بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أتيح لكاتب هذه السطور أن يشارك في هذا الشهر في مؤتمر مهم حول وثائق الملكيات والوضع التاريخي للمسجد الأقصى، نظمته اللجنة العليا للقدس ووحدة القدس في ديوان الرئاسة، وعُقد في مدينة البيرة في الضفة الغربية، حيث قُدمت عشرات الأدلة القاطعة على ملكية المسلمين للمسجد الأقصى بمساحته الكاملة (144 دونماً) بالإضافة إلى ساحة البراق وغيرها.
ويهمني أن أشارك القارئ الكريم بعض الأفكار التي أشرت إليها في ورقتي حول مواجهة الادعاءات اليهودية الصهيونية تجاه الأقصى والقدس.
النقطة الأولى: ما يحويه الأرشيف العثماني من كنوز وثائقية ليس لملكية المسلمين للأقصى فقط، وإنما لملكياتهم المسجلة في القدس وباقي فلسطين. فدفتر أرشيف رئاسة الوزراء رقم 342، في سنة 970هـ/ 1562م، مثلاً لم ترد فيه أي وقفية أو ملكية مسجلة باسم أي يهودي لا في القدس الشريف ولا في الخليل وقراها.. فلا بيتا ملكوه ولا قاعة ولا بستانا ولا قطعة أرض ولا غراسا، ولا مزارع ولا دكاكين أو مخازن أو حواصل أو غيرها.
حتى إن مقبرة اليهود الكائنة في رأس العمود قرب سلوان كانت من الأوقاف الإسلامية المؤجرة لليهود لدفن موتاهم؛ وهي من وقف صلاح الدين الأيوبي بالقدس؛ وقد أُجِّرت لهم سنة 967هـ/ 1559م.
أما بالنسبة للمشروع الاستيطاني اليهودي الحديث، فقد بدأ خارج أسوار القدس، عندما حصل السير موشيه مونتفيوري على فرمان سلطاني سنة 1855 يسمح له بشراء قطعة أرض، واشترطت أن يكون البناء على بُعد 2,500 متر من أسوار القدس، وهو ما عُرف لاحقاً بحي “يمين موشيه” أو حي “المونتفيوري”. ثم توالى بعد ذلك التوسع الاستيطاني اليهودي التدريجي، في ظل ضعف الدولة العثمانية، وفي ظل الثغرات في القانون والإجراءات العثمانية، وفي ظل تدخل السفراء والقناصل الأجانب.
النقطة الثانية: متعلقة بالوثائق البريطانية والدولية؛ فقد وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني في الفترة 1917–1948. وبالرغم مما قامت به السلطات البريطانية من تهيئة كل السبل لإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين، ومن قمع للشعب الفلسطيني؛ إلا أن البريطانيين لم يستطيعوا تجاوز الحقائق على الأرض وإصرار الشعب الفلسطيني وصمود أرضه، حيث تشير الكثير من المراسلات والتقارير البريطانية إلى هذه الحقائق، بما في ذلك الأقصى والقدس. كما أن السلطات البريطانية عندما قامت سنة 1944 بمسح فلسطين، وإصدار أوراق الملكية “الطابو” لأصحابها ظهر مدى حجم الملكية الهائل للفلسطينيين في أرضهم، وحتى سنة 1948، فإن الصهاينة لم يتمكنوا من الاستحواذ على أكثر من 6 في المئة من أرض فلسطين (بينما ظلّ 94 في المئة في ملكية الشعب الفلسطيني)، ولم يتمكن الصهاينة من إنشاء كيانهم على 77 في المئة من أرض فلسطين إلا في حرب 1948 من خلال المجازر والتطهير العرقي وتهجير الشعب الفلسطيني.
ومن المفيد الإشارة إلى تقرير اللجنة الدولية المقدم إلى عصبة الأمم سنة 1930 حول “الحق في حائط البراق”، وذلك إثر أحداث هبّة البراق التي حدثت سنة 1929، حيث أكّدت اللجنة بشكل حاسم ووفق الوثائق والأدلة أن حائط البراق (الحائط الغربي للمسجد الأقصى) وساحته هي أرض وقف إسلامي.
النقطة الثالثة: يركز الكثيرون على “معركة الآثار”، كما يسعى اليهود الصهاينة بكل طاقاتهم لإيجاد شواهد تاريخية على وجود سابق في فلسطين.
نود أن نشير، من ناحية أولى، إلى أن أرض فلسطين مليئة بالآثار الدالة على هويتها العربية والإسلامية.
ومن ناحية ثانية، فأبناء هذه الأرض يعودون في سكنهم فيها إلى عشرات الآلاف من السنوات ، مروراً بالحضارة النطوفية (14-8 آلاف سنة قبل الميلاد)، واختلاطاً بالكنعانيين القادمين من جزيرة العرب، والقبائل العربية التي جاءت قبل الفتح الإسلامي وبعده.. وغيرهم. وهم الذين تعربوا وتعربت لغتهم، وهم الذين أسلمت أغلبيتهم الساحقة؛ حيث عاشت فلسطين تحت حكم الإسلام أطول فترات تاريخها المعروف.
ومن ناحية ثالثة، فليست كل الآثار هي “دلائل ملكية”، ففي فلسطين كغيرها من البلدان آثار يونانية ورومانية وآثار لأقوام وغزاة مرّوا على أرضها. وشواهد آثارهم أدلة على أن أهل فلسطين حوّلوا أرضها إلى مقابر للغزاة، فكانت آثارهم مؤشر زوالهم والانتصار. وهي رسالة للصهاينة المحتلين بأن فلسطين ستكون مقبرة لكم ولمشروعكم، كما كانت لنحو 13 احتلالاً وغزواً مرت على فلسطين.
ومن ناحية رابعة، فيجب التحذير من قيام الصهاينة بتزوير الآثار، وبمحاولة اصطناع تاريخ مزور لفلسطين. فالحفريات الإسرائيلية كما يذكر خبراء متخصصون لم تكن لمعرفة الحقيقة، وإنما لإثبات الادعاءات اليهودية لروايات توراتية محرفة وتاريخية مزعومة. وقد لاحظ الباحثون أن ثمة امتناعا إسرائيليا متشددا عن إشراك بعثات عالمية أو محايدة غير يهودية في الحفريات؛ وأن ثمة محاولات لتكييف الآثار واستنطاقها لإثبات المقولات اليهودية.
ويعترف الكاتب الإسرائيلي داني رابينوفيتش في مقال نشره في صيف 1998 أنه عمل سنة 1968 في حفريات حائط البراق، وأنها أسفرت عن اكتشاف مبان إسلامية أموية؛ وأنه حين عاد للموقع في بداية السبعينيات لم يجد أثراً لهذه المباني، حيث أزيلت بكاملها.
كما نشرت جريدة التايمز اللندنية مقالاً في 17 آب/ أغسطس 1972 لعالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون (Kathleen Kenyon)؛ قالت فيه إن قيام سلطات الاحتلال بإتلاف المباني الإسلامية على طول أسوار المسجد الأقصى هي جريمة كبرى، وأنه يجب وقف هذه الأعمال البربرية.
أما الباحثة الإيرلندية باولا غيرانتي (Paula Geranty) التي عملت مع البروفيسور اليهودي الصهيوني يعقوب بيليج (Ya‘akov Billig) في الحفريات حول المسجد الأقصى، فقالت إن علماء الآثار الإسرائيليين لا يسعون سوى للكشف عما يسمى “التاريخ اليهودي” للقدس، وأنه يتم طمس معالم العصور الأخرى.
وأخيراً، فلسنا بصدد نقاش الحق الديني في أرضنا المباركة، فإيماننا بذلك إيمان حسم. أما ادعاءات اليهود بشأنها، فليس ثمة نقطة التقاء (تشكل أرضية نقاش مناسبة للطرفين) بين حقنا الديني وبين دعاواهم الدينية. ولذلك فهم يلجؤون إلى غطرسة القوة، وإلى حماية منظومة القوى الكبرى التي ترعى مشروعهم في أرضنا.
أما حقائق التاريخ الساطعة، فتشهد أن هذا المكان العظيم المقدس، يحتاج عقلية متسامحة منفتحة “جامعة”، وهو ما كان عليه سلوك المسلمين عبر تاريخهم؛ أما العقلية الصهيونية فهي عقلية منغلقة “مانعة”، لا تملك رسالة حضارية، تقدمها للناس. وبالتالي، لا تستحق إدارة هكذا مكان، ولا حكم هكذا أرض. وحيث توجد العقلية “الجامعة” توجد الحرية والسكينة والسلام، وحيث توجد العقلية “المانعة” يوجد الظلم والصراع والدمار.
موقع ”عربي 21“، 24/6/2022
أضف ردا