بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
نقطتان مهمتان يقف عندهما هذا المقال، حول محاولة الاحتلال الأخيرة اقتحام مخيم جنين (3-4 تموز/ يوليو 2023) التي أسماها الاحتلال “منزل وحديقة”، بينما أسمت المقاومة المعركة “بأس جنين”:
الأولى متعلقة بالمقاومة المسلحة وإمكانية تجاوز عنق الزجاجة استمرارا وانتشارا، والثانية تآكل سلطة رام الله وسقوط دورها كمشروع وطني، وحتى تراجع قيمة دورها الوظيفي في خدمة الاحتلال.
أولا: المقاومة وتجاوز عنق الزجاجة
بالرغم من تصريح جيش الاحتلال بأن عمليته في مخيم جنين كانت “ناجحة جدا”، إلا أن المعطيات تشير إلى أنه فشل في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها في ضرب بؤر المقاومة، خصوصا في جنين ومخيمها، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر في رجال المقاومة وفي البنى التحتية.
شارك في حملة الاجتياح أكثر من ألف جندي (حوالي ثلاثة آلاف وفق بعض المصادر) مدعومين بـ120 آلية عسكرية، وبالطيران الذي نفذ 17 غارة جوية، مستهدفا مخيما لا تتجاوز مساحته نصف كيلومتر مربع فقط. وبالتأكيد، فمع إمكانات كيان يُصنَّف ضمن الدول الكبرى في إمكاناته العسكرية والتقنية والأمنية، وعلى أرض تحت احتلاله، ومع سلطة فلسطينية متعاونة معه؛ وفي مواجهة مجموعة مقاومة قليلة التجهيز والإمكانات، كان من المتوقع وقوع خسائر، حيث استشهد 12 فلسطينيا وجرح نحو 100 منهم 20 بجراح خطيرة، وأُعلن عن اعتقال 30 فلسطينيا مطاردا، وتم تدمير جزء كبير من البنى التحتية للمخيم، بما في ذلك تدمير 300 منزل بشكل كامل.
في المقابل، فعندما أنهى جيش الاحتلال مهمته وأعلن انسحابه، كان ما يزال هناك نحو 300 مقاوم مسلح، لم يستطع الوصول إليهم، واعترف بنقص أو نضوب معلوماته الاستخبارية في اليوم الثاني للعملية. ولم يتمكن الاحتلال من الوصول إلى الحارة الأهم التي يتحصّن فيها المقاتلون وهي حارة “جورة الذهب”، كما لم يصل لحارة “الحواشين”. وتمكنت المقاومة من إيقاع قوات الاحتلال في كمينين محكمين في حارة الدمج وفي المسجد؛ ويبدو أنه تكبّد خسائر كبيرة، اضطر (كالعادة) إلى إخفائها أو إخفاء معظمها. كما نجح تكتيك رجال المقاومة في حرب العصابات، وتجنُّب الانجرار لمواجهات مباشرة، وفي عمل الحواجز الاصطناعية والسواتر الدخانية والقماشية، مما أدى للحفاظ على الكتلة الأكبر للمقاومة.
وفي هذا السياق، ثمة ثلاثة مؤشرات يجدر التوقف عندها:
الأول: الوحدة الميدانية والتنسيق والتكامل بين قوى المقاومة التي خاضت المعركة من الجهاد الإسلامي وحماس وفتح وغيرها، وهذا مؤشر إيجابي قوي على أن مقاومة العدو لا يجب أن تنتظر بالضرورة المصالحات والتوافقات السياسية وإعادة بناء المؤسسات الرسمية، بل لعل هذه الوحدة الميدانية تكون عنصرا ضاغطا من القاعدة المقاومة إلى القيادات السياسية، لإفساح المجال أمام وحدة وطنية حقيقية قائمة على الثوابت ومواجهة الاحتلال.
الثاني؛ أن بؤر المقاومة أخذت تستفيد من الدروس ومن الأثمان الباهظة التي دفعتها، نتيجة بعض المسلكيات الاستعراضية أو التساهل الأمني السابق؛ وأنها أخذت تعمل بشكل أكثر احترافا، وأقدر على تدفيع الاحتلال أثمانا باهظة، وهو ما يخفف من الانتقادات التي كان يتم توجيهها لها.
الثالث: الحاضنة الشعبية، خصوصا في جنين ومخيمها وقراها، التي قدّمت نموذجا رائعا في احتضان المقاومة وشبابها، واستعدادا عاليا للوقوف إلى جانبها دعما وإسنادا ومؤازرة؛ حيث رأينا عشرات النماذج التي تملأ النفوس بالفخر والاعتزاز (وهو ما تجده المقاومة أيضا في نابلس وغيرها). ولعل تلك الرسالة التي وجدها المقاومون، في أحد المنازل التي تم إخلاؤها، تعبّر بشكل جميل مؤثّر عن تلك الحاضنة الدافئة. إذ تدعوهم الرسالة إلى استخدام الطعام و”المونة” المتوفرة، وتخبرهم بالطريق الأفضل للانسحاب من البيت عند الحاجة، كما تخبرهم بمكان المال المخبأ لاستخدامه إن أحبوا؛ وتؤكد لهم أنه لو تم تدمير المنزل بسبب وجودهم فإنه فداهم “طوبة طوبة”.
هذه المؤشرات، تعني أن ثمة فرصا أفضل لصمود المقاومة واستمرارها، بل وتشجيع إيجاد بيئات مقاومة مشابهة في مناطق أخرى من الضفة.
غير أنه من جهة أخرى، لا ينبغي الاستعجال في الذهاب إلى استنتاجات حول نجاحٍ حاسم للتجربة. فما زالت هذه البؤر واقعة تحت الاحتلال، وما زالت محاصرة من كل جانب، وما زال التفاوت هائلا في موازين القوى، وما زالت سلطة رام الله تَعدُّ هذه البؤر نقيضا لها ولوظيفتها الأساسية.
وعلى ذلك، فما زالت مخاطر توجيه ضربات أكثر قسوة لهذه البؤر واردة، مع استخدام القوة التدميرية المفرطة، خصوصا إذا ما تصاعدت تأثيرات ومخاطر هذه البؤر على الكيان، وزادت خشية الكيان أن تفرض نمطها على بيئة الضفة الغربية. كما أن الاحتلال قد يتعامل مع هذه العملية باعتبارها “استطلاعا ناريا بالقوة” لتحديد ما قد يحتاجه في حملة قادمة؛ خصوصاً أن الشعب الفلسطيني يواجه حكومة هي الأكثر تطرفا وشراسة وعنفا في تاريخ الكيان.
ويبدو أن بؤر المقاومة ستكون في سباق مع الزمن لترسيخ قوّتها ودائرة تأثيرها وحاضنتها الشعبية، بحيث تخرج عن السيطرة، بحيث تكون معادلة دفع تكاليف اجتثاثها أكبر بكثير من القيام بإجراءات الانسحاب وإعادة التموضع، وعمل ترتيبات جديدة خاصة بالضفة.
وبشكل عام، المطلوب بذل ما يمكن من أسباب، وإجادة إدارة الإمكانيات والفرص، ومعرفة الظروف الأنسب للكمون أو للانتشار. من جهة أخرى، فمن قال إن العمل المقاوم يخضع للحسابات “الباردة”؟ إذ إنه بطبيعته عمل ثوري خارج عن النمط التقليدي وله شروطه ومعاييره وأوزانه النوعية الخاصة، وهو مرتبط أساسا بالإيمان وصناعة الإنسان، وما نموذج غزة عنا ببعيد.
ثانيا: تآكل سلطة رام الله
منذ انتفاضة الأقصى، والسلطة تواجه تآكلا تدريجيا؛ سواء في قدرتها على تقديم نفسها كمشروع وطني، وعلى تحويل نفسها إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، أم حتى في تسويق نفسها كجهة فلسطينية موثوقة لدى الاحتلال والأمريكان وحلفائهم في قمع المقاومة الفلسطينية وتهميشها شعبيا وسياسيا؛ أيإن دورها الوظيفي نفسه في خدمة الاحتلال، أصبح محطّ تساؤل من القوى الداعمة لها.
فقدت سلطة رام الله في وضعها الحالي ثقة معظم الشعب الفلسطيني (أقل من 20 في المئة يثقون بأدائها)، وفقدت قيادتها الجدية والمصداقية، خصوصا بعد تعطيلها المصالحة الفلسطينية، وإلغائها مسار الانتخابات التشريعية والرئاسية في أواخر نيسان/ أبريل 2021.
ثم إن حركة فتح التي تتكئ عليها السلطة في “شرعنة” نفسها وفي حضورها الشعبي، تعاني من انقسامات حادة وصراعات داخل تياراتها، خصوصا مع غياب الرموز القادرة على ملء الفراغ في حالة غياب عباس. غير أن الظاهرة الأهم التي تصب في النهاية لصالح العمل المقاوم، هي أن قواعد شعبية واسعة ومتزايدة من مناصري فتح وكوادرها أخذت تظهر غضبها من السلطة، ومن أدائها الخدماتي والأمني، بل ومن قيادتها. وأخذت تميل أكثر لخط المقاومة، بل إن الكثير من عناصرها انضمت إلى بؤرها، بينما خبت أصوات أولئك الذين يدافعون عن السلطة ومسلكياتها.
انعكست حالة الغضب من سلوك قيادة السلطة (وحتى قيادة فتح) على ما حدث في جنازة شهداء مخيم جنين، حيث تم إخراج أو طرد الرموز القادمة للمشاركة (تحديدا محمود العالول وعزام الأحمد). وعلى الرغم من أن هذا الغضب كان شعبيا شاركت فيه عناصر فتح الشبابية نفسها؛ إلا أن قيادة السلطة ومناصريها حاولوا اتهام حماس بذلك، وتوجيه حملة إعلامية شرسة ضدها، غير أنه لم يثبت أن لحماس دورا في الأمر، وأن حالة الغضب هي حالة حقيقية تجتاح الشارع الفلسطيني، خصوصا أن القوى الأمنية انسحبت من مخيم جنين قبيل العملية الإسرائيلية، بل واعتقلت مقاومين كانوا في طريقهم لدعم إخوانهم في المخيم، ثم عادت بعد العملية لمواصلة دورها القمعي ضد شعبها.
من المبكر الحديث عن انهيار سلطة رام الله، فما زالت هناك رغبة إسرائيلية أمريكية (وعربية) بوجودها، وقد أكد ذلك في الأيام الماضية رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو نفسه ووزير دفاعه. كما أن السلطة ربطت الحياة اليومية لنحو 170 ألف موظف يعيلون نحو مليون فلسطيني بأجهزتها ومؤسساتها، وليس ثمة بديل عملي يملأ الفراغ حسبما يرى عديدون.
من جهة أخرى، ثمة تيار متزايد يُقلل من المخاوف المحتملة لانهيار السلطة، بالرغم من وجود خطط إسرائيلية لإنشاء كانتونات في الضفة وعلى غرار “روابط القرى”. ويستشهد بأن الوحدة الميدانية للعمل المقاوم على الأرض تشكل ردّا على ذلك، وأن الشعب الفلسطيني واجه الاحتلال على مدى 26 عاماً (1967-1993) في مرحلة ما قبل السلطة وما قبل أوسلو، وقدم نماذج بطولات وأدار الانتفاضة المباركة 1987-1993 باقتدار، وأفشل الخطط لأي بُنى مؤسسية عميلة للاحتلال، وأن انتشار العمل المقاوم هو الرد الطبيعي على الاحتلال، ويسحب الذريعة “الأوسلوية” والغطاء لبقائه، ويمنع استمراره كاستعمار “خمسة نجوم”.
وما يعنينا هنا هو التأكيد أن ثمة إجماعا وطنيا على رفض الدور الأمني والوظيفي للسلطة، وأن تآكلها سيستمر، إلى أن تُواجه قدرها إما بإعادة توصيف نفسها بالتماهي مع إرادة شعبها، أو بانتهاء دورها وزوالها، أو بانعزالها عن التأثير في الأحداث وحركة التاريخ
المصدر: موقع ″عربي 21″، 7/7/2023
أضف ردا