نظّم مركز الزيتونة حلقة نقاش، مساء يوم الثلاثاء 7 كانون الأول/ ديسمبر 2021، حول نتائج الدراسة المهمة التي قام بإعدادها البروفيسور وليد عبد الحي، أحد أبرز خبراء الدراسات المستقبلية في العالم العربي، والتي قام المركز حديثاً بنشرها تحت عنوان “الترتيب العربي في نماذج القياس الدولية وتداعياته المستقبلية“. أدار الحلقة الأستاذ الدكتور محسن محمد صالح مدير مركز الزيتونة. وتميزت الحلقة بمشاركة واسعة من خبراء ومراكز تفكير عربية وعالمية.
لمشاهدة فيديو فعاليات حلقة النقاش، اضغط على الرابط التالي: |
في بداية حديثه شدّد البروفيسور وليد عبد الحي على أهمية الدراسات المستقبلية ودورها في رسم السياسات واستشراف التحولات والتغيرات في الخارطة السياسة، وبالتالي أهميتها لدى صانع القرار السياسي. وفي حديثه عن الدراسة التي أعدها، أشار إلى أن مصادر المعلومات التي اعتمد عليها في دراسته مأخوذة من مصادر رسمية ومؤسسات دولية كالبنك الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة، ومراكز أبحاث عربية وعالمية، وقد قام بمقارنة الأرقام والمعطيات قبل الاعتماد عليها، حيث وجد تطابقاً في الأرقام والمعطيات بنسبة كبيرة جداً.
وسلَّط عبد الحي الضوء على المعايير التي استخدمها في الدراسة، وهي المعايير التي تعكس الصورة الواقعية للدولة عند الشروع في مقارنتها مع باقي الدول؛ وليس الانطلاق من الصورة “الانطباعية” السائدة لدى الرأي العام المحلي وغير المحلي. ومن أجل الوصول إلى الصورة الأقرب إلى الحقيقة لدولة ما ومقارنتها مع دول أخرى؛ فإن المنهج الذي انطلق منه عبد الحي هو تكمية (التحويل الكمي) quantification مؤشرات معينة والمقارنة بين الدول على أساس هذه المؤشرات.
وأضاف أن النماذج المعاصرة لتكمية الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقوم على عدد من الخطوات التي تعتمدها أغلب نماذج القياس السياسية؛ وذلك من خلال تحديد مؤشرات الظاهرة موضوع القياس، ويتم تقسيم هذه المؤشرات إلى مؤشرات مركزية تنقسم بدورها إلى مؤشرات فرعية، وقد انبنت هذه الدراسة على عشرة مؤشرات رئيسة هي: الديموقراطية، والاستقرار السياسي، والفوارق الطبقية، والعسكرة، والعولمة، والإنفاق على البحث العلمي، ومعدل الجريمة، ومعدل الفقر، والإنفاق على الصحة، ومعدل الأمية؛ ويتبع هذه المؤشرات 413 مؤشراً فرعياً. وقد تم إعطاء هذه المؤشرات الفرعية، التي تشكل في مجموعها وزن المؤشر المركزي، أوزاناً محددة على أساس ما يسمى مصفوفة التأثير المتبادل Cross Impact Matrix، بحسب أهمية المؤشر الفرعي وارتباطه ببقية المؤشرات لمعرفة حجم التأثير الكلي على بقية المؤشرات (سلباً أو إيجاباً).
وقد سلّط عبد الحي الضوء على بعض الصعوبات التي واجهته خلال إعداد الدراسة والتي لا بدّ من وضعها في الاعتبار عند وضع النتائج؛ أبرزها: أن بعض الدول العربية مرت خلال فترة الدراسة 2010-2020 في ظروف غير طبيعية أصابت قيمة المؤشرات بتغيرات كبيرة مقارنة مع بقية الدول؛ ما دفعه إلى اعتماد قيمة المتغيرات المركزية على أساس ثلاث سنوات قبل عشرية “الاضطراب” أو الربيع العربي وقيمتها في آخر ثلاث سنوات (2018-2021)، ثم استخراج المعدل العام للدولة وعلى أساس أكثر من نموذج للقياس لضمان دقة النتائج. كما أن تأثير حدة عقد الاضطراب 2010-2020 على بعض الدول العربية كان أكثر من الدول الأخرى وهو ما انعكس على النتائج مما دفعه إلى تعديل بعض النتائج استناداً للاتجاه trend الخاص بالمؤشر موضع القياس باستخدام تقنية السلاسل الزمنية Time Series في الدراسات الإحصائية والمستقبلية بهدف تحديد الاتجاه الأعظم Mega-Trend للمؤشر.
وقد قام البروفيسور عبد الحي باعتماد 19 دولة عربية كعدد ثابت ليتم على أساسها القياس ضمن النموذج الإقليمي. وقد خلصت الدراسة إلى أن هناك 17 دولة تراجعت نتائجها الإجمالية بعد عقد الاضطراب، من ضمنها 5 دول تحمّلت العبء الأكبر من تراجعات عقد الاضطراب، وهي سورية، واليمن، وليبيا، ثم لبنان، وأخيراً السودان. وأشار عبد الحي إلى أن تراجع قدرة مصر، وفقاً للدراسة، على قيادة المنطقة هو انعكاس لتراجع مستوى إنجازاتها وترتيبها في مؤشرات التطور، فهي تحتل المرتبة 14 عربياً، ولم تتصدر أي مؤشر لا في المرتبة الأولى ولا الثانية من المؤشرات العشر. كما أن هناك تراجعاً في المؤشرات للدول العربية بلغ 47.2%.
وقال عبد الحي إن الملاحظ، من خلال الدراسة، أن المؤشرات المركزية، ذات الوزن النسبي العالي، سجَّل فيها العرب أسوأ إنجازاتهم مثل الديموقراطية والاستقرار السياسي والعسكرة، وهي تمثل 45.2% من إجمالي وزن المؤشرات كافة. ولما كانت هذه المؤشرات الثلاث ذات طبيعة بنيوية، فإنها هي الأكثر تأثيراً في بقية المؤشرات، وهي التي تشكل المحرك لبقية المؤشرات أو ما تسميه الدراسات المستقبلية الموجه أو السائق Driver. وهو ما يعني أن أي تحولات في المكانة العربية مرهون بشكل رئيسي في حركة هذه المؤشرات الثلاثة.
وفي حديثه عن الاتجاه العام للاستقرار السياسي في الدول العربية للسنوات الأربع القادمة، رأى عبد الحي أن مؤشر الاستقرار السياسي هو الأكثر شمولاً بين المؤشرات وبالتالي فإن مؤشر الاستقرار يتجه بشكل عام إلى التراجع بسبب توقع توجه بقية المؤشرات الرئيسية الأخرى والتي هي آخذة بالتراجع أيضاً. وأشار إلى 64.7 % من العالم العربي يعيشون في بيئة غير مستقرة. وأن نسبة عدم الاستقرار في المنطقة العربية تساوي ثلاثة أضعاف باقي المناطق. وأن المنطقة ذاهبة على ما يبدو إلى وضع أسوأ مما نحن عليه.
وفيما يتعلق بمؤشرات الاستقرار السياسي في القوى الإقليمية غير العربية، والتي تشمل “إسرائيل” وتركيا وإيران، وهي ذات تأثير مستمر ومباشر في الشأن العربي، فإن اتجاه عدم الاستقرار يتزايد في إيران و”إسرائيل” بنسبة متساوية وهو ما سينعكس بكيفية أو أخرى على المنطقة العربية بما يزيد الاحتقان فيه. وفيما تعلق بتركيا فعلى الرغم من تسجيلها تحسناً واضحاً في معدل استقرارها خلال فترة القياس، إلا أن مستوى التحسن تراجع خلال فترة 2020 و2021. بالمجمل فإن التأثير المتبادل بين عدم الاستقرار العربي وبين عدم استقرار القوى الإقليمية غير العربية، يشي بمزيد من الاضطراب لدى الطرفين العربي وغير العربي.
كما تحدث عن تأثير الانكماش الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وإحداثه فراغاً جيو-استراتيجياً ستعمل القوى الصاعدة (الصين، وروسيا) على توظيفه، مما سيعرض خريطة التحالفات التقليدية إلى إعادة تشكيل، وهو ما قد يوجِد مواجهة بين قوى التحالفات التقليدية الإقليمية وبين قوى الاستدارة نحو تحالفات جديدة.
وختم الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي موصياً بتحديد المواقف والسياسات من الأنظمة العربية على أساس الاستناد إلى المناهج الكمية المناسبة لموضوع الدراسة للتخلص من مراوغات الاتساق المعرفي المفتعل، كما دعا القوى العربية إلى البدء بوضع استراتيجيات تكيفية استباقية لتتمكن من توظيف التحولات المستقبلية الجيو-استراتيجية لصالحها.
وفي المداخلات، أشاد السادة المشاركون بالدراسة مؤكدين على أهميتها وخصوصاً تنوع المؤشرات التي اعتمدت عليها والمعلومات، وأشاروا إلى دور مثل هذه الدراسات وأهميتها في تحديد مسارات المنطقة ورسم السياسات والخطط لمواجهة التحديات المستقبلية.
ورأى د. كين تيان Qin Tian، نائب مدير المعهد الصيني للعلاقات الدولية المعاصرة Institute of Middle East Studies – China Institutes of Contemporary International Relations (CICIR)، أن الوضع العام في معظم الدول العربية هو وضع مقلق وأسوأ مما كان عليه قبل الربيع العربي، وهذه الخلاصة متسقة مع ما يراه المفكرون الصينيون الذين يعتبرون أن “الربيع العربي” كان مضراً وليس مفيداً، وبحسب رأيه فإن أهمية التطبيق أهم من أشكال الحوكمة، والفاعلية أهم من الديموقراطية المزعومة.
أما المفكر والخبير الاستراتيجي أ. د. سيف الدين عبد الفتاح من مركز إنسان في إسطنبول، فرأى أن الاستقرار الذي تشهده الدول التي شهدت حراكات تغيير والتي تم قمعها إنما تعيش في استقرار زائف يقوم على التخلف وليس على النهوض والتقدم، ورأى أن الدراسة أعطت جرس إنذار لهذه المنطقة التي ستدخل في حالة عدم استقرار ومشاكل بنيوية اجتماعية وسياسية واقتصادية.
ورأى د. عبد الحليم فضل الله مدير المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في بيروت، أن المؤشرات التي وردت في الدراسة تصف الواقع من الأعلى دون أن تتعمق، وهذا قد يؤدي إلى انقطاع مفاجئ، كالثورات العربية؛ ففي مصر بينما كانت المؤشرات والتقارير تشير إلى استقرار النظام السياسي تفاجأنا باندلاع ثورة 25 يناير 2011، وفي لبنان بينما كان الوضع الاقتصادي يشهد نمواً واستقراراً نوعاً ما إلا أن ذلك لم يمنع تدهور الوضع السياسي والاقتصادي مع بداية سنة 2019.
أما د. سامي العريان مدير مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية في إسطنبول، فتساءل إذا كانت المعلومات التي استقاها عبد الحي والمعادلات التي استخدمها هي من حساباته أو أخذها من مؤشرات أخرى، وهل المعايير هي معايير مناسبة للدول والمجتمعات العربية وهل الأوزان التي استخدمها مثلاً تناسب الدول الغربية وربما لا تناسب الدول والمجتمعات العربية، لذلك نحتاج إلى معلومات أكثر وإلى ملحقات ومعايير إضافية، كل هذه المسائل لم تحتويها هذه الدراسة، فيبقى عندي نقص للحكم عليها بالإضافة إلى أن بعض المصطلحات لا تنطبق على مجتمعاتنا ككلمة الديموقراطية التي تحتوي على 60 مؤشراً وكالعولمة والعسكرة. وبالنسبة للترتيب اعتمد على مفهوم العسكرة لدى معهد ستوكهولم مثلاً وبالتالي قد لا يناسب أو قد يناسب الدراسة.
وفي مداخلة د. اندري كورتونوف Andrey Kortunov، المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي Russian International Affairs Council (RIAC)، أشار إلى أن مؤشر غيني Gini يعكس الحراك الاجتماعي فيمكن لبعض الدول أن يكون لديها حراكاً منخفضاً، ويجب أن تركز على أبعاد الهجرة لأنها تعكس نجاح وإخفاق فعالية الدولة لأنه إذا ما تعرضت الدول للانهيار تتخذ الدول تدابير مباشرة لمعالجة الوضع. وأضاف عندما نتحدث عن الدولة من حيث وجود الاستقرار والفاعلية أو غيابهما؛ فيجب أن نحدد ونحلل العوامل المؤثرة وهل هذه العوامل داخلية أم خارجية.
أما عاطف جولاني الخبير السياسي والإعلامي ورئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية، فاقترح أن تُحوّل هذه الدراسة من دراسة قامت بمجهود فردي إلى دراسة تقوم على أساس مجهود جماعي مؤسسي، وهو ما سيعطي هذه الدراسة أهمية أكبر.
وفي مداخلة سينين فلورنسا Senen Florensa، السفير السابق، والرئيس التنفيذي للمعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة بإسبانيا European Institute of the Mediterranean (IEMED) (Barcelona)، فقال إن المنطقة العربية هي منطقة متجانسة في نواح، وغير متجانسة في نواحي أخرى، وهذا ينطوي على فوارق بين البلدان؛ وهو ما يترك أثراً على النواحي الاجتماعية والاقتصادية بين البلدان، هذه الأمور ليست عبارة عن دراسة بشأن تغيير الاتجاهات على المدى القصير، ولا بالتغيرات السريعة نحن نتكلم عن تغيرات تستغرق سنوات طويلة لكي تظهر، ومن هنا نسأل كيف يمكننا الاستفادة من نتائج هذه الدراسة القيمة على أفضل وجه؟ أو لكي نعطي بعض التفسيرات حول القياسات لتحسين الأمر على أرض الواقع.
وأكد كل من د. خيري عمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة سكاريا في تركيا، ود. عبد الستار رجب أستاذ علم الاجتماع في جامعة قرطاج في تونس، على أهمية هذا النمط من العمل البحثي الذي يعتمد على التحليل الكمي والذي يُمكن الاعتماد عليه في دراسة الأحداث السياسية في منطقة الشرق الأوسط، مع الإشارة إلى أنه كان من الممكن التوسع من خلال التحليل حول كيفية الوصول إلى النتائج التي توصلت إليها الدراسة. وهل تم إدخال عامل التدخل البيني العربي بسبب الصراع على زعامة النظام العربي وعامل الكتلة الوطنية الجامعة (الاجماع الوطني على الخيارات الكبرى).
وطرح د. داوود عبد الله مدير منظمة ميدل إيست مونيتور في لندن Middle East Monitor (MEMO)، تساؤلاً حول سبب وصول الوضع العربي إلى ما هو عليه من السوء والتراجع، هل بسبب الفساد السياسي أم بسبب الانفاق المسرف على الأسلحة أم بسبب تراجع الحريات واختفاء الأكاديميين كما حدث في العراق وفي بلدان عربية أخرى.
وبدوره أشار د. فاروق طيفور من جامعة الجزائر إلى أهمية هذه الدراسة، وتمنى أن يكون لدى العالم العربي مؤسسة تهتم بهذا النوع من الدراسات لأهميتها ومدى تأثيرها على رسم سياسات المنطقة. واقترح زيادة معيار آخر هو حجم الاستهداف في البيئة العربية.
وتساءل رائد نعيرات، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح بفلسطين، حول التطابق بين الأرقام التي استخدمت في الدراسة وبين الواقع العربي وهل تحاكي هذه الأرقام الواقع. وهل الصرف على سبيل المثال يذهب إلى البحث العلمي الحقيقي في العالم العربي، وهل البحث العلمي واتجاهاته تخدم التنمية والأمر نفسه بالنسبة لباقي المؤشرات.
وفي مداخلة محمد سالم الراشد رئيس مجموعة التفكير الاستراتيجي ورئيس مركز الأفق في الكويت، تساءل حول إمكانية المقارنة بين استخدام مؤشرات وضعت في مجتمع غربي حضاري متقدم وبين استخدام مؤشرات وضعت في مجتمع عربي متخلف لا يستطيع التعامل مع هذه المؤشرات بطريقة علمية موضوعية.
وفي رده على مداخلات المشاركين، أكد البروفيسور عبد الحي أن الدراسة اعتمدت على مراجع من الممكن العودة إليها، والاطلاع على المنهجية التي استخدمها في الدراسة والمؤشرات التي اعتمدها وطريقة القياس التي استخدمها. وحول آلية استثمار هذه الدراسة في رسم السياسات العامة، قال إنه من الممكن الاستفادة من هذه الدراسة ولكن هذا ليس دوره إنما هو دور صانع القرار.
وفي مسألة استخدام مصطلح “عقد الاضطراب” فأشار إلى أنه نظر إلى التحولات في المنطقة من زاوية معينة، وأعطى مثالاً التغيير التكنولوجي الذي يتسارع بشكل غير عادي وهو أسرع من التكيف الاجتماعي، ومن هنا تصبح هناك فجوة بين تكنولوجيا طاغية على العصر وبين قيم سياسية واجتماعية. لذلك قد نحتاج إلى فترة طويلة حتى نتكيف معها، من هنا فإن هذه الفجوة قد تزيد الاضطراب والدراسات المستقبلية هي تنبيه لما هو قادم للتجهيز عندما تاتي هذه المظاهر.
وختم عبد الحي أنه قام بتشخيص ما هو موجود من معطيات بطريقة متجردة بغض النظر عن التفاوت في بعض الأرقام، وأن هذه المؤشرات تدل على حالة مقبولة، بناء على وزن المؤشر ومدى تأثيره في المتغيرات المستقبلية.
للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة علمية: الترتيب العربي في نماذج القياس الدولية وتداعياته المستقبلية … أ. د. وليد عبد الحي (29 صفحة، 1.8 MB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 8/12/2021
أضف ردا