مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

مقدمة:

أعاد تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في كلمته في الأيام الماضية في مؤتمر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، حول دعم السعودية نشر قوات دولية في غزة بقرار أممي، تكون مهمتها دعم السلطة الفلسطينية، لفْتَ الأنظار إلى إمكانية المشاركة العربية ضمن هذه القوات؛ بعد أن كانت السعودية تتحفظ في الأشهر الماضية تجاهها؛ غير أنه لم يوضح إمكانية إرسال قوات سعودية.

طُرحت فكرة مشاركة قوات عربية بصيغ مختلفة في وقت مبكر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في إطار التفكير بمستقبل القطاع في اليوم التالي للحرب، على أساس أن الاحتلال الإسرائيلي والأمريكان وحلفاءهم الغربيين حسموا موقفهم بمنع عودة حماس لإدارة القطاع تحت أي شكل. وظلت الفكرة ضمن السيناريوهات المطروحة طوال الأشهر الماضية، بغض النظر عن مدى جديتها وإمكانية تنفيذها، أو وجود ميل عربي أو فلسطيني أو إسرائيلي أو دولي تجاهها.

غير أن هناك قبولاً أمريكياً بالفكرة، واستعداداً للمشاركة في إنفاذها، بل وسعياً عملياً لدى الأطراف المختلفة لتسويقها.

الموقف الإسرائيلي:

ظهرت فكرة إشراك قوات عربية في ترتيبات اليوم التالي لإدارة القطاع ضمن السيناريوهات التي طرحتها جهات إسرائيلية في الشهر الأول للحرب، وظل معروضاً في “السوق”، غير أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو لم تتبنَ هذا السيناريو رسمياً حتى الآن. في المقابل، فإن شخصيات رئيسية في الحكومة تبنت الفكرة أبرزها بيني غانتس ويوآف غالانت.

وتنبع أهمية تبني غانتس للفكرة أنه الأكثر شعبية في دولة الاحتلال، وأنه الشخص الأوفر حظاً لرئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد نتنياهو، وسبق له أن تولى قيادة الجيش الإسرائيلي. وقد أوضح فكرته في برنامج النقاط الست الذي طرحه (قبيل انسحابه وحزبه من الحكومة الإسرائيلية في 8 حزيران/ يونيو 2024) ودعا إلى آلية مدنية دولية لحكم قطاع غزة، بمشاركة أمريكية أوروبية عربية فلسطينية، مع استبعاد حماس والسلطة الفلسطينية في رام الله منها.

أما غالانت، فتكمن أهمية طرحه أنه نفسه وزير الجيش الإسرائيلي، وعضو رئيسي في حزب الليكود الحاكم حالياً. وقد طرح غالانت فكرته منذ أشهر وأعيد نشرها في أواخر حزيران/ يونيو 2024 (واشنطن بوست ويديعوت أحرونوت)، واقترح وجود لجنة توجيه بقيادة الولايات المتحدة تشاركها دول عربية “معتدلة” تضم قوات من مصر والأردن والإمارات والمغرب، وتشرف على الأمن، بينما يتولى الأمريكان الجانب اللوجيستي والقيادي من خارج غزة. وذكرت يديعوت أحرونوت أن غالانت قسم قطاع غزة إلى 24 منطقة، وستأخذ قوة فلسطينية تدريجياً السيطرة الأمنية، ويتم تنفيذ الخطة على مراحل من شمال القطاع باتجاه جنوبه.

أما اليمين الديني المتطرف (سموتريتش وبن غفير) فيرفض الفكرة، ويدعو إلى إعادة السيطرة على القطاع، وإلى إعادة الاستيطان اليهودي، مع تهجير أو توفير ظروف تهجير الفلسطينيين من القطاع. بينما حافظ نتنياهو على قدر من الغموض، ولم يُلزم نفسه بأي خطة مستقبلية، سوى الإشارة للتحكم في مستقبل القطاع، وهو غموض يخدمه إلى حد ما في متابعة إدارته للحكومة؛ لكنه يتسبَّب في اتساع دائرة الاستياء والضغوط من الدوائر العسكرية والأمنية والمعارضة، التي تريد أن ترى أفقاً واضحاً للخروج من مأزق القطاع.

الموقف العربي:

ظهرت إشارات غير رسمية عن رغبة عدد من الدول العربية، وخصوصاً ما يُعرف بمحور الاعتدال وتحديداً الدُّول المُطبِّعة مع “إسرائيل” بان ينتهي الهجوم الإسرائيلي بإسقاط حكم حماس للقطاع، وإنهاء العمل المقاوم هناك. غير أنه لم تظهر في الأشهر الأولى للعدوان تقارير تؤكد موافقة أي من هذه الدول على المشاركة في قوات أمنية في ترتيبات اليوم التالي لإدارة القطاع. ولعله كان هناك بيئة رافضة أو متحفظة تجاه هذه الفكرة. وكانت الرؤية العربية تركز بشكل عام على إنهاء العدوان والانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وأن أي ترتيبات لمستقبل القطاع تتم في إطار مسار التسوية السلمية في المنطقة، وتنفيذ حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن يكون للسلطة الفلسطينية في رام الله دور أساس في الترتيبات المتعلقة باليوم التالي للحرب على القطاع.

كما أن بيان القمة العربية في المنامة المنعقد في 16/5/2024 دعا لنشر قوات حماية وحفظ سلام دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة باتجاه إنفاذ حل الدولتين. فربط وجود القوات الدولية بترتيبات إنهاء الاحتلال، وليس بإنفاذ شروط الاحتلال.

غير أنه على ما يبدو، فإن دولاً عربية أخذت تميل مع الزمن لإمكانية المشاركة ضمن قوات دولية. وتحدثت فايننشال تايمز في 6 أيار/ مايو 2024 عن أن هناك دولاً عربية أصبحت مرحبة بالفكرة، وذكرت مصر تحديداً؛ لكنها نبهت إلى معارضة قطر والسعودية والأردن لذلك. وفي 27 حزيران/ يونيو ذكرت “تايمز أوف إسرائيل” أن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أبلغ نظراءه في المنطقة استعداد مصر والإمارات للمشاركة في القوة الأمنية، بالتعاون مع ضباط فلسطينيين محليين، غير أنهما اشترطتا ربط المشاركة بمبادرة لخريطة طريق لإنشاء دولة فلسطينية. ثم جاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي في 4 تموز/ يوليو لتقدم دفعاً جديداً للفكرة.

كما أن تصريحات الرئيس الإندونيسي سوبيانتو في مطلع حزيران/ يونيو 2024 باستعداد إندونيسيا للمشاركة في قوات حفظ سلام في غزة، قد خدم الفكرة.

حل مشكلة الإسرائيلي أم الفلسطيني:

يظهر من كل الاقتراحات المعروضة لإدارة قطاع غزة بمشاركة عربية بعد انتهاء الحرب؛ وكأنها في إطار ترتيبات مرحلة انتقالية تقوم القوات العربية فيها بدور أساس في توفير الغطاء للانسحاب الإسرائيلي وبما يحقق إدارة قطاع غزة وفق الشروط والمعايير الإسرائيلية والأمريكية، وبما يضمن عدم عودة حماس وقوى المقاومة لإدارة القطاع، ومتابعة تفكيك القوى العسكرية والمدنية للمقاومة، وصولاً إلى إدارة مدنية فلسطينية يرضى عنها الاحتلال أو تُنفذ أجندته. والطرح العربي لا يتماهى ابتداء مع هذا السياق.

وتظهر أبرز المعوقات في أن الطرف العربي سيظهر وكأنه يقوم بحل المشاكل والصعوبات التي يواجهها الطرف الإسرائيلي، وليس المعاناة والتحديات التي يواجهها الطرف الفلسطيني؛ وكما لو أن الاستلام والتسليم جاء على ظهر دبابة إسرائيلية.

من ناحية ثانية، سيبدو الأمر تكريساً للاحتلال واستدامته (عن طريق الوكلاء) وليس خطوة باتجاه إنهاء الاحتلال، وهي من ناحية ثالثة تكرس عقلية الوصاية على الشعب الفلسطيني وإرادته، وكأن الشعب الفلسطيني لم ينضج بعد أكثر من مائة عام من المقاومة والصمود والتضحيات ليأخذ حقه في تقرير مصيره. إذ إن أمر إدارة قطاع غزة هو شأن داخلي فلسطيني، يقرره الفلسطينيون بأنفسهم، ولا يفرضه الإسرائيليون، ولا حاجة لوكلاء ينوبون عنهم. ومن ناحية رابعة، فإن ثمة مخاوف حقيقية كبيرة لدى البلاد العربية بسبب رفض حماس، واحتمال مواجهة قواتها القادمة إلى غزة بردود عنيفة أو مسلحة، تُفشل قدرتها على العمل، كما تُسيء (فوق ما هي عليه) إلى صورة هذه الحكومات لدى شعوبها.

الموقف الفلسطيني:

تبدو السلطة الفلسطينية في حالة ارتباك وهي تجد نفسها خارج سياق الأحداث، وهي تواجه “طوفاناً” من الانتقادات لضعف أدائها وعدم قيامها بمسؤولياتها الوطنية المطلوبة، وقمعها للمقاومة وللحراك الشعبي في الضفة الغربية؛ مع انتقادها لحماس والمقاومة. وهي في الوقت نفسه، تتحدث عن استقلالية القرار الفلسطيني، وأن مستقبل غزة شأن فلسطيني داخلي، وتؤكد أنها الجهة التمثيلية المعتمدة. لكن تشكيلها لحكومة محمد مصطفى دون التفاهم مع حماس وباقي قوى المقاومة الفلسطينية، جعلها تبدو وكأنها تجهز لاستحقاقات ما بعد حماس في القطاع، وفق معايير يرضى عنها الإسرائيليون والأمريكان. وهو ما يثير استياء شعبياً واسعاً.

أما حماس وفصائل المقاومة فترفض مشاركة قوات عربية ضمن الترتيبات الأمريكية الإسرائيلية المقترحة؛ وتعدُّ ذلك خدمة للاحتلال وسلوكاً عدائياً. وتعتقد أن ترتيبات اليوم التالي لقطاع غزة هو شأن فلسطيني داخلي يقرره الفلسطينيون بأنفسهم، وهي منفتحة على قيادة السلطة والمنظمة لعمل الترتيبات في إطار التوافق الوطني الفلسطيني وفي إطار إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

الرأي العام الفلسطيني:

يدعم الرأي العام الفلسطيني، وفق استطلاعات الرأي التي نشرها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (ومقره رام الله)، موقفَ حماس بقوة. فقد تضاعفت شعبية حماس في الوسط الفلسطيني، وهي مرشحة للفوز بشكل ساحق في أي انتخابات قادمة، كما تزايد الالتفاف الشعبي حول خط المقاومة، وتزايد في المقابل الرفض الشعبي لمسار التسوية واتفاق أوسلو، بل وارتفعت نسبة المطالبين بسقوط السلطة الفلسطينية إلى نحو 60%.

وفي أحدث استطلاع للرأي في حزيران/ يونيو 2024، وهو لا يختلف في جوهر نتائجه عن الاستطلاعين السابقين في أثناء معركة طوفان الأقصى (ديسمبر 2023، ومارس 2024) أجاب 61% أنهم يفضلون حماس لحكم قطاع غزة بعد الحرب، فيما لو كان الأمر متروكاً لاختيارهم، بينما دعم 1% فقط قيام دولة عربية أو أكثر بذلك، وفضل 6% فقط السلطة الفلسطينية بقيادة عباس، بينما فضل 6% آخرون السلطة الفلسطينية من دون عباس. وهذا يعني أن المزاج الشعبي العام ما زال يقف خلف المقاومة.

وما يُعقّد الأمر تجاه مشاركة الدول العربية أن 86% عبروا عن عدم رضاهم عن الأداء السعودي، و80% عن عدم رضاهم عن الأداء المصري، و72% عن عدم رضاهم عن الأداء الأردني. كما عبر 67% عن ثقتهم بأن حماس ستخرج منتصرة من الحرب.

الخلاصة:

من الواضح أن فكرة مشاركة قوى عربية في ترتيبات اليوم التالي تواجهها تعقيدات كبيرة تجعلها مستبعدة على الأقل في المرحلة الحالية. فالحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتنياهو ما تزال غير مستعدة لتقديم أي التزامات تجاه مستقبل غزة، وتريد إبقاء خيوط التحكّم بيدها.

والمقاومة الفلسطينية بقيادة حماس تحقق أداء بطولياً على الأرض، وترفض أي تدخل عربي قد يصب في خدمة الأجندة الإسرائيلية، وثمة إجماع فلسطيني على أن مستقبل غزة هو شأن داخلي فلسطيني، كما أن ثمة أغلبية شعبية ساحقة تلتف حول حماس وبرنامج المقاومة، وترفض التدخل العربي في سياقه الذي يسعى لإنهاء المقاومة وتصفيتها، بل وترفض سلطة رام الله بالشكل الضعيف والمتخاذل الذي ظهرت عليه.

وهو ما يجعل موضوع مشاركة القوات العربية أمراً افتراضياً، بانتظار “كسر شوكة حماس” حسب الفكر الرغائبي للمُطبِّعين؛ بينما تظهر المعطيات على الأرض قدرة المقاومة على الصمود والاستمرار لآماد مفتوحة، بل ولفرض شروطها في النهاية.


تم نشر أصل هذا المقال على”موقع  الجزيرة نت″، 2024/7/21


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: