بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
بون شاسع:
خمسون عاماً بين خوض الجيش المصري لحرب أكتوبر 1973 ضدّ الكيان الإسرائيلي، التي غدت أحد أبرز مفاخر تاريخ مصر الحديث؛ وبين وقوف النظام المصري عاجزاً عن مجرد إدخال المواد الإغاثية إلى قطاع غزة التي ينفذ فيه الصهاينة مذابح يومية مروعة بحق النساء والأطفال والمسنين؛ إلا بإذن من الصهاينة أنفسهم. وما بين إعلان الحرب 1973 استعادةً للكرامة العربية، وما بين مجرد عدم سحب السفير المصري من تل أبيب بعد أربعين يوماً من المجازر بون شاسع.
المقاومة من واجب إلى عبء:
بلا شك، فقد حدثت خلال السنوات الخمسين الماضية تحولات كبيرة في البيئة العربية جعلتها أقل التصاقاً بقضية فلسطين، فقد كانت حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب العربية الإسرائيلية، وقد تلاها دخول مصر في مسار التسوية السلمية (اتفاقية كامب ديفيد 1978)، وواجهت المقاومة الفلسطينية الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 لوحدها تقريباً. وقد كان للتبني العربي لمسار التسوية السلمية تداعياته السلبية على سلوكها تجاه المقاومة الفلسطينية، ومنذ موافقة الأنظمة العربية على مبادرة الأمير (الملك) فهد 1982، حسمت هذه الأنظمة مساراتها، وتكرس ذلك منذ اعتمادها المبادرة السعودية 2002، غير أنها ربطت ذلك بالتزام “إسرائيل” بحل الدولتين بكافة مقتضياته. ومع ذلك، فقد تجاهلت عدة دول عربية شرط الالتزام الإسرائيلي، وأقامت اتصالات وعلاقات مع الكيان الإسرائيلي تحت الطاولة أو حتى فوق الطاولة. وقد تعمّق هذا المسار، بعد انضمام منظمة التحرير الفلسطينية لمسار التسوية، وتوقيعها اتفاق أوسلو 1993، الذي التزمت فيه بالوسائل السلمية فقط.
وهكذا، حوَّل مسار التسوية العملَ المقاومَ إلى “عبء” بعد أن كان دعمه واجباً مستحقاً، وبدا دعم الأنظمة للسلطة الفلسطينية في قمعها للمقاومة وتنسيقها مع الاحتلال أمراً عادياً، باعتبار أن المنظمة هي الجهة الرسمية التي تُمثل الفلسطينيين.
المقاومة: من عبء إلى إلى خصم:
منذ صعود الموجة المضادة للربيع العربي سنة 2013 والموقف العربي من قضية فلسطين يزداد تراجعاً وبؤساً. إذ إن عدداً من الأنظمة العربية كانت ما تزال تسمح في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين بهامش من التفاعل الشعبي وحملات التبرع المالي، وتعطي مجالاً معقولاً لخط المقاومة لتوصيل فكره سياسياً وإعلامياً. وكانت وسائل إعلامها أكثر جرأة وانفتاحاً في إدانة الكيان الإسرائيلي وممارساته وإدانة داعميه. أما بعد هذه الموجة، فقد صارت هذه الأنظمة العربية أكثر ميلاً للتضييق على الحريات وقمع الإرادة الشعبية، وأكثر محاربة للمؤسسات الشعبية والمدنية وللشخصيات المعارضة والنشطاء السياسيين.
كما تم استخدام وسائل الإعلام في التركيز على القضايا المحلية القطرية، والانكفاء على الذات، وإشغال الناس بلقمة عيشهم أو بتوافه الأمور، مع تغييب فلسطين ومقاومتها وصمود أبنائها عن وسائل الإعلام إلا في إطار هامشي. وجرى إفساح المجال لـبعض المندفعين لتسويق التطبيع مع الصهاينة، ولمهاجمة المقاومة، بينما كان يتم بشكل منهجي قمع واعتقال أصحاب الأصوات الوطنية والقومية والإسلامية الحرة. وهو ما انعكس سلباً على قدرة الجماهير على التفاعل مع قضية فلسطين وقضايا الأمة. كما أن العديد من الشعوب التي ذاقت مرارة قمع الأنظمة وأنهكتها الصراعات الداخلية، لم تعد قادرة على التعبير عن نفسها والتفاعل بالقدر نفسه مع القضية الفلسطينية؛ بالرغم من أنها ما تزال في خطها العام وبأغلبيتها الساحقة تعبّر عن أصالة الأمة وترفض التطبيع، وما زالت القدس والأقصى في قلبها.
ولم يشفع لخط المقاومة فوزه في انتخابات المجلس التشريعي 2006 بأغلبية ساحقة. وانحازت الأنظمة في ضوء الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على قطاع غزة إلى جانب “الشرعية الفلسطينية”.
وفي العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، برزت ثلاثة عوامل ضغطت باتجاه التقهقر العربي والتراجع عن دعم المقاومة؛ أولاها النزاعات والصراعات والاضطرابات الداخلية في ظل الموجات المضادة للربيع العربي، والانشغال بالهموم والملفات الداخلية. وثانيها أن الأنظمة العربية التي تابعت السيطرة بعيداً عن إدارة شعوبها أصبحت أكثر ضعفاً في مواجهة الضغوط، وأكثر احتياجاً للدعم الخارجي الإقليمي والدولي، خصوصاً الأمريكي والغربي. وهو ما سهَّل على الأمريكان، خصوصاً في عهد ترامب، الضغط باتجاه تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.
أما ثالثها فهو أن المقاومة الفلسطينية المسلحة تتشكل بنيتها الأساسية من حركات إسلامية هي حماس والجهاد الإسلامي. فاجتمع عليها معارضة الأنظمة لخط المقاومة وعداء هذه الأنظمة أيضاً للتيارات الإسلامية التي تصدَّرت الربيع العربي في بلدانها؛ وهو ما زاد من صعوبة العمل المقاوم وعدم وجود بيئة استراتيجية حاضنة في البلاد العربية. وتسبّب ذلك في أن تلجأ المقاومة لبناء علاقة قوية بإيران التي دعمت المقاومة مالياً وعسكرياً، وهو ما زاد من توتير العلاقات مع عدد من الأنظمة العربية؛ وأصبحت تنظر للمقاومة من خلال علاقتها بإيران، وليس من خلال واجبها تجاه القدس والمقدسات وفلسطين، ومسؤولياتها القومية والإسلامية وأمنها القومي.
ومع اتساع عملية التطبيع التي رافقت إقامة أربع دول عربية في 2020 علاقات مع الكيان الإسرائيلي، وتطور شبكة العلاقات والمصالح السياسية والاقتصادية والسياحية والأمنية والعسكرية والإعلامية، وعقد عشرات اتفاقيات التعاون، تحول الشأن الفلسطيني إلى مسألة هامشية، وجرى غض الطرف عن الكثير من الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني وضد الأرض والمقدسات. كما تم التغاضي عن تحول القيادة الإسرائيلية إلى مزيد من التطرف الديني والقومي. وبالتالي، فإذا كانت قضية فلسطين نفسها قد تحولت إلى عبء ومشكلة بعد أن كانت واجباً وشرفاً ومسؤولية، فإن المقاومة المسلحة ضد الكيان، صارت تستعدي الأنظمة وتستفزها، وتظهر كعنصر إفشال وتعطيل لمسار التطبيع، وكعنصر تثوير وتحريض لمواطني هذه البلدان.
صدمة معركة طوفان الأقصى:
كان وقْعُ المفاجأة كبيراً على الدول التي اندفعت في تطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، فجاءت معركة 7 أكتوبر كطوفان صدم قطار التطبيع السريع فعطله، وجعل أولئك المنتشين بالعلاقات وانسيابيتها يقعون في حالة من الذهول والارتباك، كما انتابتهم حالة من الغيظ والغضب على المقاومة.
ولذلك، لم تُخف الإمارات غضبها من سلوك حماس، فصرّحت وزيرة الدولة للتعاون الدولي ريم الهاشمي في مجلس الأمن في 24/11/2023، بلغة غير معهودة إطلاقاً في الأدبيات العربية، بأن هجمات حماس في 7 أكتوبر هي هجمات “بربرية وشنيعة” وطالبت بالإطلاق الفوري لسراح “الرهائن”، ووصفت ما فعلته حماس بأنه “جرائم”. لكن عندما تعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي فقد اكتفت بالمطالبة بعدم تطبيق سياسة العقاب الجماعي، ولم تقم بإدانة جرائم ومجازر الاحتلال التي بُثّت صورها ومشاهدها على مرأى من العالم أجمع، وتجاوز عدد شهداء غزة عندما ألقت كلمتها 5100 بينهم نحو 2100 طفل و1120 من النساء، في الوقت الذي تبنت فيه الرواية الإسرائيلية، والتي ثبت أنها مليئة بالأكاذيب والمبالغات.
أما ولي عهد البحرين، فقد دان في “حوار المنامة” في 17/11/2023 عملية طوفان الأقصى، ووصفها بأنها “بربرية ومُروّعة” ودان حماس وسلوكها. ولكنه في الوقت نفسه لم يقم بإدانة الجرائم والمجازر الإسرائيلية ولم يصفها بالصفات نفسها؛ بالرغم من أن وحشيتها وبربريتها قد رآها العالم بمئات الأدلة والبراهين.
وقد كشف دينيس روس Dennis Ross وهو مسؤول أمريكي كان له دور أساس في مسار التسوية السلمية، أنه تحدث مع عدد من الزعماء العرب بعد 7 أكتوبر يعرفهم منذ فترة طويلة، وأنهم أخبروه أنه لا بدّ من تدمير حماس في غزة؛ وأنه إذا اعتُبرت حماس منتصرة فإن ذلك سيضفي شرعية على الأيديولوجيا التي تتبناها. كما أن موسى أبو مرزوق القائد البارز في حماس، قال في لقاء مع الجزيرة مباشر أن الكثير من الأجانب أبلغوه أن أعضاء في السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سرّاً بالقضاء على حماس.
قمة عربية إسلامية باردة:
عقدت القمة العربية الإسلامية الطارئة بشأن العدوان على غزة في اليوم السادس والثلاثين للعدوان (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) بعد قدرٍ كبير من التثاقل و”التثاؤب”، وبعد استشهاد نحو عشرة آلاف شهيد معظمهم مدنيون.
البيان الختامي للمؤتمر جاء دون السلوك الكلاسيكي المعتاد، إذ أكد على وقف العدوان على غزة والسماح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، ورفع الحصار عنه، ورَفض تهجير الفلسطينيين، واستنكر ازدواجية المعايير الغربية وجعل “إسرائيل” دولة فوق القانون، وأكد التمسك بـ”السلام” كخيار استراتيجي، وبالمبادرة العربية للسلام لسنة 2002. ودعا لتوفير الدعم المالي لحكومة فلسطين (حكومة سلطة رام الله)، وضرورة حشد شركاء دوليين لإعادة إعمار غزة؛ لكنه لم يحدد أي إسهامات مالية لأي من الدول المشاركة في المؤتمر.
باختصار، المؤتمر جاء في إطار رفع العتب، وامتصاص ما يمكن امتصاصه من الغضب الشعبي العربي والإسلامي. فليس ثمة نقاط عملية، بقطع العلاقات أو تعليقها مع الكيان الإسرائيلي، ولا بممارسة ضغوط فعلية أو تهديدات جادة إن لم يُوقف العدوان أو يفتح معبر رفح، وليس ثمة دعم للمقاومة ولا إشادة بأدائها، ولا بصمود الحاضنة الشعبية في القطاع. بل إن هناك إصراراً على فلسفة العجز، وعلى المسار الفاشل للتسوية، الذي أسقطته “إسرائيل” ورمته وراء ظهرها. وليس في القرارات ما يعطي أي مواقف جادة تجاه تهويد القدس والمسار الخطير الذي دخله تهويد الأقصى.
***
وباعتبار النتيجة، فإن الحضيض الجديد برز في تعامل عدد من الأنظمة العربية مع العدوان الإسرائيلي على القطاع كمن ينتظر على مضض انتهاء جيش الاحتلال من “مهمته” في القضاء على حُكم حماس للقطاع، باعتبار ذلك فرصة لإنهاء الوضع “الشاذ والمزعج” حسب تصورهم. وكان ثمة شعور بأن المعركة محسومة لصالح الاحتلال، وبالتالي فلا حاجة لخطوات عملية لدعم صمود المقاومة، ولا حاجة لممارسة ضغوط قوية مؤثرة باستخدام أوزانهم وإمكاناتهم الحقيقية لوقف العدوان، أو لإدخال المساعدات للقطاع.
وفي المقابل كان هناك عدد من البلدان العربية التي حافظت على دعمها المعتاد لفلسطين، وعلى سلوكها المعتاد تجاه المقاومة ودعمها أو تًفهّم سلوكها مثل قطر والكويت والعراق والجزائر واليمن وليبيا وسورية وتونس وعُمان…
المصدر: موقع الجزيرة نت، 2023/11/23
أضف ردا