إعداد: د. عماد الحوت.[1]
(خاص بمركز الزيتونة).
يمرّ لبنان اليوم بظروف صعبة تهدّد استقراره السياسي والاجتماعي، بعد أن زادت حدّة الصراع السياسي الداخلي والتوترات على مستوى المنطقة إلى درجة تهدد بانفجار كبير. إنّ طبيعة التركيبة الديموجرافية في لبنان، وطبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية، تجعل أي خلاف في لبنان يتحوّل بسرعة إلى مستوى عالٍ من الاستقطاب. ولبنان يعاني منذ أواخر 2019 استقطاباً سياسياً حاداً وأزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية، في مشهدٍ تتصارع فيه مصالح دول إقليمية وغربية. قد لا تكون الأزمة الحالية هي أولى الأزمات التي عصفت بالبلاد، فقد سبقتها أزمات كبرى منذ إنشاء دولة لبنان الكبير سنة 1920، ولكنها الأخطر كونها أصبحت متشعبة لدرجة أن لبنان أصبح يتأرجح بين حدين: وبينهما احتمالات متعددة بعضها يصل إلى تعديل في بنية النظام.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: الأزمة اللبنانية.. التوقعات والمسارات … د. عماد الحوت (23 صفحة، 1.9 MB) |
أولاً: المحددات الأساسية للمشهد اللبناني:
1. تركيبة طائفية هجينة:
لم يفلح لبنان منذ تأسيسه في تكوين هوية وطنية موحدة؛ إذ صنع الفرنسيون زعماء متعدّدين لمجموعات طائفية متعدّدة، ووزعوا الحصص عليهم، فطغت على صورة لبنان منذ تأسيسه مخاوف الأقليات وصراعات الطوائف، ما أسقط المفهوم الوطني الجامع من قاموس اللبنانيين وأدّى إلى وجود رؤى متناقضة ومتصارعة بين الفئات اللبنانية حول مختلف القضايا نتيجة استثمار الزعماء لهذا المناخ وتعميق جدار الخوف المتبادل بين المكونات، مما حوّل التعددية من نعمة يمكن استثمار تنوّعها إلى نقمة ولّدت أرضية خصبة لتكرار الأزمات كل 15 إلى 20 سنة، كما أنتجت مجموعة من التعقيدات أهمها تواطؤ الزعماء على بناء منظومة محاصصة وفساد واستباحة المال العام، وإيجاد أحزاب عميقة داخل الدولة، وإضعاف متعمّد لمنظومة الدولة لكسب ولاء المواطن وتحويله إلى رقم لدى الزعيم بدل أن يكون مواطناً في الدولة، واستقواء زعماء الطوائف بالخارج لزيادة وزنهم السياسي مما ساعد على تحويل لبنان إلى ساحة من ساحات الصراع الإقليمي والدولي.
تحكم الحسابات الطائفية قرارات القوى اللبنانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى هذه الأركان استندت مكونات السلطة كي تستقطب الناس، وتواجه خصومها، وتستدعي القوى الإقليمية لدعمها، وتبني إمبراطوريات مالية وسياسية يصعب اختراقها. وبموجب هذه المعادلة، تقاسمت القوى السياسية وظائف الدولة وخيراتها، وتراجعت الدولة لصالح الطوائف والأحزاب، كما تراجعت المواطنية لصالح الزبائنية التي حرمت المواطن من حقوقه ما لم يمر عبر هذه القوى حصراً وزعمائها بشكل أدق، وأخيراً أصبح هناك فائض قوة لدى أحد المكونات يسعى إلى ترجمة سياسية.
2. بنية اقتصادية هشة:
إن الأزمة الاقتصادية اللبنانية هي أزمة مركّبة من عدة عوامل:
أ. ضعف في البنية الاقتصادية واعتماد على اقتصاد ريعي غير إنتاجي، بسبب السياسات النقدية التي أعطت مجالاً للخدمات وجذب الاستثمارات الخارجية على حساب الاقتصاد المنتج، وهي قطاعات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما. ولقد اعتمدت البنوك سياسة جذب العاملين في الخارج ليدّخروا أموالهم لديها، لكن سرعان ما نفدت أموال المودعين بسبب إدمان الحكومة على الاقتراض لسداد فواتير الإنفاق غير المحسوب من قبل السياسيين.
ب. سوء إدارة وفساد منظّمين ومتراكمين، فهناك تقارير تشير إلى نهب حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبدّدت. في المقابل، لم تحصل أي إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب المحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية.
ج. انتقال الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى الأرض اللبنانية، وبالتحديد على الجبهة المصرفية، ما ترتّب عليه حظر قدوم الدولار إلى لبنان بحكم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على النظام السوري وعلى حزب الله، واتهام بعض المصارف اللبنانية بخرق تلك العقوبات.
د. وقف دول الخليج الدعم المالي والاستثمارات في لبنان مع تنامي نفوذ إيران في البلاد.
هـ. التهريب، وخصوصاً الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج، إضافة إلى جشع التجّار.
و. جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، الرئة الاقتصادية الأساسية.
ولقد تراكم الدين تدريجياً، وبالتالي خدمة الدين المترتبة عليه جرّاء الفوائد المرتفعة، تزامناً مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. وهكذا، ازداد العجز في ميزان المدفوعات على مرّ سنوات من النمو المتباطئ، وقطاع مصرفي متضخّم يمنح فوائد خيالية على الودائع، وتجاوز الدين العام أكثر من 170% من الناتج الإجمالي المحلي. ومع تراجع احتياطات المصرف المركزي، بدأت ملامح الانهيار المتسارع مع أزمة سيولة حادة وشحّ في الدولار، وفرضت المصارف قيوداً على سحب الدولار وتحويل الأموال، وإعلان العجز عن سداد الديون، وخسرت العملة اللبنانية نحو 90% من قيمتها، ووصل ثلاثة أرباع اللبنانيين إلى حالة الفقر، وبرزت ظاهرة الهجرة للعقول وأصحاب الخبرات مما سيؤخر لبنان لسنوات. كما أن حجم الإرباكات الاجتماعية الناتجة عن الأزمة قد يُنتج انفلاتاً أمنياً نتيجة شدة الحاجة، وستشكّل أرضاً خصبة للاختراقات، كما قد تزيد من تحركات الناس ضد السلطة.
3. واقع سياسي مربك:
يعاني لبنان من إشكالية بنيوية أساسية على مستوى تكوين الدولة، ومركز اتخاذ القرار واحترام الدستور، كما يعاني في هذه المرحلة من وجود طبقة سياسية تريد إعادة إنتاج نفسها في السلطة ودفع اللبنانيين للقبول بأي حلّ وبرفع الدعم وإجراءات اقتصادية صعبة كان يمكن القيام بها بشكل متدرج ومدروس قبل وقوع الأزمة، ومن انعكاسات معركة رئاسة الجمهورية القادمة وسعي جبران باسيل لحسمها لصالحه بشتى الوسائل ومنها محاولات الانقلاب على اتفاق الطائف والسعي للعودة إلى الرئيس صاحب الصلاحيات الواسعة بالممارسة وإلا فالتسويق للفدرالية. ويأتي كل ذلك في إطار محاولة الأطراف المختلفة الاستفادة من فترة المراوحة قبل وصول التسوية الخارجية المنتظرة لتكريس مكتسبات أو لتثبيت أو تعديل موازين القوى.
أ. التفكك السياسي:
تعاني جميع الأحزاب المشاركة في السلطة بدرجات متفاوتة من تراجع الثقة الشعبية فيها، ومن تفكك التحالفات والحذر المتبادل بين مكوناتها. كما تعاني من غياب وضوح الرؤية بالمآلات، واهتزاز القناعة بالنظام السياسي وتزايد الدعوات لتعديله، وتتجهّز أغلبها للسيناريو الأمني الأسوأ مع عدم الرغبة بالوصول للحرب الأهلية. ما يزال سلوك هذه الأحزاب قائماً على مقاومة التغيير، والسعي لإعادة إنتاج المنظومة بعد أن اهتزت بفعل حراك 17/10/2019، واستمرار تأمين المصالح الذاتية مع شدّ العصب الطائفي والتهويل.
ب. تراجع الدور السني مقابل صعود الأدوار الأخرى:
تعاني الساحة السنية من فقدان الظهير العربي نتيجة التحول في السياسية السعودية ومن غياب المرجعية الجامعة، مما أدى إلى تراجع الحضور السني عموماً، مما يشكل حالة فراغ تغري الجهات الأخرى للاستثمار فيها، مما يجعلها عرضة للتوترات، وأن تتحول لصناديق بريد.
بالمقابل هناك ترتيبات بينية في إطار المكوّن الشيعي تنظّم أيّ خلاف داخله، واستثمار لدور السلاح والصراع مع الكيان الإسرائيلي، وغطاء خارجي متمثّل بتصاعد الدور الإيراني في المنطقة.
كما يلاحظ على مستوى المكوّن المسيحي ملامح تشكيل حضور مسيحي مستقل عن حزب الله، من خلال دور متقدم للبطريرك الماروني في ذلك؛ والذي قام بطرح مذكرة الحياد التي ترتكز على: عدم دخول لبنان في أحلاف، وامتناع أي دولة إقليمية أو دولية عن التدخل في شؤونه، وتعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرية الشعوب ولا سيّما العربية منها، ومنها الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني، وتعزيز الدولة اللبنانية لتكون قوية عسكرياً بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الداخلية، ومعالجة الملفات الحدودية مع الكيان الصهيوني وسورية.
ج. الحراك الشعبي:
لقد كان من المتوقع أن تؤدّي السياسات الاقتصادية والفساد إلى انفجار الغضب الشعبي المتراكم منذ سنوات. وهذا ما حصل في 17/10/2019 بعد قرار زيادة الضريبة على مستخدمي تطبيق “واتسآب WhatsApp” الذي يمنح خاصية الاتصال المجاني، لتأمين واردات إضافية للخزينة المفلسة.
استمر هذا الحراك الشعبي ضدّ السلطة لأشهر عدة، وشكّل صرخة مدوّية لوضع حدّ لحالة الفساد المستشرية ولنظام المحاصصة الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، خارج الأطر الطائفية والسياسية والمناطقية. ثم توقف الحراك بعد تفشي جائحة كورونا Covid-19، ليتجدّد، ولو بحجم أقل، بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في 4/8/2020، لكنه فشل في تغيير المسار الانحداري في البلاد.
ولقد تراجع الحراك بشكل حاد نتيجة الأزمة المعيشية، وجائحة كورونا، وضبابية المشهد، والاختراقات التي حصلت في جسمها والتوظيف السياسي في بعضها. هذا التراجع أدى إلى فشلٍ مرحليٍ مع بقاء نواة النظام، أو ما يسمّى المنظومة العميقة، التي أعلن المحتجون أنهم سيسقطونها بهدف إنشاء سلطة جديدة على أنقاضها بعد إجراء انتخابات مبكرة من قبل حكومة انتقالية محايدة.
وهناك عدة أسباب رئيسية أفشلت هذا الحراك أبرزها: عدم تمكّنها من إنتاج قيادات تقود الناس، ونجاح الأحزاب في اختراق صفوف المنتفضين، وتشتّت الرؤى والأهداف وأجندات المجموعات التي لم تتمكن من التوحد أو توحيد رؤاها، وتأثير التدخلات الإقليمية والدولية تحريضاً في مسارات الحراك الشعبي.
د. انفجار المرفأ والمبادرة الفرنسية:
في 4/8/2020، وقع انفجار مرفأ بيروت الذي عُدَّ واحداً من أعنف وأكبر الانفجارات في العالم. وقد توجه على إثره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron إلى بيروت، وخاطب الناس بعاطفة غير مسبوقة، وطالب السلطات السياسية بأجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرية والديموقراطية والإصلاحات الضرورية.
عاد ماكرون إلى بيروت في الأول من أيلول/ سبتمبر ليلتقي بالقوى السياسية الأبرز والأكثر تأثيراً حيث أطلق مبادرته، ودعا إلى تشكيل حكومة من اختصاصيين عمرها ستة أشهر، تطبق بنوداً إصلاحية، وتنظم انتخابات نيابية بعد إصلاح القانون الانتخابي.
في 8/9/2020، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على كل من علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، كما تم تفعيل ملف ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة لتُنسف المبادرة الفرنسية. يُضاف إلى ذلك تصلّب “الثنائي الشيعي” في رفض المداورة ورفض السماح لأيٍ كان بتسمية أي وزير شيعي إلا الثنائي نفسه، كما عجزت القوى السياسية عن تشكيل حكومة تواكب المرحلة وتُفرمل السقوط الحر الذي تعيشه البلاد، ما أدى إلى أن تصبح الإصلاحات مستبعدة جداً قبل الانتخابات النيابية وقبل نهاية عهد رئيس الجمهورية ميشال عون.
لقد أُفرغت المبادرة الفرنسية من شكلها ومضمونها، ولم يحقّق الرئيس الفرنسي قصة نجاح عالمية كما تمنّى، ولم يدفع بطوق نجاة لتفادي غرق لبنان في العتمة والظلمة والظلام والانهيار.
4. تدخلات خارجية على وقع التقلبات:
إن العلاقة بين التناقضات الداخلية والمصالح السياسية في الإقليم ليست خفية على أحد، فكثيراً ما تستند التدخلات الخارجية على قوى داخلية، وكثيراً ما تستعين القوى الداخلية في مناكفاتها بالقوى الخارجية. ولقد أدى دخول حزب الله في صراعات المنطقة إلى تعقيد المشهد.
أ. الدور الأمريكي: على الرغم من تبدّل أولويات الإدارة الأمريكية باتجاه الصراع مع الصين، إلا أن الدور الأمريكي في المنطقة يبقى أساسياً في ظلّ مسار صفقة القرن والتطبيع، وفي ظلّ استمرار استنزاف ثروات المنطقة. والإدارة الأمريكية مستمرة في لبنان بممارسة الضغوط المالية لتقليص أجنحة إيران—ومن بينها حزب الله—بعد مرحلة من إتاحة الفرصة لها للتمدد لإيجاد بيئة تساعد أمريكا على استنزاف وابتزاز أنظمة المنطقة (مرحلة غزو العراق سنة 2003، مرحلة الاتفاق النووي سنة 2015)، وذلك في إطار ترتيب أوضاع المنطقة من وجهة نظره ولإضعاف قدرة الطرف الإيراني على استخدام لبنان كورقة تفاوض في المفاوضات الدولية – الإقليمية، وللسعي في إدخال لبنان في مسار التسوية مع العدو الصهيوني (ترسيم الحدود البحرية…)، وللاستفادة من الغاز والنفط في مياهه.
ولقد مارست الإدارة الأمريكية وتمارس ضغوطاً عالية على لبنان من خلال حصار اقتصادي متصاعد منذ أكثر من خمس سنوات، كما تمارس أيضاً من خلال الحصار الاقتصادي عملية دفع الناس إلى الاختناق والغضب ورفع منسوب التوتر الداخلي في وجه حزب الله، الذي يسهّل هذه المهمة بأدائه المستفز، وإيجاد ضغط شعبي في مواجهة الهيمنة المتزايدة للنفوذ الإيراني وتحميله نتائج الوضع الاقتصادي والاجتماعي والعزلة السياسية.
ب. الدور الإيراني: يعدّ لبنان من أهم مناطق النفوذ الإيراني خارج إيران، وهو يعدّ منطلق إدارة مناطق النفوذ والتأثير في كل المنطقة العربية. وقد شكل الأداء المقاوم للعدو الصهيوني لفترة من الزمن رافعة استثنائية للمشروع الإيراني في المنطقة عموماً وفي لبنان على وجه الخصوص، إلا أن الانخراط في مسارات النزاعات ذات الطابع الطائفي في سورية واليمن والعراق وسواها من المناطق استنزف الرصيد الكبير الذي تم بناؤه على مدى سنوات طوال ووضع إيران ومن خلالها حزب الله في خانة المواجهة مع عموم الساحة السنية في المنطقة، بالإضافة إلى أن استخدام السلاح داخل الساحة اللبنانية لتقوية النفوذ أدى إلى جعله عنواناً للانقسام بعد أن كان محل إجماعٍ وطني.
تمتلك إيران الكثير من أدوات القوة والنفوذ في لبنان انطلاقاً مما سبق ذكره، وهي ستركّز على تأمين صمود منظومة نفوذها للفترة التي تعتبرها ذروة الضغط الأمريكي للوصول للتسوية التي لا بدّ منها، حتى ولو أدى ذلك إلى إيقاع لبنان بأكمله تحت وطأة “المدحلة” الأمريكية، وستعمل خلال الفترة المذكورة بالإضافة إلى محاولة امتلاك أوراق تفاوض إضافية وغالباً على حساب جهات أخرى قد تكون الساحة السنية من بينها.
ج. الدور الروسي الذي لا يمتلك في لبنان أوراقاً ذاتية للنفوذ، ويعتمد، في إطار الصراع على الغاز والنفط، على حاجة الأطراف المتصارعة إلى قوة مُرجِّحة، مع وجود محطات استعانة به من قبل بعض الأطراف (التقدمي الاشتراكي – التيار الوطني الحر – سليمان فرنجية) ومبادرة عودة السوريين التي تعطّلت.
د. الدور الأوروبي، لا سيّما الفرنسي، لا يمكن فصله بالكامل عن المسار الأمريكي، مع وجود بعض الخصوصيات لدى بعض دوله، خصوصاً فرنسا، إلا أنهم لا يمتلكون أدوات تأثير مستقلة ووازنة، لذلك تبقى اهتماماتهم محصورة في بعض المبادرات التي تُبقي حضورهم الديبلوماسي الذي يتطلع إلى تأمين بعض المصالح الاقتصادية، وهم يستندون في الغالب على مقولة حماية الأقلية المسيحية.
هـ. دور الكيان الصهيوني غير منفصل عن المسار الأمريكي، وهو يسعى لتأمين أطماعه بالنفط والمياه اللبنانية، وإيجاد حلّ لقدرة حزب الله الصاروخية، وترقّب حالة الإرباك السياسي، والاستفادة من حالة الفوضى في لبنان لمزيد من الإشغال الداخلي لحزب الله.
و. دور دول الثورة المضادة في تسويق مسار التطبيع تحت شعار مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، واستهداف أي حالة شعبية إصلاحية، ومحاولة إرباك حزب الله أو على الأقل استنزافه هو والقوى السنية الإسلامية في صراع بينهما لا أفق له.
ز. الدور التركي ما يزال محصوراً برصد الخارطة اللبنانية وتطورات الأمور فيها، ومساعدات اجتماعية محدودة لا سيّما للبنانيين التركمان، وعدم التدخّل في تفاصيل الشأن اللبناني مراعاة لتوازنات مصالحها مع الدول المؤثرة في لبنان.
5. أهم مساحات التوتر الحالية وانعكاساتها:
أ. الانتخابات النيابية، حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى الخروج من الانتخابات النيابية بأغلبية تتواءم مع طروحاتها لجهة ترسيم الحدود البحرية ومسار التسوية والتطبيع في المنطقة، بينما يسعى حزب الله للحفاظ على الأغلبية التي يتمتع بها حالياً والتي تتيح له هامش مناورة سياسية وتسهّل عليه تمرير توجهاته وتوجهات المحور الذي ينتمي إليه، كما تسعى الأحزاب السياسية إلى تثبيت حضورها وتعزيزه في ظل طروحات التغيير الشعبي التي تُطلق منذ حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ب. التوترات الأمنية المتنقلة جغرافياً والمتنوعة حجماً والتي تتعدد أهدافها لتشمل زيادة الاحتقان المحلي في وجه الحزب نتيجة أدائه المتراكم من جهة، والضخ الإعلامي الموجّه من جهة أخرى، وصناعة أزمات تتيح تحقيق مكتسبات على غرار اتفاق الدوحة بعد أحداث 7/5/2008، وإيجاد إرباكات تصرف النظر عن حالة الاحتقان في وجه الحزب؛ وآخر نموذج على ذلك أحداث الطيونة التي شهدت مواجهة قضائية وسياسية، وأُرسل من خلالها مجموعة من الرسائل للمراهنين على الأغلبية النيابية القادمة، واستعراض قوة في مرحلة المراوحة في مفاوضات الملف النووي، وشد العصب من القوى المختلفة.
ج. صراع الهيمنة على مؤسسات الدولة وتهميش دورها وعلى رأسها الجيش والقضاء.
أهم انعكاسات هذه التوترات تصاعد حالة الاستعصاء السياسي – الاقتصادي، وتزايد مؤشرات انهيار الدولة من أزمة محروقات وكهرباء وطبابة ومواصلات وخبز وإدارات وغير ذلك، وتطور دينامية الفوضى في الشارع واستثمار الأجندات السياسية والأمنية في ذلك، وتزايد التأزّم الداخلي نتيجة تدويل الأزمة اللبنانية.
ثانياً: أهم المخاطر والسيناريوهات المحتملة:
هناك عدة سيناريوهات محتملة لتطوّر الأزمة اللبنانية قد تكون منفصلة أو متوازية، سنقوم باستعراضها لنخلص في النهاية إلى السيناريو المرجّح.
1. نظراً للوضع الحرج الذي تمر به البلاد واحتمال الانهيار، قد يستعد الساسة للقيام بإجراءات صعبة لمنع الانهيار الاقتصادي للبلاد، والبدء بإعداد خطة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، والسيطرة على السيولة وأخذ قروض فورية من صندوق النقد الدولي وتوفير الفرصة لإقامة الانتخابات النيابية.
2. استمرار الوضع الراهن مع ازدياد الضغوط الداخلية والخارجية، وعدم التوصل إلى حلول سريعة، واحتمال تأجيل الانتخابات النيابية، ما قد يؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع وفوضى اقتصادية ومالية ومعيشية وإجتماعية وأمنية، ويدفع البلاد نحو تقسيم واقعي، بحيث تعجز الأجهزة العسكرية والأمنية عن معالجة الأوضاع وتنهار مؤسسات الدولة، ويتولّى كلّ فريق سياسي أو حزبي إدارة المناطق التي يشرف عليها. وهذا هو السيناريو هو الأخطر، لأنه سيعرض البلاد لمخاطر كبيرة في ظلّ انهيار الحكومة المركزية وترك الحدود مفتوحة أمام اللاجئين للتحرك داخل وخارج أوروبا، وقد تنتقل الفوضى إلى دول أخرى ويتم تحريك خلايا إرهابية، وقد يشكِّل ذلك بداية لنزاع إقليمي أوسع.
3. صدور قرار دولي عن مجلس الأمن لفرض وصاية دولية على لبنان وفقاً للبند السابع على غرار القرار 1559، أو توسيع مهمة قوات اليونيفيل لتغطي الحدود السورية، وهو أمر مستبعد لأنه يتطلب عدم حصول فيتو من روسيا أو الصين بالإضافة إلى عدم توفر القدرة العملية لتطبيق هذا القرار وإرسال القوات الدولية دون حصول مواجهات عسكرية في لبنان.
4. حصول عدوان عسكري إسرائيلي على لبنان يؤدي إلى نزع سلاح حزب الله، ويكون هذا العدوان أقسى بكثير من عدوان تموز/ يوليو 2006 ويؤدي إلى تدمير لبنان. وعلى ضوء ذلك يتم تغيير الوضع السياسي الداخلي بما يشبه ما جرى بعد عدوان حزيران/ يونيو 1982. وهذا السيناريو صعب جداً أيضاً بسبب عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم المعركة وعدم توفر أوضاع داخلية وإقليمية ودولية هذه الأيام لحصوله.
5. تطور المفاوضات الأمريكية – الإيرانية والوصول إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني والملفات الأخرى المتعلقة بالدور الإيراني في المنطقة ومنها دور حزب الله في لبنان. ما قد يساعد في الوصول إلى تسويات سياسية في لبنان ودول أخرى في المنطقة. هذا السيناريو قابل للحصول، لكنّه يحتاج إلى وقت طويل، ومن غير الواضح إذا كانت النتائج إيجابية، وإمكانية الوصول إلى حلول سريعة. كما أن هذا السيناريو يتضمّن مخاطر تحول الدولة اللبنانية لغنيمة للطرف الأقوى والأكثر تماسكاً، على حساب المكونات الأقل حضوراً.
6. تزايد الضغوط الأمريكية من خلال تشديد الحصار المالي لإضعاف الورقة اللبنانية التي يسعى المفاوض الإيراني لاستخدامها، بالإضافة إلى الضغط في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، مع التركيز على الوضع الأمني والحفاظ على الاستقرار، وتعزيز العلاقات الأمريكية اللبنانية، والمحافظة على احتكار الشبكة الحاكمة للسلطة، ومتابعة مواجهة دور حزب الله وعلاقته بإيران، ومحاولة تغيير ميزان الأغلبية في الانتخابات النيابية القادمة. ولقد فشلت الولايات المتحدة وفرنسا حتى الآن في دفع التكتلات السياسية اللبنانية النافذة إلى تشكيل حكومة تكون لها هذه التوجهات.
7. سيناريو المشروع السياسي والاقتصادي والأمني البديل، والدفع إلى تشكيل حكومة تؤيّدها أكثرية نيابية، تعتمد سياسة التوجُّه شرقاً، للتعاون اقتصادياً مع سورية والعراق وإيران وروسيا والصين، وإحدى تجلياته استدراج المنتجات الإيرانية للداخل اللبناني من دواء ومشتقات نفطية.
8. تلاعب بالنظام وتزايد طرح الفيدرالية نتيجة شعور بعض الأطراف بأن ميزان القوى الحالي لصالحها ولا يتناسب مع نصيبها من ميزان التأثير على القرار، وبالتالي فمن مصلحتها تكريس مكتسبات إضافية في الوقت الضائع قبل الوصول للتسوية الدولية – الإقليمية. ومن جهة أخرى، نتيجة تصاعد التبرم من هيمنة حزب الله على القرار اللبناني بفعل فائض القوة، وبالتالي تصاعد الدعوة للفيدرالية للتخلص من هذه الهيمنة.
ويبدو من حالة الاستعصاء السياسي المحلي والتقلبات الخارجية، أن السيناريو المرجّح سيناريو مركّب من:
• استمرار الوضع الراهن مع مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية، مع بعض الإجراءات التخفيفية على مستوى الاختناقات المعيشية بما يمنع الإنهيار الشامل.
• استمرار الإدارة الأمريكية بالسعي لتغيير موازين القوى السياسية من خلال الانتخابات النيابية القادمة، وتحشيد رأي عام رافض لممارسات حزب الله، والدفع لترسيم الحدود البحرية الجنوبية، مع وجود خطر تأجيل الانتخابات نتيجة تخوف بعض قوى السلطة من نتائجها.
• انتظار تطور مفاوضات الملف النووي والوصول إلى اتفاق حوله وحول الملفات الأخرى المتعلقة بالدور الإيراني في المنطقة، ومنها دور حزب الله في لبنان، ما قد يساعد في الوصول إلى تسويات سياسية في لبنان ودول أخرى في المنطقة.
ثالثاً: مسارات الحلول الضرورية:
أمام تعقيدات المشهد اللبناني وتعدد السيناريوهات والمخاطر المحتملة، فإن مسارات الحلول هي أيضاً ينبغي أن تكون متعددة لتشمل مسارات سياسية، ومسارات اقتصادية، ومسارات إصلاحية.
1. المسارات السياسية:
أ. المسار الدستوري في التغيير:
لا مصلحة في بلد متعدّد الطوائف كلبنان، يقوم الزعماء فيه بالتمترس خلف العصبيات الطائفية والمذهبية للحفاظ على زعامتهم، باعتماد المنطق الثوري الشامل. فالدخول في عملية تفكيك المؤسسات الدستورية لإعادة تركيبها قد يوصل إلى حجم من الفوضى قد لا يسمح بإعادة تركيبها إلا بعد احتراب داخلي يستدعي رعاية خارجية، كاملة على غرار الحرب الأهلية التي أنتجت اتفاق الطائف، مما يسلب اللبنانيين إمكانية القرار الذاتي في شكل دولة المواطنة التي يسعون إليها.
من هنا فإنه من الأنسب اعتماد خيار المسار الدستوري في التغيير من خلال انتخابات نيابية تسمح بإعادة تكوين السلطة ومعرفة خيار اللبنانيين من خلال صناديق الاقتراع، وتكوين كتلة من خارج اصطفافات أحزاب السلطة أو أصحاب الولاءات الخارجية، وانتخاب رئيس جمهورية من خارج المنظومة ملهم للجماهير، ومساعد على استعادة ثقتها بالدولة. كلّ ذلك تحت ضغط ورقابة المواطنين.
إنّ هذا الخيار يؤدي إلى عدم الوصول في عملية الضغط إلى إرباك الدولة حتى مستوى إسقاطها، أو ضرب حضورها مفهوم وحضور الدولة كدولة في أي قطاع أو منطقة وإعادة بناء مؤسسات وإدارات الدولة على أسس صحيحة سواء بإصلاحها أو بإعادة هيكلتها وفق برنامج ومشروع واضحين، ورفض أيّ عزل لمنطقة عن أخرى أو فدرلة، بل الإصرار على البعد الوطني الجامع، والاجتماع على مفهومَي النزاهة والعدالة، وهما مفهومان جامعان لكلّ اللبنانيين.
ب. بناء تحالف أو ائتلاف بناء دولة المواطنة والمؤسسات:
من مصلحة اللبنانيين التركيز على القضايا الجامعة وأهمها على الإطلاق بناء دولة المواطنة والمؤسسات وما تشمله من عدالةٍ ومساواةٍ، واعتماد الكفاءة بدلاً من المحسوبية والمحاصصة، وأركان النزاهة كاستقلالية القضاء ومحاربة الفساد واستعادة التوازن المالي من خلال استعادة الأموال المنهوبة، وإنماء عادل، وتأكيد على حقوق الإنسان على المستويين الأمني والقضائي. كما أن من مظاهر دولة المواطنة والمؤسسات احترام الدستور وعدم تحويله إلى وجهة نظر، والتكامل بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، دون أن يكون تكاملها سبباً لتغييب دور المؤسسات الرقابية، أو أن يكون تنازعها سبباً لشلل الحياة الدستورية، وتسخيرها لصالح المواطن وليس لصالح الأحزاب.
أمام هذا الهدف الجامع لكثير من اللبنانيين، يصبح من الضروري إطلاق عملية إنشاء تحالف لبناء دولة المواطنة والمؤسسات، يتوسع تدريجياً ليشكل كتلة حرجة تتيح الخروج من خطاب شد العصب الطائفي الذي تعتمده النخبة الحاكمة لضمان استمراريتها ولو على حساب وحدة البلد واستقراره؛ والدخول في مناخ شعبي ضاغط باتجاه الإصلاح، يجتمع من خلاله أكبر قدر من اللبنانيين على مجموعة من العناوين أهمها بناء الهوية الوطنية الجامعة، واستكمال تطبيق الطائف، ورفض ظاهرة الخروج المسلح على المجتمع، ومحاربة الفساد وإصلاح المؤسسات، وتحييد لبنان عن صراعات المحاور.
إن قيام مثل هذا التحالف يضع الجميع أمام مجموعة من التحديات أهمها اعتماد الحوار بين مختلف المكونات، وليس التصعيد المتبادل وقيادة البلد إلى انفجار قد يطيح بكل شيء، كما يقتضي التخلي عن منطق الاستقواء أو التحدي أو التهور، بالإضافة إلى عدم عزل أيّ مكون سياسي في البلد.
ج. مسار تجنيب لبنان انعكاسات الصراعات الخارجية وصراعات المحاور:
ليس من مصلحة لبنان واللبنانيين أن يتحوّل لبنان إلى ساحة من ساحات توجيه الرسائل المتبادلة في إطار الصراع الإقليمي – الدولي ولا أن يكون جزءاً منه. وبالتالي فإنه من المصلحة أن يتنبّه اللبنانيون إلى محاولات أطراف هذا الصراع لجرّه إلى أن يتحوّل إلى صندوق بريد يوجه من خلاله كل محور رسالة للمحور الآخر، وهذا ما ظهرت علاماته في الايام الأخيرة. هذا المسار لا يؤثر بالمقابل على انتماء لبنان العربي والقضايا العربية التي عليها إجماع؛ وبالتالي يحتّم عدم استخدامه كساحة لتصفية الحسابات، أو توتير علاقاته العربية لصالح محاور أخرى.
د. مسار مواجهة التطبيع المباشر أو غير المباشر:
يقوم هذا المسار على التنبّه إلى أن المشروع الأمريكي الذي يهدف إلى تحقيق مصالحه الاقتصادية وأمن الكيان الصهيوني، يعمل على تنفيذ مراحل صفقة القرن ومن بينها التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهي أهداف مرفوضة يجب عدم التماهي معها، دون أن يعني ذلك إقحام لبنان في المحور المضاد الذي له أهدافه الخاصة في التوسّع والنفوذ.
كما يقوم على نشر الوعي بأنّ تحييد لبنان عن صراعات المحاور الدولية – الإقليمية لا ينسحب على الموقف من الصراع معَ العدو الصهيوني، إذ هو صراع يتعلق بتهديد وجودي للبنان ويرتبط بقضيّة عادلة هي القضيّة الفلسطينية.
بالإضافة إلى الدفع لاعتماد استراتيجية دفاعية للدولة اللبنانية تقوم على تطوير قدرات الجيش القتالية وتحديث بنيته العسكرية للدفاع عن الوطن، وإبقائه مؤسسة وطنية جامعة، والامتناع عن إدخاله في التجاذبات السياسية أو زجّه في معارك البعض أو الآخرين، وإيجاد صيغة تؤمن توازن الرعب مع العدو الصهيوني، وتعمل على تحرير الأرض والمياه، والاستفادة بذلك من قدرات وخبرات المقاومات المختلفة التي مرت على لبنان.
هـ.. سد الثغرات للحؤول دون استثمار ملف التطرف والإرهاب كورقة تفاوض أو رسالة في صراعات المنطقة، من خلال الحوارات الفكرية والعلمية مع الشباب، ووقف الممارسات التعسفية والتوقيفات العشوائية وما يرافقها من تنكيل أو تعذيب، واحترام حرية التعبير وعدم قمع الفكر المخالف ما دام يعبر عن نفسه تحت سقف القانون والنظام العام، وعدم التوسع بالملاحقات بالشبهة لتصيب الاعتقالات المتهم والبريء، ووقف تعذيب الموقوفين وعدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وأخيراً اعتماد سياسة تنموية تستنقذ شبابنا من براثن التطرف تحت ضغط الفقر وانسداد الأفق المعيشي.
2. المسارات الاقتصادية:
لا بدّ من وضع خطة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية – المعيشية على مسارين متوازيين:
أ. مسار الصمود من خلال مجموعة من التحفيزات المالية والإجراءات الاقتصادية والنقدية والاجتماعية، وحسن إدارة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بما يؤمن القدرة على دعم المواطن واستعادة التوازن المالي، وضبط التهريب عبر الحدود.
ب. مسار التعافي الاقتصادي من خلال استعادة الأموال المنهوبة، وإعادة النظر في السياسات الاقتصادية بالانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، ووقف الهدر وتخفيف العجز في الميزانية العامة، وإعادة هيكلة القطاع العام وترشيقه، واعتماد آلية تعيين الموظفين وفق الكفاءة، وتنشيط القطاعات ذات الأولوية، وتفعيل اللا مركزية الإدارية. كما يمكن وضع خطة للاستفادة من “المغتربين اللبنانيِّين”، بعد تأمين مقومات استعادة ثقتهم بالدولة وسياساتها الاقتصادية، وتشجيعهم على الاستثمار في بلدهم الأصلي.
3. المسارات الإصلاحية:
انطلاقاً من أن جزءاً كبيراً من الأزمة اللبنانية هي أزمة فقدان الثقة بمنظومة إدارة البلد نتيجة غياب الحوكمة والحكم الرشيد، فإن الحلول الجذرية لا بدّ أن تشمل سلسلة من الإجراءات الجذرية على مستوى استقلالية القضاء، وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئات الناظمة والرقابية، وتطبيق قانون حقّ الوصول للمعلومات، ورفع السريّة المصرفية عن اللبنانيين المقيمين، لا سيّما الموظفين والعاملين في القطاع العام، وإطلاق عملية استعادة الأموال المنهوبة انطلاقاً من قانون الإثراء غير المشروع، والتدقيق في حسابات الوزارات وحسابات المصرف المركزي، وإعادة صياغة دور المصارف لتتحول إلى ممول للاقتصاد الانتاجي والابتعاد عن السياسات القائمة على الفوائد التي أرهقت المالية العامة.
الخلاصة:
ينجرف لبنان وراء التجاذبات الدولية فى حين أنه يعاني سياسياً واقتصادياً وهو غير مستعد لمواجهة أزمات الداخل أو تدخلات الخارج ما يجعل المآلات اللبنانية محدودة، إما التخلص من منظومة الفساد وسوء الإدارة داخلياً والنأي بالنفس عن التجاذبات الإقليمية والدولية خارجياً، أو الذهاب إلى السيناريو الأسوأ بالفدرلة أو الاحتراب الداخلي.
من هذا المنطلق، تصبح الأولوية لحماية لبنان كبلد من ناحية، وزيادة القدرة على التأثير للمنادين بدولة المواطنة والمؤسسات على حساب المستثمرين بالطائفية، وأن ننطلق من عدم الاستسلام لفكرة أن الحل هو بالكامل من الخارج وأنه لا مفر من انتظار التسوية الخارجية، بل توظيف حالة البحث عن الذات والحلول التي تمر بها جماهير مختلف المكونات لدفع النخبة الحاكمة للتنازل والعمل بشكل احترافي لإنقاذ لبنان، وهم جزءٌ منه، بعد أن أنهكه تضارب مصالح الطوائف والرئاسات.
الأمر قد يبدو صعباً، ولكنه ليس بالمستحيل فى ظلّ توافر رغبة شعبية مؤيدة لفكرة دولة المواطنة، التى لا مكان فيها للمحاصصات المبنية على الطائفية. ويقتضي الدفع باتجاه مسارات متعددة: مسار إعادة البناء السياسي والدستوري للدولة، ومسار الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ برنامج إنقاذ حقيقي، ومسار تنفيذ إصلاحات جذرية باتجاه الحوكمة والحكم الرشيد، بالإضافة إلى مسار الحفاظ على الاستقرار الداخلي، ولكل مسار خطة عمل يجب أن تتوافق وتطلعات الشعب اللبناني الذي بات ينزف في انتظار الحل.
لقد كشفت حالة الاستعصاء الأخيرة فيما يخص تشكيل حكومة جديدة عن مكامن خلل بنيوية وخطيرة نتجت عن تجاوز دستور الطائف وعدم تطبيق جوانب منه، ترتبط بمسألة العلاقة الملتبسة بين طوائف ومذاهب وفئات المجتمع اللبناني، ومصالحها ورؤاها المتناقضة حيال سياسات البلاد الداخلية والخارجية، وتحديداً فيما يخص العلاقة مع المحيط العربي والإسلامي، والغرب، والموقف من الصراع العربي – الإسرائيلي.
وعليه، ومهما كانت طبيعة السيناريو الذي سيشهده لبنان خلال الفترة المقبلة، فإنه من الأجدى للقوى اللبنانية المختلفة، ومن ضمنها مجموعات الحراك الشعبي، أن تعتمد لغة الحوار المعمّق والمفتوح فيما بينها حول القضايا الجوهرية، مثل هوية لبنان ومصير اتفاق الطائف وإلغاء الطائفية السياسية وعلاقة لبنان مع محيطه، والاستراتيجية الدفاعية للبلاد، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية المستقبلية، والتي يجدر أن تكون عادلة ومتوازنة، للخروج من الأزمة الحالية وحماية لبنان من أي هزّات أو انتفاضات أخرى. فالتوافق حول قواسم مشتركة هو السبيل لبناء بلد حقيقي، ولدى اللبنانيين كل مقوّمات النهوض المادية والمعنوية إذا ما اجتمعت إراداتهم وطاقاتهم، بعيداً عن التأثيرات والضغوط الخارجية أياً كان مصدرها.
[1] د. عماد الحوت، نائب سابق ورئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية – لبنان.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: الأزمة اللبنانية.. التوقعات والمسارات … د. عماد الحوت (23 صفحة، 1.9 MB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 25/11/2021
أضف ردا