إعداد: أ. زياد ابحيص.[1]
(خاص بمركز الزيتونة).
ملخص:
تنطلق الورقة من قراءة مشهد هبّات القدس الخمس، ومعركة سيف القدس، والضفة الغربية بتعقيداتها، والداخل المحتل 1948، وغزة إلى استنتاج تسعة عناصر دافعة نحو المواجهة؛ ثلاثة مركزية هي المواجهة على الأقصى، والشيخ جراح، وحراك الأسرى المتصاعد، وستة مساندة هي محاولة تهجير سلوان، ومجازر الهدم في القدس، والدفاع عن الهوية في مواجهة يهودية الدولة، والحراك ضدّ انتشار الجريمة، والسلاح المنفلت في الداخل المحتل، ومواجهة الاستيطان، والمواجهة على المقدس في نقاط أخرى في الضفة الغربية، واستمرار الحصار، وتأخير إعادة الإعمار في غزة؛ تقابلها حالة هشاشة غير مسبوقة صهيونياً، وسياقات إقليمية ودولية تعزز حالة الفراغ وتتيح مساحة استثنائية للفعل الشعبي وللمؤثرين الأصغر حجماً.
في المحصلة، ترى الورقة أن عناصر الدفع في مثل هذا الفراغ، وعناصر السكون والحفاظ على الحالة الراهنة التي تقابلها ستكون محصلتها مواجهة حتمية، تتفاوت بين مبكرة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021، أو متوسطة على خلفية العدوان على الأقصى في رمضان 1443ه – نيسان/ أبريل 2022 وهي الأكثر احتمالاً، أو متأخرة في أيلول/ سبتمبر أو تشرين الأول/ أكتوبر 2022. وانطلاقاً من ذلك تقترح الورقة خطوط سياسات للبناء على عناصر القوة، والذهاب إلى مواجهة معززة بالاستعداد المسبق في بيئة مواتية، ومن ثم تختتم بخريطة سياسات تفصيلية بحسب ظروف البيئات الجغرافية.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: القدس: ما بعد معركة سيف القدس؛ ما العمل؟ الوقائع الميدانية في القدس المحتلة وفلسطين، وآفاق التطور المحتملة، وخيارات مواكبتها والبناء عليها … زياد ابحيص (27 صفحة، 3.4 MB) |
مقدمة:
بعد مرور خمسة أشهر على وقف إطلاق النار في معركة سيف القدس، التي سبقتها خمس هبّات شعبية متتالية، ما يزال المشهد في القدس مشتعلاً ومتحركاً، إذ إن الوضع الذي نتج عن المعركة غير مسبوق: أن يبتلع الصهاينة التراجعات المتتالية، ويتلقون ضربات صاروخية على طول الجغرافيا المحتلة سنة 1948، ومع ذلك يتجنبون الدخول في حرب برية، ويحافظون على معركة بالنقاط مع محاولة صناعة انتصار تعبوي وإعلامي، والحضور القوي للتضامن الشعبي العربي والدولي الواسع بما فرض عزلة الموقف السياسي الصهيوني في الشيخ جراح؛ كل هذه مؤشرات على وضع مستجد يبدو أن كل الأطراف تستكشفه، ولا يبدو أن أي طرفٍ حتى الآن تمكن من بلورة رؤية واضحة للمضي فيه وجره لصالحه، وهو ما يحمل في طياته فرصة مهمة إذا ما بادرت المقاومة الفلسطينية إلى تطوير المشهد لصالحها. والورقة الحالية تحاول عبر عناوينها الثمانية؛ تقييم المشهد، وتقديم اقتراحات محددة تسمح بالمبادرة وجر المشهد في اتجاه يرجح كفة المقاومة.
أولاً: كيف تبلور الفعل المقاوم في معركة سيف القدس:
شكلت القدس جبهة الحركة والفعل منذ منتصف الانتفاضة الأولى، بدءاً من مجزرة الأقصى سنة 1990، مروراً بهبة النفق سنة 1996، ثم انتفاضة الأقصى سنة 2000، لكنها كانت في تلك المحطات قادرة على تفجير المشهد الفلسطيني بأسره، وهو ما تغير بعد انتفاضة الأقصى، وبالذات بدءاً من سنة 2007 مع بدء تجربة دايتون وصياغة “الفلسطيني الجديد”.
بقيت القدس بوابة التفجير الأساسية نتيجة مشروع إحلالٍ ديني صهيوني يصطدم بأقدس المقدسات الإسلامية، المسجد الأقصى المبارك، وستبقى كذلك ما بقيت هذه المعادلة، لكنها ما بعد كيث دايتون Keith Dayton كانت تذهب إلى هبّات محلية لا تتخطى حدودها، فلا تلتقطها حاضنتها الطبيعية التي هي الضفة الغربية، ولا تتمكن من عبور الحدود إلى الداخل المحتل سنة 1948، وتبقى المقاومة في غزة الساحة الوحيدة التي تحاول الالتحام بها أحياناً، وهذا ما جرت عليه الأمور في هبّة أبو خضير سنة 2014 ثم في انتفاضة القدس (هبّة السكاكين) سنة 2015—حيث استجاب أفراد مبادرون من الضفة والداخل المحتل لكن القدس بقيت ساحة الفعل المركزية—ثم في هبّة باب الأسباط سنة 2017، وهبّة باب الرحمة سنة 2019. طوال تلك المحطات كانت القدس تخرج إلى هبّات مؤقتة محدودة الهدف، تنتهي مع تحقيق أهدافها التي هي في الغالب أهداف منع مثل منع التقسيم الزماني في 2015، ومنع البوابات الإلكترونية في 2017، ومنع التقسيم المكاني انطلاقاً من باب الرحمة في 2019، ومنع إغلاق باب العامود في 2021.
بدءاً من الفجر العظيم في كانون الثاني/ يناير 2020 بدأت هذه المعادلة بالتغيُّر، وما بدأ فعلاً مبادرةً محدودةً في الخليل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أخذ يتحول إلى فعل فلسطيني وعربي وإسلامي جامع مع انتقاله إلى المسجد الأقصى المبارك في كانون الثاني/ يناير 2020، لكن هذا الفعل الجامع لم يكتب له أن يستمر، وقطعته إجراءات مكافحة جائحة كورونا (كوفيد-19 COVID-19)، وما حملته من منعٍ للتجمعات وُظِّف خصيصاً ضدّ تطور الفعل الشعبي الفلسطيني، لكنه لم يلبث أن استُؤنف واستعاد النفَس مع أول فرصة للتجمع في رمضان 1442ه في سنة 2021، وتمكن في هذه المرة على مدى هبّات متتالية من الخروج من محليته المقدسية ليتحول إلى حدث جامع عابر للجغرافيا الفلسطينية هو الأكبر والأوسع منذ انتفاضة سنة 2000.
في المحصلة إذاً؛ تحتفظ القدس بموقعها كصاعق للتحرك الشعبي مدفوع بحرب الإحلال الديني التي يشنها الاحتلال على الأقصى، والإحلال الديموجرافي الذي كان الشيخ جراح عنوانه وتدخل معه سلوان إلى الواجهة هذه الأيام، مع تمكنها لأول مرة منذ 14 عاماً من استعادة القدرة على تفجير فعلٍ جامع عابر للجغرافيا بعد عقد ونصف من استعصائه، وتضامنٍ دوليٍ واسع يستعيد موجات الانتفاضات السابقة على الرغم من التطبيع العربي، وهذه الفرص الثلاثة هي ما ينبغي البناء عليه والمضي به إلى الأمام: قدرة القدس على تفجير الفعل الشعبي، والفعل الجامع العابر للتقسيمات الاستعمارية، والتفاعل الدولي الواسع.
أما عناصر معادلة الردع المشاركة التي بدأت تتبلور عبر الهبّات المتتالية واكتملت مع معركة سيف القدس فهي: العمليات الفردية، والتحرك الجماهيري، والتفاعل الخارجي، وانخراط المقاومة المسلحة.
والعناصر الثلاثة الأولى تتحرك بنضوج ظروفها فقط، ولا توجد إرادة فلسطينية سياسية قادرة على استحضارها، ويبقى العنصر الأخير وحده تحت إرادة القرار السياسي لقيادة المقاومة، وهو ما يتطلب نوعين من التكيّف القيادي:
1. من السيطرة إلى المواكبة: الانتقال من استراتيجية التحكم بالفعل المقاوم إلى محاولة إنضاج ظروفه ثم مواكبته.
2. محاولة امتلاك عناصر أكثر: بحيث تتمكن قوى المقاومة من إدخال الفعل الفردي أساساً والتحرك الجماهيري والتفاعل الخارجي إلى حدّ ما إلى خانة القرار والإرادة، ولو نسبياً.
ثانياً: المشهد الميداني في القدس ما بعد المعركة:
تدفع نحو الاشتعال في القدس أربعة عناصر نشطة على الشكل الآتي:
1. المسجد الأقصى المبارك:
وهو عنصر الاشتعال المركزي، واشتعاله محكوم في الغالب بمعادلة الاقتحامات الصهيونية في مواسم الأعياد الدينية اليهودية أو القومية الصهيونية، خصوصاً مع تبني الاحتلال لأجندة التأسيس المعنوي للهيكل التي يحاول عبرها فرض الطقوس التوراتية الكاملة في الأقصى، مع احتمالية محدودة للجوء الحكومة الإسرائيلية إلى مبادرات عدوانية تجاه الأقصى في أوقاتٍ بعيدة عن تلك الأعياد، كما سبق أن حصل في هبّة باب الرحمة في 17/2/2019.
المواسم القريبة المرتقبة للتصعيد خلال المرحلة المقبلة اثنان هما: | ||
الموسم | التاريخ | العدوان المتوقع خلاله |
عيد الأنوار (الحانوكاه) |
28/11-4/12/2021: |
1. التركيز فيه سيكون على إدخال الشمعدان إلى الأقصى. 2. الرقص على أبواب الأقصى وفي داخل البلدة القديمة. 3. احتمالية إعادة فتح المعركة على باب العامود وباب الأسباط باعتبارها حيزاً عاماً للمتطرفين الصهاينة. |
عيد الفصح العبري |
16-22/4/2022 (الموافق 15-21 رمضان 1443هـ) |
1. محاولة ذبح قربان حيواني في الأقصى، بإدخال المذبح الحجري عند جهته الشرقية، وهو حلم قديم لجماعات المعبد وضعت برنامجاً عملياً له في 2007، ولها سياق سنوي متصاعد في محاولة فرضه منذ 2016، وتمكنت من أدائه على درجات القصور الأموية جنوب الأقصى في 2018، وحاولت تهريب قربانها الحيواني للأقصى في 2021، ومن الممكن أن تسعى لتحقيق هذا الذبح “خلسة” بتواطؤ من شرطة الاحتلال في 2022. 2. نفخ البوق في الأقصى. 3. الاقتحام بأعداد كبيرة. 4. أداء الطقوس الجماعية العلنية في الأقصى. |
في المحصلة، يوضح الجدول أعلاه أن الأقصى سيكون عنواناً ساخناً يدفع نحو المواجهة على مدى الشهور القادمة، وإذا كان التناظر الهجري – العبري السابق قد وضع يوم عيد واحد في رمضان هو ذكرى احتلال القدس، فإن التناظر الجديد يضع سبعة أيامٍ كاملة في رمضان هي لعيد الفصح أحد أعياد الحج، وأول الأعياد بعد موسم الانقطاع الطويل، ولذلك فهو مرشح لأن يكون عنوان انطلاقٍ نحو مواجهة شاملة أوسع من مواجهات رمضان 1442ه – نيسان/ أبريل 2021، وهذا يفرض ضرورة الاستعداد شعبياً لمواجهة واسعة في القدس، وضرورة مواكبتها الخارجية، واستعداد المقاومة المبكر لمعركة بكامل الإمكانات، بعد أن بادرت إلى صياغة معادلة ردعٍ في القدس عنوانها المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح، فعدوان الاحتلال في هذه الأيام سيجعلها مضطرةً إلى الرد.
2. حي الشيخ جراح:
كان تهجير حي الشيخ جراح العنوان الأول لانطلاق إنذار المقاومة، وهو ما يجعلها ملتزمة بمنع تهجيره، إلا أن المفتاح الأساسي لهذا المنع هو في استدامة الحراك الميداني في الحي، والتركيز الإعلامي عليه، والتضامن الدولي معه، مع بقاء تهديد المقاومة عنصر ردعٍ ماثل.
انتقل الاحتلال في الشيخ جراح من استراتيجية الثقة بقدرته على تنفيذ التهجير، ومحاولة تصوير قضية الشيخ جراح باعتباره قضية حقوقية تحلها المحاكم في إطار “السيادة” الصهيونية، إلى حصار الحي والضغط على أهله لدفعهم للهجرة الطوعية، وهو يعني على مستوى الوعي التراجع إلى الإقرار بعدم القدرة على التهجير بقرار، وخروج القضية من الملعب الصهيوني الداخلي، ما يضطر الحكومة الصهيونية لرمي كل ثقلها في مواجهة أهل الحي.
اليوم يسعى الاحتلال إلى جرّ أهل الشيخ جراح إلى تسوية منفردة عبر المحاكم، بشكل يفقد القدس قيمتها النضالية كقضية عالمية، ويفرغ كل التضحيات من معناها، وهذا يستدعي بالضرورة متابعة وقائع الحي عن كثب ومنع الاستفراد بأهله، ومواصلة دعمهم وإسناد حراكهم شعبياً وإعلامياً وسياسياً، وإبقائهم ضمن اهتمام المقاومة في حسابات التهدئة والتصعيد.
3. سلوان:
تشكل سلوان مركز مشروعات التهجير الجماعي الصهيونية لإفساح مساحة للمستوطنين في محيط المسجد الأقصى المبارك في نقطة يرون أنها تشكل امتداداً حيوياً للحي اليهودي جنوبي البلدة القديمة، ويمكن ربطها بلا عوائق بغربي القدس من الجهة الجنوبية عبر جبل صهيون. لكن الكثافة السكانية العالية لأهلها (نحو 58 ألفاً من السكان)، تجعل تحقيق هذا التهجير أمراً أقرب إلى المستحيل، وتجعل من سلوان ساحة مثالية لإشعال المواجهة الشعبية كلما تمادى الاحتلال في مشروعاته لتهجيرها.
الأحياء المهددة بالتهجير في سلوان على الترتيب بحسب القرب من الأقصى هي: حي وادي حلوة، البستان، بطن الهوى، وادي الربابة، وادي ياصول ثم عين اللوزة. التحدي الأبرز في سلوان هو توحيد الجهد، وتقليل التنافس البيني بين الأحياء لإبراز قضية كل منها كقضية منفصلة، والسعي للتعامل مع الأحياء الأهم والأقرب للتهجير، كمقدمة جبهة يجتمع عليها كل أهالي سلوان: وهي البستان وبطن الهوى تحديداً، وهي مؤهلة سكانياً وجغرافياً للعب هذا الدور.
4. هدم البيوت والهدم الذاتي:
على مدى السنوات الماضية، أطلق الاحتلال حملة مسعورة لتكثيف الهدم، فشهد مخيم شعفاط مجزرة هدم في آذار/ مارس 2018، ثم شهد وادي الحمص شرق صور باهر مجزرة أكبر في تموز/ يوليو 2019، ونسبة الهدم الذاتي آخذة بالتصاعد حتى باتت تشكل أكثر من ثلثي البيوت المهدومة، بما تحمله من آثار نفسية مدمرة على أصحاب تلك البيوت.
مع مواجهات رمضان 1442ه ومعركة سيف القدس بدأت الأصوات تتعالى بضرورة وقف الهدم الذاتي، والعودة إلى تحدي الاحتلال؛ فليقُم هو بالمهمة القذرة وليفعلها تحت وابل الحجارة والرفض، وقد تعزز ذلك مع تحدي أهالي حي البستان لإنذارات الهدم. وهذا الملف مرشح لأن يكون عنوان تحدٍّ ومواجهة تفتح باب العصيان المدني في القدس على مصراعيه، ولا بدّ من البناء عليه وتطويره باعتباره مقدمة للوصول بالقدس إلى سقف العصيان المدني في المواجهة القادمة.
ثالثاً: المشهد في الأراضي المحتلة سنة 1948:
يواجه المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة ثلاثة تحديات مركزية، يمكن القول إنها تشكل السياق السياسي فيه:
1. تحدي يهودية الدولة: بما يعنيه من إنهاء للمساحة الصغيرة من الخصوصية العربية التي كانت تسمح ببيع وهم المواطنة للفلسطينيين، وبما يتركه من آثار شاملة على اللغة والدِّين والثقافة والحضور والتوظيف، وهي اتجاهات تدفع الفلسطينيين نحو سؤال الهوية أكثر، ونحو تبني الجانب الدفاعي عنها، وهو ما يجعلهم أبعد عن خيار “الانخراط المجتمعي” تحت سقف الدولة الصهيونية.
لا بدّ أن يلحظ هنا أن التكيّف الفلسطيني يأخذ شكل التوجه نحو مساحات معيشية محددة مهجورة صهيونياً: نحو القطاع الطبي، وقطاع الإنشاءات، وقطاع المطاعم، وهو اتجاه يجعل الإضراب والعصيان المدني العربي ذا أثر قادر على تعطيل هذه القطاعات في حال اللجوء الشامل إليه، وأن التوزيع الديموجرافي يبقي التفوق الديموجرافي الصهيوني في شمال فلسطين المحتلة هشاً، وهي نقطة ضعف يجب العمل عليها والاستثمار فيها، بل يمكن للجوء الفلسطيني في لبنان أن يتحول إلى أداة فعالة لتعميق الأزمة، وهو أمر يتطلب مزيداً من التفكير والتجربة.
2. تحدي التهجير الداخلي والهدم: والذي يهدف لنزع الملكيات من الفلسطينيين وتحديدهم بالحد الأدنى من المساحة، ودفعهم لاستخدام جوازات السفر الإسرائيلية كأداة هجرة حول العالم، بما تتيحه لهم من آفاق بحسب الرهان اليميني الصهيوني، وهو رهان لم يتحقق حتى الآن. لقد كان هذا الهدم والتهجير أساساً مهماً لحراك بدو صحراء بئر السبع، ولدفع قطاع منهم من زاوية التجنيد في الجيش الصهيوني إلى زاوية استعادة الهوية تحت وطأة التهديد.
3. تحدي الجريمة ونشر السلاح المنفلت: وهي أداة محورية في تفتيت المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، وفي نشر النزاعات العشائرية والثأر، وفي تصفية النخبة الحية لهذا المجتمع. إلا أن الاستخدام المفرط لسلاح الجريمة في هذا الاتجاه كشف وجود أصابع صهيونية منظمة من خلفه، وأسهم التنظير لعنف المستعمر باعتباره أصل العنف في توجيه شباب معبأٍ ومتحفزٍ لإطلاق حراكٍ واسع في مواجهة شرطة الاحتلال، يتهمها صراحة بأنها أصل هذا العنف وسببه عبر الحراك الفحماوي الموحد وشعاره “الشرطة أصل الورطة”، وهذا الاتجاه مستمر بعد سيف القدس بل آخذ بالتصاعد ما يمهد لتجدد الحراك الشعبي لمواجهته.
تأتي هذه العناصر في مجتمع شهد صحوة دينية وقومية واسعة، وعملت فيه أطياف القوميين وأبناء البلد ثم الحركة الإسلامية على مدى عقود لإحياء وعيه الهوياتي، وفي إطار انخراط قطاعٍ واسع منه في معركة القدس من خلال الرباط وشدّ الرحال، واحتكاكهم بشرطة الاحتلال بوجهها الحقيقي في القدس، فباتت هذه الثلاثة أعلاه تدفع نحو خيار إحياء الهوية واستعادة الانتماء الفلسطيني في مجتمع تأثرت قطاعات واسعة منه بمشاريع إحيائية قومية وإسلامية عميقة، وهي آخذة بالدفع نحو خيار القطيعة الجذرية مع الاحتلال، وتبني خيار التحرر، وتراجع مساحات الانخراط، وتراجع خطاب انتزاع الحقوق من داخل الدولة وعبر النظام، وعزل “عرب الكنيست” أكثر، خصوصاً بعد تدجينهم وإدخالهم إلى لعبة التحالفات الصهيونية.
في المحصلة، فإن مناطق المثلث والجليل وقطاع عريض من صحراء بئر السبع باتت مهيأة لاستعادة الانخراط في نضال تحرري مع الضفة الغربية وغزة، وما ينقصها فعلاً هو طرح الخطاب السياسي المناسب لاستيعابها. وهو ما يتطلب مدّ جسور جديدة مع جماهير الداخل، وتخصيص إعلام تعبوي لهم، وتعزيز انخراطهم في حراك جماهيري مناصر للقدس ومناهض لقبضة الاحتلال في مختلف المجالات.
رابعاً: المشهد في الضفة الغربية:
تمكنت السلطة الفلسطينية من تحييد الضفة الغربية عن مشهد المقاومة منذ سنة 2005 وحتى الآن، على مدى 16 عاماً، من خلال أداتين مركزيتين؛ الأولى هي هيكلة مصالح قطاع عريض من الناس لتتوافق مع مصالح السلطة من خلال مشروع بناء الدولة الذي تبناه سلام فياض ورامي الحمد الله ثم محمد اشتية، وإن بوجه أكثر “فتحاوية”: قطاع عريض من الموظفين، قطاع خاص خدماتي، جيش من متلقي الرواتب بمختلف أنواعهم، تقدم لهم قروض استهلاكية كثيفة بضمانات قروض أمريكية للبنوك لتتوسع في الإقراض. أما الأداة الثانية فكانت الأجهزة الأمنية: أجهزة قائمة على جيل شاب، تُغسل أدمغتهم ويُشرَّبون عقيدة أمنية ترى في المقاومة عدوها الأوحد، مع تحويل كل القيادات التي شهدت انتفاضة الأقصى إلى التقاعد لمنع توريث ثقافتهم، وتوظيف الكثافة البشرية في الأطراف، قرى جنين والخليل، في القطاع الأمني بما يضمن ولاءهم ويجعلهم سيفاً مُسلَّطاً على المراكز المدنية؛ في استنساخ لتجربة الدولة العربية الحديثة في مختلف أقطارها المشرقية.
هذا المشهد القاتم حافظ على حياد الضفة في محطات فارقة منذ اختطاف المستوطنين في الخليل في 2014، وعملية مفترق مادما في نابلس بعد إحراق عائلة الدوابشة، والاقتحامات الصهيونية المتكررة لتصفية المقاومين مثل باسل الأعرج، ومحمد الفقيه، وأحمد نصر جرار؛ وعلى الرغم من الحروب على غزة، وعلى الرغم من هبّات القدس المتتالية، في أطول سباتٍ وتراجعٍ يفرض على الضفة في تاريخها، فحتى الفترة 1967-1987 كانت أكثر حيوية، إذ شهدت نشأة عمل فدائي مركز، ومجابهةً شعبية لمشروع روابط القرى.
اليوم تشهد الضفة حالة تغير بطيء من الأطراف إلى المركز، تحت ثلاثة عناوين مهمة:
1. المواجهة على المقدس: من خلال انطلاق الفجر العظيم من المسجد الإبراهيمي في الخليل، والتفاعل مع الفجر العظيم عبر الضفة الغربية بأسرها، ثم التفاعل مع هبّات رمضان 1442ه في القدس ومعركة سيف القدس على الحواجز ونقاط الاشتباك، وهو مرشح للتطور في قبر يوسف في نابلس، ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم، وفي نقاط أخرى رديفة كذلك، لكن يبقى مركزه الذي ينتظر الإحياء هو المسجد الإبراهيمي وشارع الشهداء في الخليل.
2. مواجهة الاستيطان: وتلعب قرى نابلس ورام الله الدور المحوري فيه، مثل بيتا في جبل العرمة ثم جبل صبيح من بعده، ومثل النبي صالح في مواجهة الجدار، ومثل سلواد التي تحمل ثقافة مقاومة عريقة تورثها من جيل إلى جيل، وهي نقاط تنتظر الاستثمار والاحتضان بأدواتٍ جديدة تتناسب مع طبيعة الفعل الفردي المبادر، والروح الجماعية العفوية حين تنطلق إلى الثورة. والواضح أن الاحتلال متنبه لخطورة احتضان هذه النماذج ولذلك يتعمد رفع ثمنها البشري، كما في بيتا التي ارتقى فيها ثمانية شهداء على مدى خمسة أشهر من الحراك.
3. تفجر قضية الأسرى: أدت إضرابات الأسرى المعتقلين إدارياً إلى إحياء الوعي القيمي الجمعي في مواجهة الوعي النفعي الفردي الذي تنشره السلطة الفلسطينية، بإضرابات سامر العيساوي، والشيخ خضر عدنان، ومحمد القيق وصولاً إلى مقداد القواسمي وكايد الفسفوس، وهي ما تزال تلعب دور “قرع الخزان” في بيئة يراد لها أن تموت. إلى جانب ذلك، جاءت عملية هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع لتشكل نموذجاً إيجابياً وتجربة انتصار حين كسروا السجان وخرجوا رغماً عنه، وشكلت في المقابل حالة إدانة مجتمعية للذات بعد أن عجز المجتمع الفلسطيني عن احتضانهم لأكثر من أيام، ومع محاولة الاحتلال الانتقام من أسرى الجهاد الإسلامي على العملية، وبدء حراكٍ واسع للأسرى، يمكن القول بأن قضية الأسرى بتراكمها باتت تشكل دافعاً أساسياً للمواجهة في الضفة الغربية، وينبغي البناء عليها في الترميز وفي حراك الشارع وفي استدعاء مختلف أشكال المقاومة الممكنة.
في الإجمال، لقد أنشأ اتفاق أوسلو Oslo Accords حاجزاً ما بين الجماهير والمواجهة، سواء على مستوى الحيز المكاني بتركيز معظم فلسطينيي الضفة في مراكز مدنية ليست على احتكاك مباشر مع الاحتلال، أم عبر سياسة تعميق النفعية الفردية والتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية للسلطة، وهذا حوَّل ساحة المراكز المدنية في الضفة الغربية باستثناء الخليل أقرب إلى “ساحات تضامن” شبيهة بالساحة الأردنية، بينما بقيت القدس والمناطق ج ساحات احتكاك مباشر، والخليل مساحة احتكاك جزئي، وهذا يقتضي تطوير استراتيجية ثلاثية الأوجه لتفعيل الضفة الغربية بما يتناسب مع واقعها المعقَّد.
خامساً: المشهد الصهيوني الداخلي:
يهيمن على المشهد الصهيوني الداخلي اليوم استقطاب سياسي بين كتلتين مانعتين لا تسمح كل منهما للأخرى بالحكم منفردة: كتلة اليمين القومي – الديني، وعلى رأسها الليكود Likud وبنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، واحتلت سدة الحكم مدة 20 عاماً متواصلة، وناضلت نضالاً مريراً لمنع تخليها عن الحكم، وللحفاظ على المجد الشخصي لقائدها نتنياهو؛ وكتلة من الوسط واليمين العلماني، الذين يجمعهم أمران فقط: نزعتهم نحو علمانية الدولة، وهي مظلة فضفاضة، وعداؤهم الشخصي لبنيامين نتنياهو.
أسفر هذا الصراع الشخصاني عن دفع جزء من كتلة اليمين مؤقتاً نحو المركز لإسقاط نتنياهو، في حكومة تناقضات تحمل أغلبية 60 نائباً فقط، ولها رئيسا وزراء متناظران عملياً ويمكن لكل منهما تعطيل الآخر، وهو ما يجعلها أكثر الحكومات الصهيونية هشاشة، لكن هذه الهشاشة لم توضع على المحك كما يجب حتى الآن. المفارقة المهمة أن هذه الحكومة يرأسها رئيس أصغر أحزابها، حيث يُمثِّل كتلة منشقّة عن اليمين، وهو أقرب من نتنياهو إلى جماعات الهيكل، ويسعى جاداً إلى استمالتها، على الرغم من أنه يقود حكومة مركزٍ علمانية، لعله يقنعها بنقل تأييدها من نتنياهو إليه، فيصبح زعيم اليمين الأوحد.
محصلة هذا المشهد؛ ائتلاف حكومي شديد الهشاشة، لكنه مرشَّح للذهاب إلى خطوات متطرفة ضدّ الأقصى والقدس في الوقت عينه، وهي وصفة تقصر عمر فترة الهدوء الهش الحالية، وتجعل المواجهة أقرب، فالحكومة الهشة تفيدها المواجهة العسكرية لحشد التأييد خلفها، وهي مهيأة للذهاب إليها سريعاً نتيجة تطرف رئيسها.
سادساً: المشهد الإقليمي والدولي:
يحيط بتطورات المشهد الفلسطيني والصهيوني سياقان إقليميان هما سياق الثورة والثورة المضادة وسياق التطبيع، وآخران دوليان هما تراجع نفوذ الولايات المتحدة وتأرجح أولويات سياساتها الخارجية مترافقاً مع صعود منافسين دوليين يزداد نفوذهم ببطء، والسياقات الأربع تدفع في المحصلة لزيادة مساحات الفراغ والرخاوة في محيط فلسطين، ما يجعلنا أمام فرصة تاريخية استثنائية للقوى الصغيرة كي تصنع تأثيراً لم يكن ليتاح لولا الفراغ.
سياقان إقليميان:
1. سياق الثورة والثورة المضادة: وقد شهدت المنطقة الموجة الأولى فقط من الثورات والرد عليها، وقد أدت إلى إنهاء مركزية دولة ما بعد الاستعمار (العربية) كفاعل سياسي، وإعلان فشلها على الجبهات الداخلية والخارجية مع بقاء مهمة وحيدة عارية لها هي إجهاض الإرادة الشعبية. هذا السياق له نتيجتان مهمتان: الأولى تقليل قدرة دولة ما بعد الاستعمار على التحكم بالمشهد السياسي الفلسطيني، وهو ما يعطي قيادة المقاومة وقيادة السلطة هامشاً واسعاً من الحرية، كما أنه يفتح الآفاق أمام الفعل الشعبي الفلسطيني، والفعل الشعبي العربي المناصر له انطلاقاً من التحدي العملي لإجراءات المنع والتضييق والحصار. ودول الخليج هي الاستثناء الوحيد لهذا الهامش حالياً، لكنها لن تلبث أن تنضم لها خلال سنوات، إذ إنها مرشحة لحراك داخلي قوي فَعّال، قد يتمكن من قلب شروط اللعبة في البيئة السياسية والمواقف العربية والدولية، وعلى رأسها قضية فلسطين. أما النتيجة الثانية فهي ترقّب موجة مقبلة من الثورات خلال سنوات يمكن لها أن تكون أكثر جذرية وأكثر قدرة على اجتثاث بُنى “الدولة العميقة”، وهو ما سيتيح فرصة جديدة لنجاح الثورات في الحسم ضدّ الإرادة الاستعمارية.
2. التطبيع مع الاحتلال بشكل أقرب إلى التحالف: وهو مع بنية النظام الرسمي الحالي تطبيع لا يزيد الصهاينة قوة، لكنه يزيد تلك الكيانات العربية ضعفاً، وقد اختُبر صدق هذه المعادلة في رمضان 1442ه ومعركة سيف القدس، فالوفود الأمنية الإماراتية التي اقتحمت الأقصى واحتفلت على منصة حائط البراق في عيد الحانوكاه Hanukkah لم تُجدِ نفعاً في تمكين الاحتلال من إغلاق ساحة باب العامود، دع عنك عجزها في أن تمضي بأكثر من ذلك. الخطورة في هذا التطبيع هو نجاحه تحت مظلة التجييش الطائفي في تحويل إيران إلى عدو أهم من “إسرائيل” في ذهن الكثير من العرب السنّة في المشرق العربي، وهو خطاب يسهم بعض المنتمين إلى التيار الإسلامي في التمهيد له بكل أسف بتقديمه المفرط للعداء الطائفي على التناقض الرئيسي مع الخطر المركزي الداهم على أمتنا؛ العدو الصهيوني.
سياقان دوليان:
1. التراجع الأمريكي النسبي وتأرجح السياسات الأمريكية: تشهد الولايات المتحدة تراجعاً ملحوظاً في إمكاناتها بما يسمح بمواصلة لعب دور شرطي العالم، وقدرتها على تحمل أعباء الانتشار العسكري الواسع، والجبهات المفتوحة في جهات العالم الأربع، يعززه استقطاب داخلي يتأرجح ما بين يمين جمهوري متطرف وحزب ديموقراطي آخذ بالتوجه نحو اليسار، ونحو حقوق المهاجرين والأقليات، وهو ما يجعل السياسة الخارجية تبحر شرقاً لأربع سنوات ثم غرباً لأربع أخرى، ويترك دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة أمام معضلة المحصلة الصفرية. هذا السياق قد تترتب عليه ثلاث نتائج مهمة: الأولى تراجع التفوق الصهيوني كناتج عن تراجع التفوق الأمريكي وهو النتيجة الأبرز والأهم، والثانية تبنّي قطاع عريض من الشباب الأمريكي المناصر للخطاب الحقوقي موقفاً نقدياً للسياسات الصهيونية باعتبارها عنصرية، والثالثة العزلة الآخذة بالتوسع ما بين يهود الولايات المتحدة ويهود الكيان الصهيوني، فبينما ينحاز معظم يهود الولايات المتحدة نحو الخطاب اليساري الديموقراطي لاستدامة أفق حضورهم في النظام الأمريكي، تنحاز النخبة السياسية اليمينية الصهيونية إلى اليمين المسيحي العنصري المكافئ لها في الحزب الجمهوري، وهو اتجاه يمكن أن ينذر بتراجع دور اللوبي الصهيوني وتراجع الإقبال على العمل فيه والتبرع له من قِبل يهود الولايات المتحدة.
2. صعود المنافسين وتطور التحدي للنفوذ الأمريكي: متمثلاً بالصين أساساً، وبروسيا ثانياً، وهو ما يتكرس كل عام من خلال الحروب التجارية، والهجمات السيبرانية، والاتهامات المتبادلة بالتدخل في الانتخابات والسياسات الداخلية، ومبادرة الحزام والطريق الصينية، ونزعة الصين المستجدة نحو تأسيس قواعد عسكرية بحرية لها خارج حدودها، والتنافس الروسي الأمريكي في الصواريخ فائقة السرعة، لكن كل هذا يمضي أبطأ من سرعة التراجع الأمريكي، ما يجعل تلك القوى لا تملأ كل ما تتركه الولايات المتحدة من فراغ. وهذا السياق له نتيجتان مهمتان على فلسطين: الأولى أنه يتيح مساحة من الفراغ يمكن للاعبين الصغار الاستفادة منها، خصوصاً وأن فرص التفاهم الصهيوني مع الصينيين والروس تبقى أقل بكثير من حالة الاحتضان الأمريكي المطلق، والثانية أنها تدفع الولايات المتحدة للنزوع لتقليل انخراطها في منطقتنا والتفرغ أكثر لهذا الاستقطاب الدولي المتصاعد، ما يفرض ضرورة التسوية مع إيران، ويعيد تعريف الدور الأمريكي في أمن الخليج، ويلقي أعباء حماية المنطقة على الصهاينة وهم غير قادرين عليها.
سابعاً: احتمالات تطور المشهد في الأفق المنظور:
في الصورة العامة، نحن أمام اتجاهات دفع فلسطينية قوية نحو المواجهة لكن في بيئة معقدة، وحالة هشاشة صهيونية غير مسبوقة، في إطار من الفراغ الإقليمي والدولي، ما يجعل الاتجاهات الدافعة عنصر الحركة الأساس تقابله عناصر سكون تخلو من إرادة دفعٍ حقيقية مقابلة، وهذا ما يدعو إلى الاستنتاج إلى أن هذه العناصر ستتمكن من دفع المشهد نحو المواجهة في مدىً زمني قصير.
العناصر الدافعة تسعة، تقع في مركزها ثلاثة اتجاهات أساسية دافعة: المسجد الأقصى، والشيخ جراح، وقضية الأسرى، تسندها خمسة اتجاهات مواجهة أقل دفعاً هي تهجير سلوان، ومجازر الهدم في القدس، ومواجهة الاستيطان في الضفة، ويهودية الدولة، والجريمة، والسلاح المنفلت في الأراضي المحتلة سنة 1948، ويضاف إليها استمرار الحصار، وبطء إعادة الإعمار في غزة، ويمكن الوصول إلى شبكة من العناصر الدافعة للمواجهة مشدودة على مركز أساس هو القدس وموزعة على جغرافية فلسطين بمختلف تقسيماتها الاستعمارية.
في ظلّ مشهدٍ كهذا، فإن المواجهة ليست فقط محتملة بل مواتية من طرف المقاومة الفلسطينية، فهي ستكون أكثر الأطراف استفادة من أي مواجهة، وقد أثبتت الأحداث منذ 2015 أن القدس لم تخرج إلى مواجهة إلا وعادت منها منتصرة، وفي ضوء المعادلة الحالية لا يغدو من المغامرة القول أن فرض التراجعات على الصهاينة هو النتيجة الحتمية لأيّ مواجهة شعبية وعسكرية يخوضها الشعب الفلسطيني، وأن بدء الفعل العسكري من نقطة اشتعال شعبي أثبت أنه رافعة مهمة للنجاح وتغيير المعادلات.
انطلاقاً من ذلك، فإن المواجهة مرشحة وفق أحد السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: الانفجار المبكر:
أي في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021 خلال موسم “عيد الحانوكاه” أو الأنوار العبري، نتيجة إشعال شمعدان الأنوار في الأقصى في حال حصوله، والعدوان الواسع التالي له، وأي حدث مفاجئ في الضفة الغربية والأرض المحتلة سنة 1948 يمكن أن يعزز هذا الاتجاه. هذا يتطلب الاستعداد النسبي لإمكانية الذهاب لمواجهة عسكرية مؤقتة أو طويلة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021 على الرغم من قربه، والأهم الاستعداد الميداني لمواكبته بالفعل الشعبي بالإرباك الليلي والبالونات، بما يعيد التحام الفعل الغزي مع القدس، ويفوت على المحتل فرصة إعادة المقاومة إلى مربع المقايضة على مساحة الصيد والوقود والكهرباء والمنحة القطرية، والاستعداد لمواكبة واسعة للأحداث إعلامياً وتعبوياً ومالياً بكل الإمكانات المتوفرة.
السيناريو الثاني: معركة واسعة في رمضان 1443ه:
أي في شهر نيسان/ أبريل 2022، انطلاقاً من أيام الاقتحامات السبعة المرتقبة في منتصف شهر رمضان 1443ه، التي سيكون عسيراً جداً على نفتالي بينيت Naftali Bennett منع الاقتحامات فيها، وهو المتدين الذي يؤمن بهذا العيد باعتباره أحد “أعياد الحج”، مثل هذا التراجع سيكون انتحاراً سياسياً بالنسبة له. الاستباق الصهيوني سيكون من بداية رمضان، ولا بدّ للاستعداد لفتح معركة الاعتكاف المبكر الذي يحاول الصهاينة والأوقاف معاً حصره بالعشر الأواخر من رمضان. في حال تمكنت جماعات المعبد من تهريب قربان للأقصى وذبحه فإن الاشتعال سيكون شبه مؤكد، ولا بدّ من التعبئة المسبقة بهذا الاتجاه.
السيناريو الثالث: تأجيل المواجهة مع استمرار تراكم أسباب الاحتقان:
وهو يتطلب بالضرورة تفويت فترة عيد الفصح بحد أدنى من الاستفزاز خلال رمضان 1443ه، لكنها في هذه الحالة ستعود للتصاعد في ذكرى يوم توحيد القدس ثم خراب المعبد، وصولاً لموسم الأعياد الطويل الذي سيتزامن مع ذكرى المولد النبوي الشريف مع نهاية أيلول/ سبتمبر ومطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022. على مدى سبع سنوات سابقة وقعت فعلياً خمس هبات، متوسط الفارق بينها 17 شهراً، والمسافات الفاصلة بينها عملياً كانت كالتالي: بين الأولى والثانية 15 شهراً، وبين الثانية والثالثة 21 شهراً، وبين الثالثة والرابعة 17 شهراً، وبين الرابعة والخامسة 26 شهراً (بسبب إجراءات مكافحة كورونا ومنع التجمعات).
إن كانت الهبّة التالية ستسير على المتوسط الحسابي نفسه، فإن موعدها المقدر هو شهر أيلول/ سبتمبر 2022، لكن النتيجة المشرفة والمعنويات العالية التي خرجت بها الجماهير من الهبّة الأخيرة، وتغير التناظر الهجري – العبري ليتقاطع عيد الفصح العبري مع رمضان 1443ه؛ كلها ترجِّح أن يكون رمضان 1443ه الموافق نيسان/ أبريل 2022 موسم الاشتعال المقبل، وهو مرشح للذهاب إلى أبعد مما ذهبت إليها الهبّات والمواجهات الحالية في حال استمرت الظروف الحالية، أو في حال انفراط عقد الحكومة الصهيونية الحالية، أو تخلخل قبضة السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية، وهو ما يجعل السيناريو الثاني هو المرجح، وهو ما ستمضي التوصيات في التعامل معه.
ثامناً: خطوط عامة للسياسات:
التوصية المركزية هي الاستعداد المبكر لمواجهة شاملة مشابهة لما حصل في رمضان 1442ه، الموافق لشهرَي نيسان/ أبريل وأيار/ مايو 2021، مع كون الموعد الأكثر ترجيحاً لها هو شهر نيسان/ أبريل 2022 وتحديداً ما بين 15-21 رمضان 1443ه، في موسم الفصح العبري، والدفع باتجاهها والتعبئة لها، وفعل كل الممكن لتكون الخليل نقطة اشتعالٍ موازية خلالها، مع تخصيص مساحة جادة من التفكير في إمكانية استدامتها لعدة أشهر، والسبل الكفيلة بذلك بما فيها تخفيف العبء عن غزة، أو الذهاب لتصعيدات متتالية تليها اتفاقات تهدئة هشة لا تلبث أن تُكسر مستفيدة من استمرار الفعل الشعبي، بما يجعلها تنتهي بإنجازاتٍ مؤكدة تترجم جغرافياً في القدس والضفة الغربية.
أما التوصيات التفصيلية فمنهجيتها الأساسية هي البناء على العناصر الدافعة التسعة، والتعامل معها مع إدراك كونها تؤسس لنضوج ظروف انفجار عفوي وليست عوامل مسيطراً عليها من قبل أي فصيل مقاوم أو حتى فصائل المقاومة مجتمعة:
عنصر الدفع | خط السياسات المقترح لتفعيله والبناء عليه |
العناصر الدافعة المركزية (3 عناصر) | |
المواجهة في الأقصى | التعبئة الشعبية: التحضير لمواكبة مواسم التصعيد المقبلة بالاستباق بالتعبئة، وتوضيح العدوان الصهيوني المرتقب خلال كل عيد، والتحريض المستمر على التحرك من جهة ودعم الميدان من جهة أخرى، ومواكبته بحراك شعبي نشط بالإرباك والبالونات على غلاف غزة وعبر العالم العربي والإسلامي لتكريس ارتباط الفعل الغزي المقاوم بمختلف أشكاله بالقدس. |
الشيخ جراح | منع الاستفراد بأهل حي الشيخ جراح ميدانياً، ومواكبة كل موعد محكمة لهم إعلامياً وميدانياً، والحفاظ على نقل رسائل تهديد حول الحي عبر الوسطاء، وإدخال عناصر جديدة ترجح كفتهم أكثر في المواجهة، مثل: فتح ملف ملكيات اللاجئين ما قبل سنة 1948 انطلاقاً مما تفعله المحكمة الصهيونية في الشيخ جراح، وتفنيد الرواية الصهيونية الكاذبة حول أصل الملكية، وإبطال وثيقة الملكية المزورة في المحاكم التركية، وفتح باب الحديث عن تعويضات سابقة تلقاها المستوطنون عن هذه الملكية المزعومة من أملاك اللاجئين الفلسطينيين في البقعة والطالبية. |
حراك الأسرى | تصعيد الحراك: من خلال مواصلة ترميز الأسرى ونضالاتهم، وتوسيع قاعدة الحراك المناصر للأسرى المضربين، ومواكبة كل ما تقوم به الحركة الأسيرة من تحركات بتحركات شعبية مناصرة. |
عناصر الدفع المساندة (6 عناصر) | |
محاولة تهجير سلوان | توحيد الصف: استثمار الكثافة العددية والموقع الجغرافي لإطلاق حالة مواجهة شعبية، والسعي لتوحيد الجهد الشعبي في رأس جبهة تتمثل في حيي البستان وبطن الهوى، مع مواكبة مواعيد المحاكم لكل الأحياء بأنشطة شعبية تتركز في هذين الحيين وخيمتهما التضامنية. |
مجازر الهدم في القدس | الدفع نحو سقف العصيان المدني: توظيف كل حالات الهدم للتحريض ضدّ الهدم الذاتي، وترك “المهمة القذرة للمحتل”، والامتناع عن دفع الغرامات والبدلات المترتبة على قيامه بالهدم، وصولاً إلى الامتناع الجمعي عن دفع كل الضرائب والغرامات لبلدية الاحتلال، واستهداف أدوات جبايتها. |
مقاومة الاستيطان | منع الاستفراد وتكرار النموذج: أولاً من خلال حراك مناصر يمنع الاستفراد بقرية بيتا، ويهدد بتحوُّلها إلى عنصر غضب حتى في المراكز المدنية التي تتحكم بها السلطة، وترميز التجارب لبث روح استنساخها ونشرها، واستحضار السوابق التاريخية، مع التركيز على نقاط محددة للبدء منها لتكرار التجربة مثل النبي صالح، وسلواد. والاستثمار بأدوات تيار الوعي وليس بأدوات الاتصال التنظيمي. |
الجريمة المُهدَّفة في الداخل المحتل | تعزيز الحراك الشعبي: دعم الحراك المحتج على الجريمة إعلامياً، وتكثيف الحديث عن فوضى السلاح والجريمة كأداة مُهدَّفة لتفتيت المجتمع، وتصعيد سقف العنف الشعبي في مواجهة شرطة الاحتلال، بشكل يحضر للانفجار المواكب لانفجار القدس المرتقب. |
حماية الهوية في مواجهة “يهودية الدولة” | توحيد المشروع تحت سقف التحرر: طرح الخطاب السياسي المناسب لاستيعاب الجماهير المتزايدة التي باتت أقرب إلى خطاب التحرر، ومدّ جسور جديدة مع جماهير الداخل، وتخصيص إعلام تعبوي لهم، وتعزيز انخراطهم في حراك جماهيري مناصر للقدس، ومناهض لقبضة الاحتلال في مختلف المجالات. |
استمرار الحصار وإبطاء الإعمار | منع الانجرار إلى تسوية موضعية: يحاول الاحتلال إعادة المقاومة في غزة إلى قواعد الاشتباك والتصعيد على أسس غزية محلية، ومنع اتصالها بمشهد القدس بكل الوسائل السياسية الممكنة. وهذا أحد الدوافع لتفعيل التفاوض على صفقة الأسرى، لمنح المقاومة “كعكة بديلة” تنسى بها القدس. المطلوب الحفاظ على الاتصال مع وقائع الأقصى والشيخ جراح كأساس لا يغيب عن مفاوضات التهدئة وتهديدات التصعيد ورسائل الوسطاء، مع توظيف مناورات المحتل ضده. |
خريطة السياسات بحسب الجغرافيا | |
الجغرافيا | تفصيل السياسات المقترحة |
القدس | 1. التعبئة الشعبية: التحريض المسبق قبل الأعياد، والدعوة إلى حراك استباقي، والمواكبة، مع التسخين للوصول لنقطة انفجار مركزي في شهر نيسان/ أبريل 2022.
2. منع الاستفراد بحي الشيخ جراح، وإعادة احتضانه جماهيرياً وإعلامياً، وعودته لمركز الاهتمام السياسي وجزءاً من خطاب المقاومة. 3. توحيد جبهة سلوان في خيمة مركزية للبستان وبطن الهوى مجتمعين، مع مواكبة مواعيد المحاكم لتصعيد الحراك الجماهيري. 4. رفع السقف نحو العصيان المدني، انطلاقاً من مجازر الهدم. |
المناطق ب، ج | 1. منع الاستفراد ببيتا بحراك مناصرة واسع.
2. محاولة استنساخ تجربة بيتا في البؤر المناسبة، مثل النبي صالح وسلواد. 3. الدفع باتجاه الاشتباك على المقدس، من خلال قبر يوسف شمالاً ومسجد بلال بن رباح جنوباً. |
الخليل | 1. تعزيز الاشتباك على المُقدَّس، وتحديداً على المسجد الإبراهيمي، ومزاوجة مسار التعبئة لنصرة الأقصى بتعبئة لنصرة المسجد الإبراهيمي.
2. التعبئة الشعبية لكسر إغلاق شارع الشهداء، ومنطقة شرق الخليل عموماً، بشكل يستعيد الاشتباك الشعبي الواسع مع الاحتلال والمستوطنين. |
المراكز المدنية في الضفة | تعزيز الفعل المناصر: ما دامت الوقائع قد فرضت التحول إلى التضامن فلا مبرر للقعود عنه، وبذل كل الممكن واستعادة الحراك الجماهيري الداعم لاتجاهات الفعل أعلاه وتركيزه ضدّ المحتل وليس ضدّ السلطة. فالسلطة تلقائياً ستستعديه. |
الداخل المحتل سنة 1948 | 1. مدّ جسور التواصل بخطاب يستعيد توحيد السقف تحت مشروع التحرر، ويقدم حلاً ناجزاً لمعضلة الهوية.
2. تعزيز الحراك ضدّ شرطة الاحتلال، وذلك على خلفية نشر الجريمة والسلاح المنفلت، وتوظيفه كعنوان تسخين يسمح بالتأسيس لانتفاضة مواكبة لانفجار القدس المرتقب في شهر نيسان/ أبريل. |
قطاع غزة | 1. منع الانجرار لتسوية موضعية، على أساس أولويات تخفيف الحصار وإعادة الإعمار باعتبارها الأسس الوحيدة للتهدئة والتصعيد مع غزة.
2. منع تحويل التفاوض على صفقة للأسرى بديلاً عن الالتحام في معركة القدس، بالحفاظ على القدس حاضرة في التفاوض والرسائل والخطاب السياسي مع تفعيل التفاوض على صفقة التبادل. 3. التعبئة الشعبية: الحفاظ على خط التسخين الشعبي على السياج انطلاقاً مما يحصل في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل، باعتبار الفعل الشعبي بوابة اللُّحمة مع الفعل الشعبي في كل تلك الأجزاء من فلسطين. |
الخارج بدءاً من دول الطوق | التعبئة الشعبية: بإبقاء الوعي الشعبي مواكباً لتطورات المشهد في القدس، تحضيراً لاحتضان الانفجار الشعبي المرتقب في القدس في شهر نيسان/ أبريل 2022. |
[1] باحث متخصص في شؤون القدس، حائز على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأردنية، ويواصل دراسة الدكتوراه في الجامعة ذاتها. عَمِلَ رئيساً لقسم الإعلام والأبحاث في مؤسسة القدس الدولية في الفترة 2004-2007، وشغل موقع المدير التنفيذي فيها في الفترة 2008-2010، وهو حالياً باحث متعاون معها. يكتب مبحث القدس والمقدسات في التقرير الاستراتيجي الفلسطيني مع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات منذ سنة 2009.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: القدس: ما بعد معركة سيف القدس؛ ما العمل؟ الوقائع الميدانية في القدس المحتلة وفلسطين، وآفاق التطور المحتملة، وخيارات مواكبتها والبناء عليها … زياد ابحيص (27 صفحة، 3.4 MB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 22/11/2021
أضف ردا