بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تقف حركة فتح هذه الأيام أمام استحقاق تاريخي، لم تعد تملك منه مهربا، إذا أرادت التعامل معه بما يتوافق مع تاريخها وتضحياتها.
حركة فتح التي تركت بصمتها في التاريخ الفلسطيني الحديث، عندما أعادت إطلاق الثورة الفلسطينية 1965، وعندما سيطرت على منظمة التحرير الفلسطينية لتثويرها منذ 1968، والتي قادت النضال الفلسطيني على مدى سنوات طويلة، وقدمت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، آن لهذه الحركة أن تنتصر لتاريخها المقاوم، وأن تنسجم مع الإرادة الشعبية الفلسطينية، بعد أن أوغلت قيادتها في الاستئثار بالمؤسسات الرسمية، وبالمضي في مسار التسوية السلمية، وفي رعاية كيان وظيفي يخدم أغراض الاحتلال في الضفة الغربية، وبعد أن أوصدت قيادتها الطرق والأبواب في وجه إصلاح البيت الفلسطيني، وفي وجه تطلعات الشعب الفلسطيني، فعطلت وأفشلت مسار الانتخابات، وتسببت بحالة غير مسبوقة من السخط الشعبي، وبحال من الإحباط الشامل من إمكانية إجراء أي عملية إصلاحية تحت إشرافها.
نحن أمام لحظة تاريخية فارقة، جمعت بين غليان وغضب شعبي عارم تجاه قيادة السلطة وفتح نتيجة بؤس أدائها في الأيام الماضية، وبين حالة التفاف شعبي فلسطيني شامل في الداخل والخارج خلف المقاومة وبرنامجها، بعد الأداء البطولي في معركة “سيف القدس”، وفي الدفاع عن الأقصى والمقدسات. فمن الناحية الفعلية، تصدّرت حماس وقوى المقاومة المشهد الفلسطيني، وأصبحت المُعبِّر الحقيقي عن آماله وتطلعاته. وخلال الأسابيع الماضية استرجع الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، الأجواء التي صاحبت معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968، وأجواء الالتفاف والإجماع الشعبي حول خط المقاومة.
وكما مَلَكَ أحمد الشقيري الجرأة والمسؤولية الأدبية والأخلاقية في أن يُسلِّم راية قيادة منظمة التحرير لقيادة مرحلية مؤقتة في نهاية 1967، وكما بارك القائد التاريخي للشعب الفلسطيني الحاج أمين الحسيني لفتح استلامها للراية مع التوصية باستمرار نهج المقاومة، وبعدم التنازل عن أي جزء من فلسطين؛ فقد آن لقيادة حركة فتح أن تفسح المجال للإرادة الحرة للشعب الفلسطيني أن تأخذ مجراها، وأن توفر الغطاء ومستلزمات التغيير والتحديث السلس كافة في بنية النظام السياسي الفلسطيني.
نحن أمام نقطة تحوّل، لا ينبغي فيها لفصيل فلسطيني عريق أن يضع نفسه في مواجهة الحالة الشعبية العارمة. وإذا أراد أن ينسجم مع هويته وتاريخه وتضحياته، فعليه ابتداء وأساسا أن ينسجم مع إرادة شعبه، لا أن يكون عائقا في وجهها.
لم يعد ثمة مجال لفتح وقيادتها أن تستخدم التاريخ الريادي والنضالي، لتبرير سياسات ومسارات ومسلكيات مرفوضة شعبيا؛ إذ إن الانسجام مع التاريخ النضالي يستوجب مزيدا من النضال والتضحيات، لا تبريرا للتنازلات، ولا قمعا أو تهميشا لقوى الإصلاح وقوى التغيير؛ كما يستوجب تفعيلا للمؤسسات والشرعيات، لا تكريسا للهيمنات والوصايات. وإذا كان لفتح تاريخها ونضالها، فإن للفصائل الأخرى: حماس، الجهاد، الشعبية، الديمقراطية، تاريخها ونضالها. وباختصار، لم يعد ثمة مجال للاختباء خلف التاريخ لتبرير أخطاء الحاضر وكوارثه.
أمام قيادة فتح، في هذه اللحظة الفارقة، مسؤولية تاريخية تجاه الأنظمة العربية “المطبِّعة”، وتجاه القوى الدولية التي تسعى، بعد معركة سيف القدس، لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية وقيادتها، بما يتناسب مع محاولة الالتفاف على إرادة الشعب الفلسطيني، ومع تنفيس مكاسب المقاومة وتضييعها، وبما يتناسب مع محاولة نفخ الروح في المسار العبثي للتسوية، ومحاولة تقديم عكازات لكيان السلطة الوظيفي، حتى يتابع دوره في خدمة الاحتلال، وتوفير الغطاء للصهاينة لمزيد من تهويد الأرض والإنسان.
حذار أن تستخدم قيادة فتح تلك العكازات، أو أن يكون لها أقدام من طين وعجين، لتظل متمتعة بـ”شرعية” الاعتراف الخارجي، ولتضمن بقاءها بالاستناد إلى هذا الحائط المائل الزائف؛ لأنها ستظل شرعية مصطنعة يرفضها الشعب الفلسطيني، وسيكون من المؤسف أن تجد حركة ثورية مناضلة مثل فتح نفسها تتحول في نهاية أمرها إلى نموذج مشوه للأنظمة العربية الفاسدة المستبدة، هذا قبل أن يكون هناك تحرير، وقبل أن تكون هناك دولة. ولذلك؛ فحين يأخذ الشعب زمام المبادرة، فإن التاريخ لن يرحمها.
في هذه اللحظة التاريخية، ليس من حق قيادة فتح أن تعيد تسويق بضاعة أوسلو الفاسدة، ولا أن تسعى لأن تفرض على قوى المقاومة ما فشل فيه الاحتلال الصهيوني والجبروت الأمريكي والتواطؤ العربي. إن إصرار قيادة فتح على ما تسميه وحدة وطنية (في السلطة والمنظمة) تحت سقف التسوية أو الرباعية الدولية، أو ما يسمى زورا “الشرعية الدولية”، يجعلها تبدو أمام شعبها الأداة أو المَعبر الذي تستخدمه تلك القوى لتطويع الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة.
وفي هذه اللحظة التاريخية، على قيادة فتح أن تكون أكثر انسجاما مع قاعدتها التنظيمية والشعبية، التي تقبض على الجمر، والتي تتفاعل مع النشاط الانتفاضي والمواجهات ضدّ الاحتلال، ويدفع أبناؤها أثمانا غالية استشهادا وجراحا واعتقالا؛ والتي هتفت للمقاومة ولصواريخها، والتي تفعل ذلك ليس خدمة للتنسيق الأمني، ولا للكيان السلطوي الوظيفي، ولا لمسار تسوية ثبت فشله. هذه القاعدة التي تشهد غليانا وحراكا واسعا، تستحق أن تستجيب لها قيادتها في متابعة مسيرة المقاومة لنماذجها ورموزها، كأبي عمار وخليل الوزير وعبد الفتاح حمود وكمال عدوان وغيرهم من القادة الكبار. ومن ثَمّ، فعلى هذه القيادة أن تكون أكثر انسجاما مع خط المقاومة والدفاع عن القدس، وخط صناعة القرار الفلسطيني المستقل، بعيدا عن هيمنة الاحتلال ورعاته الدوليين.
ولعل اختبار المصداقية الأول والمستعجل أمام قيادة فتح الآن، هو في إثبات جديتها في استئناف مسار الإصلاح وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس حقيقية نزيهة وفعالة، وذلك من خلال تحويل قيادة هذا المسار إلى قيادة فلسطينية مؤقتة ذات طبيعة تمثيلية متوافق عليها، لتتولى بنفسها إدارة هذا الملف وإيصاله إلى نهاياته. إن الوضع الفلسطيني لا يحتمل ترف المناكفات ولا الهروب من المسؤوليات والاستحقاقات ولا تضييع الأوقات. أما إذا أصرت قيادة فتح على متابعة مسار الاستئثار والهيمنة، فيجب عليها أن تتحمل المسؤولية التاريخية عن الكوارث والدمار الناتج عن تعطيل وإفشال أساس جوهري في مشروع التحرير، وهو إقامة البنية المؤسسية الفعالة القادرة على قيادة الشعب في مواجهة المشروع الصهيوني.
المصدر: موقع ”عربي 21“، 28/5/2021
هذا مشابه لمقال “حركة فتح على مفترق طرق تاريخي” المنشور قبل 15 شهرا. رغم أنها لم تفعل ما كان مطلوبا منها عندما كانت على مفترق طرق تاريخي فقد قبلت القوى الآخرى بشروطها، فلماذا ستهتم بتلبية هذه الاستحقاق التاريخي فهي لم تتظاهر بمحاولة استثمار تدخل القوى الدولية لإيقاف إطلاق الصواريخ لكي تعقد انتخابات سلطة أوسلو في القدس؟
لو كان خصوم فتح يرفضون اتفاق أوسلو مبدئيا لرفضوا الدخول في انتخاباتها ولكان نقدهم للحكومات المتعاونة مع العدو وتلك المتنازلة عن الأرض المحتلة قبل عام 1967 بموافقتها على المبادرة العربية أشد من نقدهم لسلطة أوسلو الواقعة تحت الاحتلال العسكري والحصار الاقتصادي. ولو كانوا يرفضون استبداد حركة فتح ورئيسها بالسلطة وتلاعبه بالقوانين وخوفه من إغضاب “الشرعية الدولية” رفضا مبدئيا لما أبدو إعجابهم بأي نظام مستبد أو أي نظام بقي متعاونا مع النظام الأمريكي الذي انتهك تلك الشرعية بنقل سفارته إلى القدس.
أما لو نجح أفراد الشعب في إبرام عقد ثوري جديد كما يحاول مؤتمر المسار الفلسطيني البديل فهذا يعني عودتهم إلى الوضوح، وتخلصهم جميعا من هذه التناقضات، وتجاوزهم سلطة أوسلو وحركة فتح، بل كل الحركات المتصارعة على مصالحها، والمتلاعبة بالمبادئ الثورية التي قامت عليها.