بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أثارت حادثة قتل الشهيد عبد القادر نضال زقدح في مخيم طولكرم يوم الأربعاء (30 آب/ أغسطس 2023)، أجواء غضب واستياء واسعة ضدّ أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، التي اتّهمتها الفصائل الفلسطينية بقتله، عند محاولة إزالتها لمتاريس وحواجز وضعتها قوى المقاومة على مداخل المخيم، لتعويق أي اجتياحات محتملة من الاحتلال الإسرائيلي.
وبغض النظر عن عدم اعتراف الأجهزة الأمنية بمسؤوليتها، إلا أن الأجهزة الأمنية ودورها ومكانتها في بنية السلطة الفلسطينية، وتنسيقها الأمني مع الاحتلال، كان وما يزال موضوعاً أساسياً في النقاش الداخلي الفلسطيني، وفي مبررات وجود السلطة ذاتها، وفي إمكانية تحقيق مصالحة فلسطينية وإعادة بناء المؤسسات الرسمية الفلسطينية.
* * *
قراءة في تاريخ التجربة:
كان من الواضح منذ أن نشأت السلطة الفلسطينية سنة 1994، أن سيطرتها الأمنية على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنع العمل المقاوم، هو متطلّب أساسي للإيفاء بالتزاماتها تجاه اتفاق أوسلو. وعلى ما يبدو فإن قيادة السلطة ظنَّت في حينه أن حُسن أدائها الأمني سيفتح لها الطريق نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة خلال خمس سنوات، وفق مفاوضات الحلّ النهائي، ولذلك لم تكن “شراستها” تقل عن “شراسة” الأجهزة الأمنية هذه الأيام.
وكانت “مجزرة الجمعة السوداء” التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية (بعد بضعة أشهر فقط من إنشائها) في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 بحق مصلّين ينوون الخروج في مظاهرة سلمية من مسجد فلسطين بغزة باتجاه منزل الشهيد هشام حمد، دليلاً فظّاً على رغبتها في سحق أي معارضة؛ إذ أدّت إلى استشهاد 13 مصلياً وجرح 200 آخرين. وفي الفترة من أيار/ مايو 1994 وحتى آب/ أغسطس 1995 قامت أجهزة أمن السلطة بـ12 حملة اعتقال في قطاع غزة، وأنشأت 24 مركز توقيف واعتقال؛ بينما داهمت مثلاً في شهر واحد (19 نيسان/ أبريل-19 أيار/ مايو 1995) 57 مسجداً 138 مرة في قطاع غزة. وقد أشاد جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك) بأداء أجهزة أمن السلطة؛ التي نجحت بحسب تقريره في منع 80 عملية ضدّ أهداف إسرائيلية خلال سنة 1995.
وفي شباط/ فبراير 1995 أنشأت قيادة السلطة “محكمة أمن الدولة”، حيث كان القضاة وممثلو الادعاء من العسكريين، وكانت المحاكم تُقام سرّاً عادة، وعُرِفت “بمحاكم منتصف الليل” بسبب توقيت انعقادها، وخلال شهر ونصف (9 نيسان/ أبريل- 27 أيار/ مايو 1995) أصدرت أحكاماً بحق 33 معتقلاً معظمهم من حماس أو الجهاد الإسلامي، وكانت بعض المحاكمات تستغرق دقائق معدودة.
وبعد عمليات الانتقام لاستشهاد يحيى عياش، قامت أجهزة أمن السلطة بضرب البنى التنظيمية والدعوية والمؤسسية لحماس والجهاد الإسلامي، “ولم تترك حجراً على حجر”، واعتقلت نحو 1200 من أعضائها ومؤيديها، وأغلقت المدارس والجمعيات الخيرية ولجان الزكاة ودُور الأيتام المحسوبة عليهما. ولذلك، عانى العمل المقاوم من حالة انحسار شديد خصوصاً في الفترة 1997 وحتى انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000.
وخلال تلك الفترة، تشكلت تسع أجهزة أمنية، ووصل عدد منسوبي الأجهزة الأمنية قبيل انتفاضة الأقصى إلى 40 ألفاً، وهي أعلى نسبة في العالم لأفراد الأمن مقارنة بعدد السكان، أي واحد لكل 84 شخصاً (مقابل مثلاً واحد لكل 3200 في لندن مثلا).
لم تُغير قيادة السلطة سياستها الأمنية إلا بعد انتفاضة الأقصى، وبعد أن قام الاحتلال بتدمير المقار الأمنية للسلطة (التي لم يعجبه أداؤها) في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2000، فقامت السلطة بإطلاق سراح معتقلي المقاومة بحجة عدم القدرة على حمايتهم. واتخذ ياسر عرفات خطاً مغايراً بعد يأسه من مسار التسوية السلمية وفشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في صيف 2000؛ ودعم الانتفاضة سرّاً. غير أن الاحتلال كان له بالمرصاد، فكان حصاره في “المقاطعة” ومحاولة تحييده عن السلطة في 2003 إلى الأحداث التي انتهت إلى بوفاته في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، حيث كانت الرسالة الإسرائيلية/ الأمريكية واضحة بشكل صارخ أن بقاء السلطة وقيادتها مرهون أساساً بقيامها بدورها الأمني.
* * *
تحت رئاسة عباس:
بالرغم من أن جوهر الدور الوظيفي للأجهزة الأمنية بقي على حاله تحت رئاسة محمود عباس، إلا أنها مع الزمن أخذت تفقد “المبرر الوطني” و”الغطاء السياسي والشعبي” لدورها الذي تدّعيه عند مطاردة المقاومة وضربها، فعرفات كان يربط بين أدائها وبين تطلعاته في الوصول إلى حلّ نهائي يؤدي لدولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع. وهناك مواقف كان عناصرها يقومون فيها بأدوار مقاومة بطولية كما في مواجهة الاحتلال في انتفاضة “النفق” في 25-27 أيلول/ سبتمبر 1996، وفي انتفاضة الأقصى؛ حيث دعم عرفات الخط المقاوم.
أما في عهد عباس الذي حسم أمره في الالتزام “بالوسائل السلمية” وبمسار التسوية، وانتقد انتفاضة الأقصى، ورأى في المقاومة وصواريخها حالة من العبث، كما رأى أن التنسيق الأمني مع الاحتلال “مقدس”، فقد تضخم الدور الوظيفي للسلطة ولأجهزتها الأمنية، ولم يعد ثمة “قعر” لتكييف الأوضاع تحت الاحتلال.
فبعدما فاز عباس بالرئاسة (9 كانون الثاني/ يناير 2005) قام بناءً على طلبات أمريكية إسرائيلية بعمل “إصلاحات” في الأجهزة الأمنية، لتصبح أكثر “إخلاصاً” في تنفيذ استحقاقات أوسلو، وأكثر “كفاءة” وشراسة في مطاردة العمل المقاوم. فدمج الأجهزة الأمنية في ثلاثة أجهزة، وأحال للتقاعد عدداً من الضباط الكبار “المشتبه” بتعاطفهم مع العمل المقاوم أو ذوي الماضي النضالي، وحلّ مكانهم ضباط صغار أكثر انفتاحاً على ما يسمى “الإصلاح”!! وعندما حدث “اجتماع لندن لدعم السلطة الفلسطينية” في 1 آذار/ مارس 2005 ألزم السلطة بإصلاحات أمنية تقتضي “إيجاد ظروف مواتية لاستئناف العملية السلمية، ومنع العنف على الصعيد الداخلي”؛ وأوكل تنفيذ الإصلاحات إلى إشراف مصر والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى وجود خط أمريكي موازٍ.
وعندما فازت حماس في الانتخابات 2006 وشكلت الحكومتين العاشرة والحادية عشرة، رفضت التنسيق الأمني مع الاحتلال، غير أن الأجهزة الأمنية ظلت فعلياً تحت سيطرة حركة فتح وتحت توجيه الرئيس عباس، وكانت سبباً رئيسياً في افتعال الصدامات، ومحاولة إسقاط حكومة حماس، في الوقت الذي دعم فيه الاحتلال التشكيلات الأمنية التي تتبع الرئاسة وقدم لها التسهيلات.
تزايد الدور الأمريكي في إعادة بناء وتأهيل الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، خصوصاً بعد سيطرة حماس على قطاع غزة ليظهر جيل “أولاد دايتون” (كيث دايتون هو الجنرال الأمريكي الذي تولى الإشراف على إعادة تأهيل هذه الأجهزة)، وقامت قيادة فتح بحل كتائب شهداء الأقصى؛ واستعاد التنسيق الأمني حيويته، لدرجة أن تقارير إسرائيلية أشارت في نهاية سنة 2008 إلى أن التنسيق الأمني لم يسبق له مثيل!! وأشار تقرير إسرائيلي إلى أنه تمّ عقد 843 اجتماعاً أمنياً بين قادة وضباط أمن من سلطة رام الله ومن الجانب الإسرائيلي خلال سنة 2012 فقط.
ولسنوات عديدة تحت حكم عباس (خصوصاً السنوات العشر الأولى) ظلّ معدّل عدد أفراد الأجهزة الأمنية يزيد عن سبعة أضعاف المعدل العالمي لنسبة أجهزة الأمن إلى عدد السكان؛ وظلّت ميزانية الأمن تأخذ 27-32 في المئة من ميزانية سلطة رام الله، بينما تبلغ رواتب الموظفين الأمنيين نحو 40 في المئة من مجموع إنفاق السلطة على الرواتب. وبالرغم من وجود تخفيض تدريجي محدود في السنوات الأخيرة، إلا أن الأجهزة الأمنية ما زالت تحصل على “نصيب الأسد” من ميزانية السلطة. إذ تشير نفقات سنة 2022 إلى استحواذ الأمن على 22.7 في المئة من النفقات، وإلى استحواذ الموظفين الأمنيين على 35.5 في المئة من مجموع رواتب موظفي السلطة.
* * *
قراءة الواقع الحالي:
– تضخّم الدور الأمني للسلطة بحيث أصبح عملياً هو الوظيفة الحيوية المبررة لوجودها، أمريكياً وإسرائيلياً؛ مع إدراكٍ ذاتي لسلطة رام الله بارتهان بقائها بالدور الأمني الذي تؤديه.
– هناك أغلبية فلسطينية ساحقة وفق استطلاعات الرأي تطالب بوقف التنسيق الأمني، وتدعم المقاومة، وترفع بالتالي الغطاء “الوطني” و”الشرعي” عن ممارسات الأجهزة الأمنية في التعاون مع العدو.
– تعاملت قيادة السلطة تجاه قرارات المجلس الوطني الفلسطيني (سنة 2018)، وقرارات المجلس المركزي الفلسطيني المتكررة (منذ 2015) بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، دونما جدية، وباعتبارها نوعاً من “الاستهلاك المحلي” بينما تابعت تنسيقها.
– إن إدراك السلطة لبؤس وضعها والسخط الشعبي تجاه تنسيقها الأمني عكس نفسه أيضاً، في العدد الكبير من “إعلانات” وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال (أو التهديد بوقفها) الصادرة عن قيادة سلطة رام الله، والتي قدّر أحد الباحثين المتخصصين بأنها تجاوزت ستين مرة!! بهدف امتصاص الأجواء الفلسطينية الغاضبة والساخطة، إلى حين العودة العلنية للتنسيق.
– ظلّ أداء الأجهزة الأمنية وتنسيقها مع الاحتلال، وما يزال، عقبة كؤوداً في وجه المصالحة الفلسطينية، نظراً لتعارض عملية الإصلاح الفلسطيني الداخلي وبناء المؤسسات مع جوهر الوظيفة الأمنية للسلطة في رام الله، ولوجود شبكة مصالح مرتبطة بالأجهزة الأمنية ستفقد دورها ومبرر وجودها في عملية إعادة بناء البيت الفلسطيني.
– عاد أداء الأجهزة الأمنية في الضفة ليكون أكثر جرأة وشراسة، في السنتين الماضيتين، بعد تعطيل انتخابات المجلس التشريعي ومعركة سيف القدس، وتصاعد قمع المعارضة كما في قتل الشهيد نزار بنات، وحملات الاعتقال المتواصلة.
– ثمة تيار محسوب على الأجهزة الأمنية (في قيادة فتح) يرغب في استلام زمام قيادة السلطة بعد وفاة عباس، وهو يحاول أن يهيئ البيئة الداخلية والخارجية لذلك؛ بالرغم من أن حظوظه الشعبية ضعيفة.
* * *
وأخيراً، فإن إصلاح الأجهزة الأمنية للسلطة في إطار وطني، يرتبط جوهرياً بإعادة تعريف السلطة لنفسها في رام الله، وهي عملية قد تعني في نظر الإسرائيليين والأمريكان إسقاط السلطة أو انهيارها.
أما وقد انكشف الوهم، بعد انهيار حلّ الدولتين، ووصول مسار التسوية لطريق مسدود، وتصاعدِ التطرف الصهيوني وبرامج التهويد، فلم يعد ثمة مبرر لقيادة السلطة (قيادة فتح) لتسويق المهمة الاستراتيجية للسلطة ولا لأجهزتها الأمنية. وهي أمام استحقاق تاريخي، تكرر مراراً على مدى السنوات الماضية، بالتوقف عن “عبثية التجربة” (التي تجعل السلطة مصلحة إسرائيلية أكثر منها مصلحة فلسطينية) والعودة إلى استحقاقات المصالحة وبناء المؤسسات وفق إرادة الشعب الفلسطيني وبناءً على ثوابته؛ بالرغم من الأثمان الباهظة التي قد تدفعها؛ إذ إن المقاومة هي الخيار الصحيح والوحيد لإنهاء الاحتلال.
المصدر: موقع ″عربي 21″، 3/9/2023
أضف ردا