بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
في ذكرى مرور ثلاثين عاماً على اتفاق أوسلو، يتأكد عاماً بعد عام حجم الكارثة التي تسبب بها هذا الاتفاق على فلسطين وقضيتها وشعبها وأمتها ومقدساتها. ونسلط الضوء في هذا المقال على سبع كوارث “موبقات” أدى إليها هذا الاتفاق.
الأولى كانت التنازل عن الحق التاريخي والأصيل للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية في معظم فلسطين. حيث اعترفت قيادة المنظمة بالكيان الإسرائيلي على 77% من أرض فلسطين. وهو حق لا تملك هذه القيادة حرية التصرف فيه، وهو ضربٌ لثابت من ثوابت قضية فلسطين، وتحطيم لأساس و”عمود فقري” قامت عليه منظمة التحرير نفسها. كما أن هذه القيادة لم تستشر شعبها، ولا أمتها العربية ولا أمتها المسلمة. وهو تنازل أجمع على رفضه علماء المسلمين الثقات في الأمة.
وهكذا تحوّلت القيادة “الرسمية” للمنظمة إلى قيادة ترعى خرق الميثاق الوطني للمنظمة، بدلاً من حمايته. وترفض دخول قوى فلسطينية كبيرة وفاعلة على أساس الميثاق، وإنما تصر دخولها على أساس خرقه، وعلى أساس التزامات أوسلو.
الثانية كانت تقزيم المشروع الوطني الفلسطيني من مشروع يهدف إلى تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، إلى مشروع يهدف لإنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، لكن إنشاء هذه الدولة صار مرتهنا بإرادة الاحتلال وبموافقة العدو؛ وكأن العدو “جمعية خيرية” معنية بفتح الطريق لإقامة الدولة المستقلة. ولم تكتفِ أوسلو بذلك، ولكنها ألزمت منظمة التحرير بالتخلي عن أبرز حق من حقوق الشعب الفلسطيني وهو حقه في المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال، بل والتزمت قيادة المنظمة بمنع قوى المقاومة الفلسطينية من العمل المقاوم وبمطاردتها وتفكيكها وسجن عناصرها؛ بحجّة أنها تتسبب في تعطيل إنشاء الدولة الفلسطينية الموعودة والموهومة. وهو ما نزع القدرة على ممارسة أي نوع من أنواع الضغط الحقيقي على الاحتلال.
هذا التقزيم انسحب على منظمة التحرير نفسها التي تضاءلت إلى دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تضخمت فيه السلطة المرتهنة بدورها للاحتلال. وبينما تحولت صناعة القرار إلى داخل فلسطين حيث يهيمن الاحتلال، أصبحت “إسرائيل” الحاضر الغائب في صناعة القرار، لقدرتها على السماح بالانعقاد ومنعه، وبمشاركة الأعضاء ومنعهم، وتعقيد أو تسهيل المسارات بما يتوافق ومصالحها.
من جهة أخرى، فقد أدى هذا التقزيم إلى تجاهل وتضييع دور فلسطينيي الخارج الذين يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني.
الثالثة: الانتقال من وهم الدولة الفلسطينية إلى كيان وظيفي في خدمة الاحتلال:
إذ إن اتفاق أوسلو لم يؤسس لحل الدولتين ضمن التزامات محدد مسبقة، وإنّما وفّر عملياً للعدو الإسرائيلي إدارة مسار التسوية بما يخدم أهدافه، ورهن الحلول النهائية بإرادته. إذ إن حركات الاستقلال والتحرر عندما تعقد اتفاقات فإنها تحسم القضايا الأساسية مسبقاً بما يؤدي لخروج الاحتلال، ثم تتفاوض على بعض الجوانب الإجرائية آليات التنفيذ. أما اتفاق أوسلو فانشغل بالتفاصيل والجزئيات لتشكيل حكم ذاتي محدود يحكمه الاحتلال، بينما ترك القضايا الكبرى دونما حسم كالانسحاب الاسرائيلي من الضفة والقطاع والاستقلال والسيادة على الأرض وحق تقرير المصير والسيطرة على الحدود، ومستقبل اللاجئين، ومستقبل القدس، ومستقبل المستوطنات. كما أخرج مرجعية الأمم المتحدة والقرارات الدولية الملزمة للكيان الاسرائيلي، وأعطى بذلك “إسرائيل” حق التسويف إلى ما لا نهاية.
وهذا أعطى الاحتلال فرصة ذهبية للتحكم بمسار الحكم الذاتي (السلطة الفلسطينية) وربطها بشروطه واستحقاقاته؛ وبالتالي نجح عبر ثلاثين عاماً في تحويل السلطة إلى سلطة تخدم أغراض الاحتلال أكثر من خدمة شعبها؛ وتتضخم أجهزتها الأمنية وتلتهم ميزانيات ضخمة للقيام بدورها في “ضبط” الشعب الفلسطيني ومنع المقاومة ومطاردة عناصرها؛ وتريح الاحتلال من أعباء ومعاناة القيام بإدارة الحياة اليومية للفلسطينيين.
الرابعة: التأسيس العميق لأكبر انقسام فلسطيني:
لم يخلُ التاريخ الفلسطيني من انقسامات، لكن الاتفاق الذي نشأ عن مسار التسوية واتفاق أوسلو أسس لانقسام عميق وحاد وطويل في الصف الفلسطيني، لأن فصيلاً فلسطينياً انفرد بقرار مصيري، يتضمن تنازلاً تاريخياً عن معظم فلسطين، وتسوية مجحفة مع العدو. وهو ما أدخل الوضع الفلسطيني في الاختلاف على الثوابت، وعلى إدارة المسارات الكبرى للمشروع الوطني، وعلى تحديد أولويات المرحلة، وعلى البرنامج الوطني الفلسطيني؛ بمعنى أنه ضرب المشترك الذي كان قاعدة للعمل. ودفع فصيلاً فلسطينياً من مقاومة العدو إلى مقاومة المقاومة بحجة أولويات المرحلة وإفساح المجال لإنشاء الدولة.
وبالتالي تشكلت الفصائل العشر المعارِضة لاتفاق أوسلو، والتي تمثل وزناً شعبياً كبيراً في الساحة الفلسطينية.
وأصبح من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) تطويع خط أي من الطرفين لصالح الطرف الآخر، فلا المقاومة ترضى بالتنازل عن مسارها ولا قيادة المنظمة وفتح ترضى بالتنازل عن مسارها والتزاماتها.
الخامسة: ضرب العمل المؤسسي الفلسطيني:
كان تقزم منظمة التحرير أحد أثمان اتفاق أوسلو، فتضاءل دورها لتحفظ في غرفة “الإنعاش”، لتقوم بدور “الختم” عندما تستدعي الحاجة. بينما شُلَّت عملياً مؤسسات منظمة التحرير وهيئاتها ودوائرها. وتعطل انعقاد مجلسها الوطني أو أُفرغ من محتواه. كما أغلق الباب في وجه فصائل العمل المقاوم التي أخذت تملك أكثر من نصف الشارع الفلسطيني. وأصبح هاجس الالتزام باتفاقات أوسلو مسكوناً بقيادة المنظمة التي لا ترحب بقوى المقاومة، التي قد “تفسد” عليها التزامها إذا ما دخلت بحجمها الحقيقي في منظمة التحرير.
ومن جهة أخرى، نشأت سلطة فلسطينية هشة تحت الاحتلال، بمنظومات وبنى مؤسسية محكومة بالفشل. وفي بيئة احتلال يتحكم بها براً وبحراً وجواً، ويتحكم بأمنها واقتصادها وأرضها ومياهها… ويوجه أداءها لتلبية احتياجاته، وليس لتلبية تطلعات وطموحات الشعب الفلسطيني.
السادسة: غطاء للتهويد والاستيطان:
لم يلزم اتفاق أوسلو العدو الإسرائيلي بوقف الاستيطان والتهويد في أثناء عملية المفاوضات؛ وبالتالي استفاد الإسرائيليون من إدارة مسار التسوية كغطاء لاغتصاب الأرض وتهويد المقدسات واستجلاب المزيد من المستوطنين وإنشاء الحقائق على الأرض، والإفشال الفعلي لأي احتمال لقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على الضفة والقطاع.
ولذلك تضاعف عدد المستوطنين من نحو 280 ألفاً إلى أكثر من 900 مستوطن، كما تضاعفت مساحات الأراضي المستعمرة، وحرم الفلسطينيون من الاستفادة من نحو 60% من مساحة الضفة بحجة أنها مناطق ج التي يديرها الاحتلال، وأقيم الجدار العازل ليصادر نحو 12% من الضفة، وأقيمت مئات الطرق الالتفافية، ومئات الحواجز، وعُزلت أجزاء الضفة عن بعضها.
وتحوّل الاستعمار الصهيوني إلى استعمار “خمس نجوم” واستعمار “نظيف” تحت أوسلو وبحماية السلطة!!
السابعة: الاختراق الإسرائيلي التطبيعي للمنطقة العربية والإسلامية:
إذ أصبح اتفاق أوسلو مدخلا “لشرعنة” الكيان الإسرائيلي، ودخلت دول كثيرة في علاقات مع الاحتلال لأنهم “ليسوا ملكيين أكثر من الملك”!!
كما تم تشويه صورة المقاومة، وبدا وكأنها “خروج عن الصف الوطني”!!
ووفر التطبيع فرصة للكيان الصهيوني لإضعاف الملف الفلسطيني وعزله عن بيئته العربية والإسلامية، والاستفراد به لفرض الرؤية الإسرائيلية للحل ولإغلاق الملف الفلسطيني. كما وفّر فرصة للجانب الإسرائيلي لحرف بوصلة الصراع ضده إلى الصراعات الإقليمية والطائفية في المنطقة، وقطع الطريق على قوى المقاومة وحاضنتها الشعبية العربية والإسلامية، وإعطاء الكيان الإسرائيلي حاجته للشعور بالاستقرار والتحوّل إلى كيان “طبيعي” في هذه البيئة المعادية، وكذلك التحول إلى “شرطي” المنطقة.
***
وأخيراً، كان اتفاق أوسلو واستتباعاته أحد أكبر الكوارث التي حلَّت بقضية فلسطين، وأحد المؤشرات المأساوية على فشل قيادة منظمة التحرير في أدائها السياسي والمؤسسي، والانحراف عن الأهداف التي نشأت على أساسها المنظمة.
المصدر: موقع ″عربي 21″، 15/9/2023
من هم هؤلاء العلماء الثقات؟ وهل بقي منهم أحد؟ وهل كان رفضهم للتنازل عن معظم فلسطين مثل استنكارات الحكام لبعض الجرائم المترافقة مع التعاون مع مرتكبيها؟ آخر بيان قرأته لمن يدعون أنهم علماء مسلمون كان دعوة لانتخاب اردوغان حليف الصهاينة الذي وصم عمليات فلسطينية بالإرهاب ورحب بقادة الصهاينة وعزاهم في قتلاهم. أليس التولي يوم الزحف من الموبقات، فكيف بمن يقف في صف العدو؟
الرفض الحقيقي للتنازل عن أي شبر من فلسطين يعني أنه لا شرعية لحاكم أو وزير أو نائب يقبل ذلك، سواء أكان عبر اتفاقية سلام، أو بالموافقة المبادرة العربية، أو عبر علاقات سياسية مع العصابات الإرهابية الاستعمارية التي تحتل فلسطين. فالمتنازل عن أرض في فلسطين رغما عن أهلها والمتولي لمن أخرجهم من ديارهم أسوأ من بائع أرضه للصهاينة، لكن أين العلماء الذين لا يمدحون أيا من هؤلاء الحكام والوزراء والنواب فضلا عمن يجرؤون على الحكم عليهم كما تنص عليه فتاوى بيع الأرض لليهود المعتدين؟
هل كانت ستستمر اتفاقية أوسلو وتلد المبادرة العربية والسلام الاقتصادي وصفقة القرن لولا أن نسبة كبيرة من الرافضين مطففون يغيرون مواقفهم ومبادئهم ومواثيقهم وفتاواهم حسب الحاجة والمصالح الشخصية والفئوية؟ أوليس ذلك مغريا للعدو باستكمال النكبة وتحقيق حلمه بين النيل والفرات؟
كل تغير يقاس بما قبله ومابعده وليس انتقائياً كما فعل الموقر صاحب المقال كما ندرس حرب 48 أو 56 أو حرب 67 ولا تجوز المقارنة بما هو قديم لأن ال عوامل أخرى سوف تفسد الدراسة.
فنقول مثلاً ان من نتائج حرب 67 أن العرب قد فقدوا خلالها سيناء والضفة الغربية والجولان وقطاع غزة ولا يجوز القول اننا قد فقدنا قبرص التي كانت قد فقدت في زمن أقدم بكثير من احتلال الانجليز لفلسطين كأحد نتائج الحرب الأحدث.