مدة القراءة: 13 دقائق

إعداد: أ. د. وليد عبد الحي.[1] 
(خاص بمركز الزيتونة). 

مقدمة:

تستخدم أدبيات العلاقات الدولية تعبير “الطرف الثالث”[2] في النزاعات الدولية في إشارة لمن هو غير منخرط مباشرة في النزاع موضوع البحث من ناحية، ويسعى لمساعدة المنخرطين في الصراع على التوصل لتسوية صراعهما بموافقة كلّ من طرفي الصراع على هذا الدور الذي سيمارسه الطرف الثالث من ناحية ثانية، لكن ذلك لا ينفي أن الطرف الثالث قد يتدخل عسكرياً في النزاعات الدولية، وقد يكون هذا التدخل فردياً (أي من دولة واحدة) أو جماعياً أو من قبل هيئات دولية أو منظمات مسلحة، ولكننا في هذه الدراسة معنيون بالتدخل “السلمي”، بهدف تحسين فرص التوصل لتسوية سلمية للصراع، وهو ما يقتضي توظيف المنهج الكلاني Holistic Approach لفهم هذا الدور، نظراً لأن التفاوض لتسوية النزاع أو الصراع يحتاج لفهم الأبعاد السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وتفاعلاتها الفردية والثنائية والجماعية ومن منظور تاريخي أحياناً، وهو ما يعني أن دراسة دور الطرف الثالث في تسوية النزاعات الدولية يتجاوز علم السياسة والعلاقات الدولية إلى فروع علمية أخرى بما فيها بناء النماذج الرياضية كما هو الحال في نظرية المباراة Game Theory ونظرية الاحتمالات والدراسات المستقبلية.[3]


للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: إشكالية الطرف الثالث في تسوية الصراع الدولي: حالة طوفان الأقصى … أ. د. وليد عبد الحي (17 صفحة، 4.5 MB)

وقد يكون الطرف الثالث فرداً أو منظمة دولية أو اقليمية أو لجنة دولية خاصة أو دولة، ويتمحور دور الطرف الثالث في الوساطة Mediation، ويفترض هذا الشكل أن يكون الوسيط محايداً وليس منحازاً لأي طرف من طرفَي النزاع، ويحظى بثقة ومصداقية من طرفَي النزاع، أما دوره فيتمحور حول ثلاثة أشكال:

1. التواصل مع الأطراف لنقل وجهات نظرهم لبعضهم خصوصاً إذا كان التواصل بين طرفَي النزاع غير متوفر أو أنه يجري بقدر محدود ويواجه تعقيدات عديدة (فـ”إسرائيل” والولايات المتحدة من ناحية، والمقاومة الفلسطينية بشكل خاص ومحور المقاومة بشكل عام على سبيل المثال، يرفض كل منهما التواصل المباشر مع “إسرائيل”).

2. تحديد موضوعات الخلافات وموقف كلّ من الطرفين من كلّ موضوع بشكل دقيق، وهو ما يستدعي المعرفة والخبرة في موضوع الصراع أو النزاع.

3. شرعنة Legitimization مطالب الأطراف من حيث درجة توافقها مع القانون الدولي والأعراف الديبلوماسية لكي تتحقق عدالة الحلول المقترحة.
وتتفق أدبيات العلاقات الدولية أن دور الطرف الثالث يستوجب المهارة والخبرة التفاوضية وسعة المعرفة في ملابسات موضوعات النزاع، ومدى أهمية كلّ بُعد من أبعاد النزاع بالنسبة لكل طرف من الأطراف. ويتم تقييم نتائج الوساطة على أساس شكل التسوية المقترحة (اتفاقية أو بيان أو إعلان نوايا…إلخ)، أو مضمون التسوية (الوصول لحل، أو الوصول لإجراءات مؤقتة تمهيداً لتسوية لاحقة، أو تسوية شاملة أو جزئية لبعض الجوانب دون غيرها…إلخ)، ومدى قبول الأطراف ورضاها عن نتائج التسوية المقترحة.

ومن الضروري الإشارة إلى حدود دور الوسيط أو الطرف الثالث، وهنا نجد أشكالاً متعددة لحدود دور الطرف الثالث، لكنها تتحدد في أربعة حدود أساسية:[4]

1. التوفيق: أي محاولة التقريب بين وجهات النظر من خلال نقل وتوضيح الموقف من كلّ طرف للطرف الآخر.

2. تقصي الحقائق: جمع الحقائق حول موضوعات أو وقائع محددة تسهم في توضيح مواقف الأطراف المتنازعة، ليتم بناء مواقف وتسويات على أساس معلومات دقيقة ووقائع مثبتة.

3. المساعي الحميدة: ترتيب اللقاءات والأماكن لعقدها لتيسير ظروف التفاوض بين الطرفين، وإيجاد البيئة المواتية لنجاح البحث عن تسوية.

4. التحكيم: سماع وجهات نظر الأطراف ثم إصدار حكم أو رأيٍ أشبه بالحكم القضائي الذي يكون طَرَفا النزاع قد أقرّا مسبقاً القبول به بمجرد صدوره.
وعليه، يعمل الطرف الثالث على توفير ظروف التفاوض من خلال تيسير التواصل، وتوفير احتياجات الأطراف للشروع في التفاوض، وتنظيم الحوار بين الطرفين في ظروف هادئة ولائقة، والعمل على الوصول لإجماع على حلّ يرضي الجميع به، ثم مراقبة مدى التطبيق والالتزام بما يتم الاتفاق عليه في فترة ما بعد الاتفاق، ذلك يعني أن أدنى أدوار الطرف الثالث هي المساعي الحميدة، يليها تقصي الحقائق، ثم التوفيق ليكون التحكيم هو أوسع حدود دور الطرف الثالث، وهو أمر لا يتوفر في حالة طوفان الأقصى، بل اقتصر حدود الطرف الثالث على “التوفيق”.

أولاً: المؤشرات الكمية على دور الطرف الثالث:

تدل الدراسات المتخصصة في مجال تقييم دور الطرف الثالث على ما يلي:[5]

1. يدور حالياً 56 صراعاً دولياً تشارك فيها 92 دولة، مما يشير لمحدودية التسويات الدولية، وهو ما يعني أن 66% من أعضاء الأمم المتحدة منخرطون في صراع دولي.

2. خلال الفترة من سبعينيات القرن الماضي إلى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، انخفضت النزاعات التي تمت تسويتها سلمياً من 23% إلى 4%، بينما انخفضت النزاعات التي انتهت بانتصار أحد الطرفين من 49% إلى 9%، مما يعني فشل التسويات واستمرار الصراع.

3. تعدّ منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأكثر عدم استقرار عالمياً، فالمعدل العالمي للاستقرار سنة 2024 هو 216 بينما معدله في الشرق الأوسط هو 2.423، ويكفي الإشارة إلى أن معدل عدم الاستقرار في الدول المشتركة مباشرة في طوفان الأقصى هو ما يوضحه الجدول التالي:[6]


جدول رقم 1: معدل الاستقرار في الدول المشاركة عسكرياً في طوفان الأقصى 

الدولة معدل عدم الاستقرار (العلامة من 5)
اليمن 3.397
”إسرائيل“ 3.115
العراق 3.045
سورية 3.173
فلسطين 2.872
لبنان 2.693
إيران 2.682

ولعل مستويات عدم الاستقرار في أطراف طوفان الأقصى يجعل مهمة الطرف الثالث أكثر تعقيداً.

فإذا أضفنا لذلك أن الاتجاه العام في العلاقات الدولية يشير لتراجع دور الطرف الثالث (الوساطة)، وأن عدد الصراعات الدولية التي عرفت دوراً للطرف الثالث هو ثلث هذه الصراعات فقط،[7] فإن هذا يزيد من التعقيدات في حالة طوفان الأقصى.

ثانياً: الطرف الثالث في طوفان الأقصى:

1. ظروف تشكيل هيئة التفاوض في طوفان الأقصى:

ما إن اندلعت المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية بعد 7/10/2023، حتى بدأت الجهود الديبلوماسية للجم هذا القتال وضبط تداعياته، وشكَّلت الأمم المتحدة المجال الأوسع لهذه الجهود، لكن الدور الميداني هو ما تحمَّلته كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر، ونجحت هذه الدول في الوصول إلى هدنة مدتها أربعة أيام في 24/11/2023، وتمّ خلال ذلك تبادل بعض الأسرى من الطرفين والسماح بدخول بعض المعونات الإنسانية للقطاع، لكن هذه الهدنة سرعان ما انتهت لتعود دورة الصراع العسكري ومعه مواصلة الأطراف الثلاثة الوسيطة بذل جهودها لوقف القتال وصياغة تسوية للصراع.

2. الوزن التفاوضي لفريق الطرف الثالث:

عند تحليل بنية الفريق الوسيط في هذا الصراع، نجد فروقاً كبرى بين الأطراف الثلاثة من حيث الوزن الدولي أو الإقليمي، فالولايات المتحدة هي القطب الأكثر تأثيراً عالمياً، وهي تمتلك من أدوات التأثير الخشنة والناعمة ما يفوق ما تمتلكه مصر أو قطر بقدر هائل، أما مصر فإنها دولة في حالة تراجع متسارع في مكانتها الدولية (طبقاً لمؤشرات المكانة الدولية) وتعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة،[8] ناهيك عن أنها في وضع جيواستراتيجي غير مواتٍ لها، إذ تشتعل الصراعات من حولها في السودان جنوباً، وليبيا غرباً، وقطاع غزة شمالاً، وفي البحر الأحمر شرقاً. أما قطر، فهي دولة صغيرة تمتلك بعض مقومات القوة الناعمة (المال، ومصادر الطاقة، وقناة الجزيرة)، لكنها ترتبط بالولايات المتحدة ارتباطاً وثيقاً من خلال الوجود العسكري الأمريكي في أكبر قاعدة للولايات المتحدة في العالم العربي، ناهيك عن التعاون الأمريكي القطري في مجال ديبلوماسية الإنابة Proxy Diplomacy منذ أكثر من عقد.[9]

3. طبيعة العلاقة بين مكونات الطرف الثالث وأطراف الصراع:

يتمثّل أطراف الصراع المباشر في طوفان الأقصى في كلّ من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مدعومة بأطراف محور المقاومة الأخرى (إيران، وأنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان)، بينما ترتبط “إسرائيل” بعلاقات استراتيجية وتاريخية عميقة وواسعة مع الولايات المتحدة، وهو ما يتضح في المساندة الواضحة للمواقف الإسرائيلية في الهيئات الدولية، والمساعدات المستمرة عسكرياً واقتصادياً خلال الحرب، بل وتبني أغلب المواقف الإسرائيلية خلال المفاوضات، كما أنها تعدّ المقاومة الفلسطينية “حركة إرهابية”، أي تنفي شرعيتها أو أي حقّ سياسي لها في ظلّ هذا التوصيف، بل إنها تمارس ضغوطاً على الأطراف العربية وغير العربية للامتناع عن أيّ مساندة فعلية لمطالب المقاومة.

أما مصر، فهي ترتبط بمعاهدة “سلام” مع “إسرائيل” منذ 1979، وهناك تنامي في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين من ناحية، ولكنها تنظر للجناح الإسلامي في المقاومة الفلسطينية في غزة باعتباره امتداداً لحركة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر من ناحية أخرى، ناهيك عن التوجه العام في السياسة المصرية لفك الارتباط مع القضية الفلسطينية، وهو ما يتضح في القيود على حركة سكان غزة أو دخول المساعدات للقطاع، وغضّ النظر عن إعادة احتلال “إسرائيل” لطول الحدود بين غزة ومصر، على الرغم من أن ذلك لا يتفق مع الاتفاقيات المصرية الإسرائيلية، كما أن مصر ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة منذ التحول الاستراتيجي في السياسة المصرية بعد معاهدة “السلام” مع “إسرائيل”.

أما قطر، فهي دولة تعترف بـ”إسرائيل” من الناحية الواقعية أو ما يسميه القانونيون بالاعتراف الواقعي de facto، وهو ما يتضح في الزيارات المتكررة من كبار الشخصيات الرسمية الإسرائيلية لقطر بمن فيهم كبار الشخصيات الأمنية من الموساد Mossad وغيره، ناهيك عن مكاتب تجارية تظهر أحياناً ويتم إغلاقها أحياناً أخرى، بل لم تنقطع الفرق الرياضية الإسرائيلية عن المشاركة في المنافسات الرياضية الثنائية والعالمية في الملاعب القطرية، لكن قطر تحتفظ من ناحية ثانية بعلاقة وثيقة مع المقاومة الإسلامية تحديداً في قطاع غزة والضفة الغربية، وقد تطوَّرت هذه العلاقة بشكل وثيق خلال مرحلة الاضطرابات السياسية في الدول العربية منذ 2010 إلى 2020 تقريباً، وتتركز هذه العلاقات بشكل أساسي في المعونات المالية القطرية للقطاعات المجتمعية الغزية المختلفة.[10]

4. مدى التزام الطرف الثالث بتقاليد دور الوسيط:

يتضح من المعطيات التي أشرنا لها أن المسافة السياسية بين الأطراف الوسيطة وبين طرفَي الصراع مختلة بقدر كبير لصالح الطرف الإسرائيلي، وهو ما يعني أن الطرف الثالث في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يفتقد بشكل كبير الشروط التي يجب أن تتوفر في الوسيط في المنازعات الدولية، وهو أمر يشكل ثغرة واسعة في إدارة المفاوضات للبحث عن مخرج للأزمة.

5. إدارة المفاوضات:

يمكن اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي من بين أكثر النزاعات الدولية التي تقدم نماذجَ فشلٍ في مجال مفاوضات التسوية السياسية، وعدد الأطراف التي أسهمت في هذه الجهود فردياً وثنائياً وجماعياً، ويكفي أن نشير لمثال توضيحي معاصر في هذا المجال وهو الدور الذي لعبته اللجنة الرباعية Quartet (الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة) في إدارة تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، إذ تُقدم هذه اللجنة النموذج على الخلل في دور الطرف الثالث في تداعيات طوفان الأقصى، فاللجنة الرباعية التي أوكل لها منذ سنة 2002 تسوية الصراع العربي الصهيوني لم تتمكن من إنجاز أيّ نتائج ذات معنى نظراً للدور الأمريكي فيها، إلى الحد الذي وصفته دراسة أكاديمية بأن اللجنة ليست إلا “تعددية اسمياً وأحادية فعلياً Multilateral in Name, Unilateral in Practice [11]”ا، فهي أداة وظَّفتها الولايات المتحدة لأغراضها. وعلى الرغم من وجود روسيا في العضوية، فإن اللجنة كانت أقرب لتبني المواقف الإسرائيلية بضغط أمريكي، مما دفع روسيا لتوجيه انتقادات حادة للجنة.[12] فإذا كان الأمر في هذه اللجنة على هذه الشاكلة، فإن الأمر في توازن الطرف الثالث في فريق التفاوض في حرب الطوفان أكثر خللاً وبشكل كبير لصالح “إسرائيل”، إذ إن الولايات المتحدة تعيد الدور الذي مارسته من حيث مضمون السلوك والتوجهات في اللجنة الرباعية في سلوكها في مفاوضات مرحلة طوفان الأقصى.[13]

إنّ مقتضيات إدارة التفاوض تستوجب التوقف عند مجموعة من النقاط:[14]

1. المنظومة الثقافية لأطراف الصراع إلى جانب المنظومة الثقافية للطرف الثالث، ففي حالة طوفان الأقصى فإن ثمة تباعداً واسعاً بين المنظومات الثقافية للوسطاء من ناحية، وبين المنظومات الثقافية للمتصارعين من ناحية ثانية، وبين منظومات المتصارعين وبعض وسطاء الطرف الثالث من ناحية ثالثة، وهو ما يجعل مهمة النجاح في الوصول إلى نتيجة أكثر عسراً.

2. انعكاسات موازين القوى على مطالب الأطراف المتنازعة، وقدرة الطرف الثالث على تكييفها بشكل يراعي العدالة من ناحية وموازين القوى من ناحية ثانية، ولعل هذه المسألة هي الأكثر تعقيداً في مهمة الطرف الثالث، فالتوفيق بين غوايات مطالب من يرى أن موازين القوى لصالحه تُضعف بقدر كبير قيم العدالة والمساواة في العلاقات الدولية خاصة والسياسية بشكل عام. وفي حالة مفاوضات طوفان الأقصى فإن التوفيق بين العدالة (حقوق الشعب الفلسطيني التي تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة General Assembly of the United Nations عبر قراراتها وبأغلبية كبيرة)، وبين موازين القوى المختلة لصالح الطرف الإسرائيلي أمر متعذر لا سيّما أنه يترافق مع خلل في موازين القوى يتجلى في ارتباط كبير بين الوسطاء وأحد الاطراف (“إسرائيل”) بقدر أبعد كثيراً من العلاقة مع الطرف الآخر (المقاومة)ـ أي إن المسافة السياسية طبقاً لقياسات نموذج الثلاثيات Triads يجعل من احتمالات تحقيق قدر كافٍ من عدالة التسوية شبه معدومة.[15] إذ إن قياس المسافة بين أطراف الوساطة والمقاومة أبعد كثيراً من المسافة بين هذه الأطراف و”إسرائيل”، وهو ما سينتهي إلى تسوية لا تخرج عن هذه المسافة.

3. درجة حيادية الطرف الثالث الأقوى (الولايات المتحدة) وطبيعة علاقاته السابقة والحالية مع أطراف النزاع: لعل التصويت في الأمم المتحدة، وحجم النشاط الديبلوماسي لتسوية النزاع على أساس الحياد الواضح، مفقود إلى درجة كبيرة في مفاوضات الطوفان، فالولايات المتحدة كانت تعطل كافة النشاطات التي تعزز الحق الفلسطيني، وانتقدت الهيئات القضائية الدولية على قراراتها المنصفة للحقوق الفلسطينية، كما أن كلّاً من مصر وقطر يبديان تعاطفاً معنوياً في جوهره أكثر منه قدرة على دعم الموقف الفلسطيني لتحقيق قدر من العدالة.
وتؤكد كل الدراسات العلمية الخاصة بالتفاوض المستند لموازين القوى أنه “فنّ توظيف متغيرات القوة المادية والمعنوية خلال التفاوض لإنجاز الأهداف المنشودة، وليس القدرة على المحاججة النظرية”.

4. توقيت التدخل من الطرف الثالث ومستويات التنسيق بين الوسطاء إذا كان الطرف الثالث متعدد (كأفراد، أو دول، أو غير ذلك).

5. درجة الاستفادة من السوابق التاريخية بين أطراف النزاع خصوصاً في مجال تسوية النزاعات بينهم. ويكفي أن نشير إلى أن الطرف الوسيط يضم ثلاثة دول بينها علاقات ملتبسة إلى حدٍّ كبير، فالعلاقات الأمريكية القطرية محكومة بديبلوماسية الإنابة، والأمريكية المصرية محكومة بالتبعية، كما أن العلاقات المصرية القطرية هي علاقات تنطوي على تنافس وارتياب متبادل بين الطرفين، ووصل إلى حدّ قطع العلاقات والحروب الإعلامية قبل سنوات قليلة…إلخ.

ويمكن بناء نموذج كمي لتقدير احتمالات النجاح في تسوية الصراع بين محور المقاومة (في طوفان الأقصى) وبين “إسرائيل” على النحو التالي:[16]


جدول رقم 2: تقييم متغيرات دور الطرف الثالث في طوفان الأقصى 

المؤشر قوي
متوسط ضعيف
درجة التقارب في مطالب أطراف الصراع *
وجود مصالح للطرف الثالث *
درجة المثابرة التفاوضية من الطرف الثالث *
حدة النزاع تساعد الطرف الثالث *
مدة النزاع تساعد الطرف الثالث *
توازن العلاقة مع الطرف الثالث *
مهارة الطرف الثالث في التفاوض *

تدل نتائج التقييم لدور الطرف الثالث كما هي في الجدول السابق على أن عوامل الفشل في تحقيق التوازن بين موازين القوى والعدالة السياسية هي الأقوى، إذ إن متغيرات الفشل تتضح في 4 متغيرات، مقابل متغيرَيْن للنجاح، وعامل واحد يرتبط بمدى الالتزام والمثابرة على القيام بدور الطرف الثالث.

ثالثاً: تقييم النتائج:

لقد كشفت جولات التفاوض بين أطراف الوساطة الثلاثية عن تباين كبير بين مخرجات الإرادة الدولية الواسعة ممثلة في التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومخرجات الطرف الثالث في حرب غزة، وهو ما يعكس الوزن الثقيل والفاعل للولايات المتحدة في مخرجات لجنة الوساطة بفعل الخلل في موازين القوى بين مكونات اللجنة من ناحية، وبفعل ثقل الروابط بين أطراف الوساطة وبين طرفَيْ الصراع (المقاومة و”إسرائيل”) من ناحية ثانية.

ولعل التباين في أولويات مجموعة الوسطاء (الطرف الثالث) يجعل التفاوض أكثر عسراً، وهو ما يتضح في التالي:

1. الولايات المتحدة:

تتحدد الأهداف الأمريكية المعلنة في ضمان الأمن الإسرائيلي أولاً، ثم الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وضمان عدم اضطراب البيئة بالقدر الذي يَحوْل دون استمرار مسار التطبيع بين العرب و”إسرائيل”.[17]

وحيث إن الولايات المتحدة هي الأكثر أهمية في مجموعة الطرف الثالث، فإن متابعة دورها في عمليات التفاوض يشير إلى المعطيات التالية:

أ. التضارب بين مواقفها النظرية وبين سلوكها الفعلي، ويكفي الإشارة لنموذجَيْن في هذا الجانب:

• التركيز على البُعد الإنساني نظرياً، وانتقاد موقف محكمة العدل الدولية في إدانتها لـ”إسرائيل” في هذا الجانب، وتجنب الضغط على مصر و”إسرائيل” لضمان تدفق المساعدات الانسانية.

• الادِّعاء بتأييدها لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم (من خلال حلّ الدولتين)، لكنها صوَّتت ضدّ قبول فلسطين عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة.

ب. التدخل الفعلي في العمليات العسكرية، وتقديم المساعدات المالية التي تجاوزت 26 مليار دولار، ناهيك عن نحو 14 مليار دولار كمساعدات عسكرية، والمشاركة في عمليات صدّ الهجمات المختلفة على “إسرائيل”، وهو ما يفقد دورها أي حيادية مفترضة للوسيط.[18]

2. مصر:

أما أولويات مصر فهي ضمان عدم هجرة سكان القطاع إليها، وعدم جعل نجاح المقاومة في غزة بقيادة جناحها الديني نموذجاً جاذباً يؤثر على التوجه المصري تجاه الحركات الجهادية، ثم ضمان استقرار المنطقة بعد أن تأثر الاقتصاد المصري بالاضطراب الأمني في الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وأخيراً ضمان استمرار فكّ ارتباطها بموضوع القضية الفلسطينية، والإبقاء على العلاقات الأمريكية المصرية ولو على حساب المصالح الفلسطينية.[19]

3. قطر:

وتتمثل أولوياتها في النجاح في تأدية مهام ديبلوماسية الإنابة (من خلال استثمار علاقاتها مع حركة حماس سياسياً ومالياً)، لضمان مكانة مركزية للدولة في السياسة الأمريكية في الخليج، لضمان أمنها من جانبَيْن هما: القلق من تطلّعات بعض الدول الخليجية تجاهها (وهو ما اتَّضح خلال أزمة سنة 2017)، ثم ضمان أمنها في مواجهة ما تراه نزاعات محتملة مع إيران.[20]

إن كلّ المتغيرات التي أشرنا لها تعزز احتمالات الفشل في أن يحقق الطرف الثالث النتائج المرجوة في هذا الصراع المحتدم منذ سنة وبكل أوزاره الإنسانية.

خلاصة وتوصيات:

كان من الضروري أن لا تقبل المقاومة ببنية الطرف الثالث (الوسيط)، وكان من المفروض السعي لمشاركة أطراف أخرى تسهم بقدر ما في جعل مسار المفاوضات أكثر توازناً، وتلعب دوراً في المشاركة في تقديم الاقتراحات وكشف الطرف الأكثر مراوغة في إيجاد الحلول أو التعاطي الجاد مع مخرجات التفاوض.

ومن المفترض أن تسعى المقاومة لإشراك أطراف أخرى في الجهد الديبلوماسي لتسوية الصراع في غزة، ومن الضروري أن يكون الطرف الجديد طرفاً يتمتع بقدر من الاستقلالية في القرار مع وجود علاقات له مع طرفَيْ الصراع، فانضمام دولة مثل تركيا التي لها علاقات سياسية واقتصادية وأمنية مع “إسرائيل” للفريق المفاوض كان يمكن أن يكون أكثر تأثيراً من الطرفَيْن العربيَّيْن نظراً لمساحة الاستقلالية في القرار التركي، والتي ظهرت في مناسبات عدة وفي مواجهات ديبلوماسية مع الولايات المتحدة.

كذلك فإن المجتمع الدولي يمكن أن يوفر أطرافاً أخرى إلى جانب الطرفين العربيَّين، الفرصة ما تزال قائمة، تكون أكثر نزاهة وحيادية واستقلالية، بل إن بعض دول الشمال الأوروبي، والتي لها خبرة مهمة في الوساطات الشرق أوسطية، قادرة على الإسهام في هذا الجانب، ناهيك عن الدور الروسي أو الصيني أو حتى البرازيلي…إلخ.

على الرغم من كل ما سبق، فإن التفاوض يبقى أسير موازين القوى، ولكن إذا كان ميزان القوى المادي والمعنوي مهماً، فإن فنّ إدارة التفاوض لا يقل أهمية عن المتغيرَيْن السابقَيْن، وهو الأمر الذي لا بدّ من العناية به من خلال السعي مجدداً لضم أطراف أخرى بالمواصفات التي أشرنا لها للطرف الثالث في هذه الحرب.


[1] خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.
[2] حول تفاصيل هذا الموضوع الواسع انظر:
Ronald J. Fisher, “Methods of Third-Party Intervention,” in B. Austin, M. Fischer and H.J. Giessmann (eds.), Advancing Conflict Transformation: The Berghof Handbook II (Barbara Budrich Publishers, 2011), https://berghof-foundation.org/files/publications/fisher_handbookII.pdf
كذلك يمكن مراجعة الدراسة التطبيقية التالية والتي تتناول موضوعات لها صلة بالصراع العربي الصهيوني:
“The impact of Third-Party: Mechanisms in conflict resolution,” site of Norwegian Refugee Council, https://www.nrc.no/globalassets/pdf/reports/tiph/tiph-report.pdf; and Jacob Bercovitch, “Third Parties in Conflict Management: The Structure and Conditions of Effective Mediation in International Relations,” International Journal, vol. 4, no. 4, 1985, pp. 736–752.
[3] Sylvia Lafair, Game Theory and Conflict: Unraveling the Prisoner’s Dilemma, site of LinkedIn, 28/10/2023, https://www.linkedin.com/pulse/game-theory-conflict-unraveling-prisoners-dilemma-sylvia-lafair-fa6jc
[4] Jean-Sébastien Rioux, “Third Party Interventions in International Conflicts: Theory and Evidence,” Presented to the annual meeting of the Canadian Political Science Association, Halifax, NS, 30/5–1/6/2003, pp. 3–7 and 15–16.
[5] GLOBAL PEACE INDEX: Highest number of countries engaged in conflict since World War II, site of Vision of Humanity, 11/6/2024, https://www.visionofhumanity.org/highest-number-of-countries-engaged-in-conflict-since-world-war-ii/#:~:text=Highest%20number%20of%20countries%20in,most%20since%20the%20GPI’s%20inception; and Institute for Economics & Peace, Global Peace Index 2024: Measuring Peace in a Complex World (Sydney, June 2024), https://www.economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2024/06/GPI-2024-web.pdf
[6] Ibid.
[7] Magnus Lundgren and Isak svensson, “The surprising decline of international mediation in armed conflicts,” Research and Politics journal, vol. 7, no. 2, 2020, pp. 3-4.
[8] تقع مصر ضمن الدول الأكثر هشاشة اعتماداً على 12 مؤشراً تغطي كلّ مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وطبقاً للنموذج المتخصص في هذا الجانب، فإن معدل الهشاشة في مصر هو 68% سنة 2023 وارتفع إلى 69 خلال سنة 2024. انظر تفاصيل ذلك في:
Nate Haken et al., “Fragile States Index 2023 – Annual Report,” site of Fragile States Index, Fund for Peace (FFP), 14/6/2023, https://fragilestatesindex.org/2023/06/14/fragile-states-index-2023-annual-report, and https://fragilestatesindex.org/wp-content/uploads/2023/06/FSI-2023-Report_final.pdf; and Luca Ventura, World’s Most Peaceful Country 2024 Global Peace Index, site of Global Finance, 12/6/2024, https://gfmag.com/data/most-peaceful-countries
[9] كان أول استخدام لمصطلح “ديبلوماسية الإنابة” في أطروحة جامعية في جامعة أطلنطا Atlanta University الأمريكية سنة 1989، وقد عرَّف الباحث هذا المفهوم بأنه يعني “نمط من النشاط الديبلوماسي الذي يتظاهر فيه أحد الأطراف بأنه يعمل لمصالحه بينما هو يعمل لمصالح طرف آخر دون نفي بعض الفائدة له”. انظر التفاصيل في:
Frederick Wafula Okumu, “Diplomacy through proxies? The superpowers’ involvement in Angola 1989” (M.A Thesis, Atlanta University, 1989), pp. 34–37; Fact Sheet: The U.S.-Qatar Strategic Partnership, Office of the Spokesperson, site of U.S. Department of State, 5/3/2024, https://www.state.gov/the-u-s-qatar-strategic-partnership; Analysis: Qatar’s Complex Role Seen as Critical to US Foreign Policy, site of Voice of America (VOA), 26/10/2023, https://www.voanews.com/a/analysis-qatar-s-complex-role-seen-as-critical-to-us-foreign-policy-/7328765.html; and Ignacio Álvarez-Ossorio and Leticia Rodriguez GarCia, The foreign policy of Qatar: From a mediating role to an active one, Revista Española de Ciencia Política, No. 56, July 2021, pp. 105–110.
[10] انظر حول هذه العلاقة: وليد عبد الحي، ” الديبلوماسية الرياضية: مونديال قطر نموذجاً،” موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/1/2023، في: https://www.alzaytouna.net
[11] Nathalie Tocci, “The EU, the Middle East Quartet and (In) effective Multilateralism,” MERCURY, E-paper No. 9, June 2011, pp. 15, 19, 23 and 26–27.
[12] Site of tass— Russian News Agency, 13/12/2023, https://tass.com/politics/1720127
[13] Belén Fernández, The US is Israel’s accomplice, not a ceasefire mediator, site of Al Jazeera, 28/8/2024, https://www.aljazeera.com/opinions/2024/8/28/the-us-is-israels-accomplice-not-a-ceasefire-mediator
[14] حول دور الثقافة في العملية التفاوضية، وتأثيرها على عملية التفاوض وأنماط الحوار والتعبير عن الأهداف ومدى القبول بالمساومة والصور الذهنية للأطراف بين بعضها…إلخ، انظر:
Kai Lucke and Aloys Rigaut “Cultural Issues in International Mediation,” site of University of Nottingham, June 2002, https://www.nottingham.ac.uk/research/groups/ctccs/projects/translating-cultures/documents/journals/cultural-issues-mediation.pdf; Simon A. Mason, “Mediation and Facilitation
in Peace Processes,” International relations and security network, Center for Security Studies, site of ETH Zurich, 2007, https://www.files.ethz.ch/isn/30542/dossier_Mediation_and_Facilitation.pdf; and Jacob Bercovitch and Scott Sigmund Gartner (eds.), International Conflict
Mediation: New approaches and findings (London and New York: Routledge, 2008), https://repository.bilkent.edu.tr/server/api/core/bitstreams/b69bd3f6-4843-466a-a018-5ba11c05302e/content
[15] يقوم مفهوم الثلاثيات كما شرحه كلينجبيرج Klingberg على أن العلاقة بين ثلاثة أطراف في الحروب تنتهي إلى حرب بين “طرفين”، ويعتمد وضع الطرف الثالث على المسافة السياسية (درجة العداء) بين الأطراف الثلاثة: انظر التفاصيل في: وليد عبد الحي، الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، ط 2 (المغرب: عيون المقالات، 1993)، ص 45-49. وانظر:
Frank L. Klingberg, “Studies in Measurement of the Relation among Sovereign states,” Psychometrika journal, no. 6, 1941, pp. 335–352.
[16] Jacob Bercovitch and Richard Jackson, Conflict Resolution in the Twenty-First Century: Principles, Methods, and Approaches (University of Michigan Press, 2009), pp. 19–46.
[17] Jang Ji-Hyang, “U.S. Strategy for the War in Gaza: Changes and Prospects,” Issue Briefs, site of Asan Institute for Policy Studies, 13/5/2024, https://en.asaninst.org/contents/us-strategy-for-the-war-in-gaza-changes-and-prospects
[18] Swords of Iron: An Overview, site of The Institute for National Studies (INSS), https://www.inss.org.il/publication/war-data
[19] Egypt’s Gaza Dilemmas, Briefing 91, site of International Crisis Group, 16/5/2024, https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/north-africa/egypt-israelpalestine/b91-egypts-gaza-dilemmas
[20] Qatar and the Gaza War, site of Rosa Luxemburg Stiftung, 5/8/2024, https://www.rosalux.de/en/news/id/51964/qatar-and-the-gaza-war

للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: إشكالية الطرف الثالث في تسوية الصراع الدولي: حالة طوفان الأقصى … أ. د. وليد عبد الحي (17 صفحة، 4.5 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/11/2024



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من الأوراق العلمية: