاليات الشعبية التي لم تتوقف في مختلف المدن، أم عبر المسيرات على الحدود مع فلسطين.
وكان التأييد جارفاً للشعب الفلسطيني، بل وللمقاومة الفلسطينية، في مجلس النواب الأردني. وبالإضافة إلى حضور البُعد الإسلامي والعروبي والأخوي في تفاعل الأردنيين وتعاطفهم مع القدس والمقاومة، برز عامل مهم جديد يؤثر في نظرة النخب والحالة الشعبية الأردنية للمقاومة الفلسطينية، حيث باتت ترى فيها خط الدفاع الأول والأقوى عن الأردن في مواجهة الأطماع التوسعية الصهيونية، وفي الحفاظ على الهوية الأردنية، وفي دفن مشاريع التوطين والوطن البديل التي يرونها تهديداً لكيانهم وهويتهم الوطنية.
الجزء الثاني: السيناريوهات والخيارات المحتملة
أولاً: السيناريوهات المحتملة لتأثير المتغيرات على الوضع الفلسطيني الداخلي:
يمكن تكثيف المشهد القائم حالياً بتأثير المتغيرات السابقة على النحو التالي:
1. تراجع كبير وغير مسبوق في مكانة السلطة وشعبيتها ومصداقيتها، وبوادر أزمة داخلية حول أداء قيادة فتح والسلطة وخياراتها السياسية.
2. تقدّم كبير في مكانة المقاومة فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وتزايد وزنها لدى الأصدقاء والخصوم والمحايدين، وبروز قناعة إقليمية ودولية بضرورة الانفتاح عليها والتواصل معها في أي ترتيبات سياسية مستقبلية لتحقيق الاستقرار الإقليمي، حيث ظهر بشكل واضح أن حصر العلاقة السياسية مع السلطة الفلسطينية لم يعد أمراً عملياً، كما تبين صعوبة القفز عن القضية الفلسطينية وعبثية الرهان على الاكتفاء بتطبيع العلاقات مع الدول العربية.
3. تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني جغرافياً (ضفة، غزة، 48، شتات)، ومشاركة كل ساحات الثقل الفلسطيني في مشروع مواجهة الاحتلال.
4. انخراط أكبر للإدارة الأمريكية في الصراع العربي الإسرائيلي، خلافاً لتوجهاتها قبل المواجهة الأخيرة، وتزايد القناعة لدى الأوساط الأوروبية بأهمية إطلاق مسار سياسي خلال المرحلة القادمة.
وتبرز أربعة سيناريوهات محتملة لتأثير التطورات والمتغيرات السابقة على الوضع الفلسطيني الداخلي، وعلى العلاقات الفلسطينية البينية، وفرص إنهاء الانقسام وترتيب البيت الداخلي:
1. سيناريو تحقيق الوحدة الوطنية، وترتيب البيت الداخلي، وإنهاء الانقسام، وتفعيل المؤسسات، وإجراء الانتخابات المعطّلة.
2. سيناريو الانفتاح الجزئي، والتفعيل الجزئي للمصالحة، وتفعيل الإطار القيادي الموحد للفصائل الفلسطينية، مع تأجيل الاستحقاق الانتخابي، وإبقاء واقع المؤسسات الرسمية الفلسطينية على وضعه الراهن.
3. سيناريو الجمود واستمرار المناورات السياسية، والجهود غير المثمرة لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة.
4. سيناريو تأزم العلاقات الفلسطينية الداخلية، وتكريس الانقسام بصورة أكبر، وتزايد التنافس بين حركتَي فتح وحماس، بتأثير القلق من زيادة حضور وشعبية المقاومة بعد المواجهات الأخيرة.
ثانياً: الترجيح بين السيناريوهات:
ثمة ستة محددات للترجيح بين السيناريوهات:
1. تداعيات المواجهة الأخيرة على شعبية فتح والسلطة لدى الشعب الفلسطيني، ورغبتها في تجاوز الأزمة الداخلية والحرج الشعبي، والصورة السلبية الناتجة عن ضعف موقفها، وغيابها عن التأثير في المواجهات الأخيرة.
2. رغبة السلطة في تكريس قيادتها وتمثيلها للشعب الفلسطيني، ومواجهة التشكيك بشرعيتها بعد تراجع دورها في المواجهات الأخيرة، وقطع الطريق على تقدّم المقاومة لقيادة المشروع الوطني الفلسطيني.
3. خيارات المقاومة الفلسطينية تجاه مستقبل العلاقات الداخلية، بعد إنجازها الكبير وتقدّم شعبيتها.
4. تأثير العامل العربي بمواقفه المتعددة وخياراته تجاه الوضع الفلسطيني الداخلي في ضوء المتغيرات الجديدة المهمة التي غيّرت ملامح المشهد الفلسطيني، وأثّرت بشكل ملحوظ في المشهد الشعبي العربي.
5. تأثير العامل الإسرائيلي الذي يرجّح أن يشهد جدلاً ونقاشات داخلية حادة، على خلفية النتائج القاسية للمواجهة الأخيرة مع المقاومة، على معنويات الإسرائيليين وعلى قوة الردع الإسرائيلية، ومدى تأثير ذلك كله على رغبة القيادة الإسرائيلية باستمرار الانقسام الفلسطيني، أو احتواء المقاومة ضمن سقوف سياسية محددة.
6. تأثير العامل الدولي، وخصوصاً موقف إدارة بايدن والدول الأوروبية، تجاه مستقبل العلاقات الفلسطينية الداخلية والرغبة في إعادة تأهيل السلطة، وكذلك تحقيق المقاربة الصعبة بين الرغبة بإضعاف المقاومة سياسياً والحيلولة دون تصدّرها للمشهد السياسي عبر الانتخابات، وبين الرغبة باحتوائها ضمن مسار سياسي يحول دون مراكمتها لعناصر القوة ودون سيطرتها عملياً على المشهد الفلسطيني.
السيناريو المرجح:
وبإسقاط المحددات السابقة على السيناريوهات الأربعة يتضح أن السيناريو الثاني (الانفتاح الجزئي) هو المرجّح في اللحظة الراهنة للاعتبارين التاليين:
1. تبدو قيادة فتح والسلطة معنية بتجاوز الحرج الناتج عن ضعف موقفها السياسي تجاه قضية القدس والمواجهة الأخيرة مع الاحتلال، كما يرجّح أن تسعى لتكريس شرعيتها وتمثيلها للشعب الفلسطيني ولقطع الطريق على أي محاولات لتشكيل أطر وطنية بديلة عن المنظمة، وفي الوقت ذاته هي تدرك خطورة الذهاب نحو ترتيب البيت الفلسطيني بصورة جدية بما يتضمنه ذلك من إجراء للانتخابات في ظلّ المعطيات الحالية التي تميل لصالح المقاومة، وستكون معنية خلال الفترة القادمة بتأكيد أهمية دورها للاحتلال وللولايات المتحدة، وستسعى لاستثمار الأحداث الأخيرة لإعادة نفخ الروح في السلطة الفلسطينية.
بالتالي قد يبدو السيناريو الثاني (الانفتاح الجزئي) هو المرجح في خياراتها في الوقت الراهن.
2. تتمسك “إسرائيل” والدول الأوروبية ومعظم الدول العربية بالدور السياسي للسلطة الفلسطينية، ولا ترغب بتهديد تمثيلها للشعب الفلسطيني لصالح المقاومة، ويرجح أن تميل لتأييد السيناريو الثاني الذي يسهم في امتصاص أجواء الانتصار وفي تكريس شرعية السلطة.
لكن ما يضعف من فرص نجاح هذا السيناريو إدراك المقاومة لحقيقة موقف قيادة فتح والسلطة، وعدم رغبتها بالذهاب نحو تحقيق الوحدة الوطنية وترتيب البيت الفلسطيني وإجراء الانتخابات لما يترتب على ذلك من أثمان لا ترغب بتقديمها، كما تعي المقاومة أن قيادة السلطة ستحرص خلال الفترة القادمة على اللعب على عامل الوقت لامتصاص الانتصار المهم الذي تحقق.
ثالثاً: الخيارات المتاحة للتعامل مع المرحلة المقبلة على صعيد العلاقات الفلسطينية الداخلية:
في ضوء ترجيح توجه السلطة، بدعم عربي ودولي، لخيار الانفتاح الجزئي من أجل تجاوز أجواء الانتصار الذي تحقق، تبدو المقاومة أمام الخيارات التالية:
1. التجاوب إيجابياً مع الخيار المرجح لدى السلطة (الانفتاح الجزئي)، والموافقة على المشاركة في اجتماعات الإطار القيادي للفصائل حال دعوة السلطة لانعقاده.
2. الاكتفاء باتخاذ موقف سلبي من محاولات قيادة السلطة الالتفاف على النصر الذي حققته المقاومة، دون اتخاذ خطوات عملية بأي اتجاه.
3. التوجه لتشكيل مرجعية وطنية لقيادة الشعب الفلسطيني بديلاً عن السلطة والمنظمة في ظلّ رفض قيادة فتح لخيار تحقيق الوحدة وإعادة بناء المنظمة على أسس سليمة.
4. السعي لبناء اصطفاف وطني، غير ملتزم بأطر السلطة ومعاييرها، على أرضية المقاومة والقدس مفتوح للجميع وغير مشروط بانضمام حركة فتح، ولكن دون اشتباك أو مناكفات مع قيادة السلطة وفتح، ودون أن يكون ذلك بديلاً عن السلطة والمنظمة.
وفيما يسهم الخيار الأول بمساعدة قيادة فتح والسلطة على الخروج من أزمتها ومواصلة مناوراتها السياسية، فإن الخيار الثاني خيار سلبي لا يقدّم الواقع السياسي خطوة مهمة للأمام. أما الخيار الثالث فيتوقع أن يدخل المقاومة والساحة الفلسطينية في حالة تجاذب واشتباك قد تعصف بالإنجازات التي حققها النصر الأخير للمقاومة، كما أن فرص قبوله من الأطراف العربية والدولية غير قائمة حتى اللحظة. ويبدو الخيار الرابع (بناء اصطفاف وطني على أرضية المقاومة والقدس)، الخيار الأكثر واقعية لاستثمار الوضع الراهن، فميزان القوى الجديد الذي يتشكل يسمح بشق طريق جديد لا يحصر الخيارات في محاولة التفاهم مع قيادة السلطة، ويحقق نقلة نوعية في الوضع الفلسطيني الداخلي تمهد الطريق لخطوات أكثر تطوّراً في المستقبل، وفي الوقت ذاته يعفي نسبياً من الدخول في اشتباك مع قيادة فتح والسلطة، لكنه يتطلّب قبل طرحه التواصل مع أطراف أساسية (الجهاد والشعبية) لتوفير حدّ أدنى من الضمانات لنجاحه.
رابعاً: أولويات المرحلة في البيئة الداخلية الفلسطينية:
1. تعزيز الاصطفاف الوطني حول خط المقاومة والقدس، وتوسيعه لأكبر قاعدة شعبية جماهيرية.
2. تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في القدس، وتعزيز مكانة القدس والمقدسات كموحدة وملهمة للشعب والأمة، ومفجرة للثورات، وموجهة لبوصلة المقاومة ضدّ العدو.
3. دفع قيادة السلطة وفتح باتجاه القيام بمسؤولياتها التاريخية والأخلاقية في إعادة فتح المجال لترتيب البيت الفلسطيني، وإزالة أي معوقات تعترضه، واحترام إرادة الشعب الفلسطيني، وتجاوز مسار التسوية وأوسلو، وإنهاء الدور الوظيفي للسلطة في خدمة الاحتلال في الضفة.
4. توفير مستلزمات المقاومة الشعبية المستدامة في الضفة الغربية.
5. الاستثمار في التحولات الحالية لدى فلسطينيي الداخل 48 لتعزيز صمودهم، ولتطوير دورهم النضالي والوطني في مواجهة المشروع الصهيوني.
6. تطوير دور فلسطينيي الخارج وتفعيل تأثيرهم في البيئات التي يعيشونها وتعزيز تلاحمهم مع الداخل الفلسطيني.
7. المبادرة للتنسيق مع الأصدقاء لتنفيذ مشروع إعادة بناء غزة بعيداً عن الصيغ والاشتراطات الدولية، والسعي لتشكيل هيئة وطنية للإعمار ومواجهة الحصار، تكون البوابة الوحيدة لتلقي المعونات والتبرعات، وتصبح السلطة أحد مكونات التواصل معها وليست العنوان الرئيسي للتواصل.
8. تفعيل الاتحادات والنقابات الشعبية الفلسطينية، ودورها في مشروع التحرير.
9. استثمار حالة الالتفاف الجماهيري حول المقاومة لبث التعبئة الثقافية ونشر الوعي في اتجاه استنهاض الفلسطينيين نحو مشروع التحرر.
[1] إعلامي وكاتب أردني من أصل فلسطيني، رئيس تحرير جريدة السبيل، خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الفلسطينية والأردنية، نُشرت له مئات المقالات والتحليلات السياسية وتقديرات الموقف وأوراق العمل، بالإضافة إلى حضوره النشط في الوسائل المرئية والمسموعة.
للاطلاع على الورقة بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة سياسات: انعكاسات تعطيل الانتخابات ومعركة سيف القدس على مسار ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني … أ. عاطف الجولاني (22 صفحة، 2.9 MB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 28/5/2021
تجاوز مسار التسوية لا يعني الخروج من عباءة أوسلو فحسب، بل من كل أشباهها وتبعاتها. وحتى يكون هناك وعي صحيح لمشروع تحرر دون تصادم عنيف مع أعوان الصهاينة تجب مطالبة كل من يزعم نصرة فلسطين بقطع العلاقات مع الصهاينة الإرهابيين، ومع النظام الأمريكي الذي يرعاهم ويدعمهم ويحميهم ويعد القدس عاصمة لهم، وبإلغاء ارتباطهم بالمبادرة العربية لبيع فلسطين، لا تطهير هذه العلاقات المشينة وهذه المبادرة البلفورية بأموال إعادة الإعمار والترميم والعلاج. فإذا لم تقاطع الحكومات هؤلاء المجرمين فيجب التوقف عن مدحها وعن تأييدها وعن الدفاع عنها وعن التبرير لها وعن الجلوس مع حكامها ووزرائها وسفرائها، ثم مطالبة جميع الشعوب التي تزعم نصرة فلسطين بذلك أيضا.
كل هذا لمن يريد الخروج من مسار التسوية، الذي بدأ منذ الاستعانة بأصدقاء النظام البريطاني ثم بأصدقاء النظام الأمريكي ثم بأصدقاء الصهاينة، والاستعانة بصديق العدو تؤدي إلى قبول تدريجي بما كان مرفوضا من قرارات الأمم المتحدة، وإلى قبول بمبدأ الحركة الصهيونية وهو أن لليهود حقا في إقامة دولة لهم في فلسطين، ليكون الخلاف على مساحتها وعلى طريقة تعاملها مع أصحاب الأرض ومع الدول المجاورة، لا على أساس وجودها. وهذا يؤدي إلى اتفاقيات مثل اتفاقية أوسلو وصفقات مثل صفقة القرن.
من يعتقد فعلا أن التطبيع خيانة وأن فلسطين تستحق التضحية بالدم والروح لا يقبل أن يظهر أي ود للخائنين، مهما حاولوا خداعه بالمال والدموع والبيانات والمظاهرات والبرامج الإعلامية والمساعدات الشخصية والتبريرات والمقارنات. وهكذا يبنى الوعي الحقيقي، فتحصل المقاطعة الشعبية العالمية لكل الصهاينة وأعوانهم من الشركات والحكومات والقنوات والأفراد، على أساس واضح، دون محاباة.
أما من يريد نسف مسار تسوية ليبني مسار تسوية آخر فسيختلق المبررات ليظهر على قنوات عربية تستضيف صهاينة، أو ليقف مع حكومات لم تقاطع حتى الشركات التي وضعتها الأمم المتحدة في القائمة السوداء للشركات التي تعمل في المستوطنات في الضفة الغربية، أو ليدافع عن حكومات تستضيف قواعد أمريكية وتشتري أسلحة أمريكية جربها الصهاينة على الفلسطينيين، أو ليصفق لمن يمزق أوراق صفقة القرن ويعلن تمسكه بالمبادرة العربية.