بقلم: أ. أحمد الصباهي، كاتب وإعلامي فلسطيني.
(خاص بمركز الزيتونة).
أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات التقرير الاستراتيجي الفلسطيني (2022-2023)، في 548 صفحة، وهو المجلد الثالث عشر من هذه السلسلة، في فصول ثمانية، وفهرس جداول، تحرير أ. د. محسن محمد صالح، وبمشاركة العديد من المتخصصين، متناولاً أبعاد الشأن الفلسطيني من كافة جوانبه السياسية؛ الاقتصادية؛ المؤشرات السكانية؛ والأبعاد العربية والإسلامية والدولية، بالإضافة إلى الشأن الإسرائيلي، راصداً أحداث هذه الفترة، ومستشرفاً مستقبل القضية الفلسطينية بأبعادها المختلفة.
ما يميز “التقرير الاستراتيجي” هذه السنة، أنه يصدر على وقع أحداث معركة “طوفان الأقصى”، وهو ما لحظته مقدمته “جاءت [عملية طوفان الأقصى].. لتعيد الاعتبار العربي والعالمي لقضية فلسطين، وتؤكد استحالة تجاوز الملف الفلسطيني، وتعزز التفاف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة، وتعمق فشل مسار التسوية السلمية”.
هذا المقال سيسلط الضوء على الخلاصات التي توصل إليها التقرير في فصوله الثمانية، وما أحدثته معركة “طوفان الأقصى” من تحولات على كافة الصعد، اعتبرها التقرير جذرية واستراتيجية في الشأن الفلسطيني والإسرائيلي.
الشأن الداخلي الفلسطيني السياسي والسكاني والاقتصادي
يبدأ التقرير فصله الأول تحت عنوان: “الوضع الفلسطيني الداخلي” متوصلاً في خلاصته أن الوضع الداخلي الفلسطيني اتسم بـ”الجمود والانغلاق” بالرغم من التحدي الكبير الذي تفرضه حكومة اليمين الديني القومي المتطرفة بقيادة نتنياهو، الرافضة للوجود السياسي الفلسطيني، حتى ولو بسقف السلطة، والتي بدورها ما زالت “تفتقد المشروع السياسي، وتحولها إلى سلطة أمنية شمولية تتركز في مؤسسة الرئاسة، وتستند في تدعيم نفسها إلى القوة الأمنية”، فضلاً عن حرصها الالتزام بالاتفاقيات الأمنية، وتجميد القرارات التي اتخذت في مؤسسة منظمة التحرير لوقف التنسيق الأمني.
ووصف التقرير الحراك الداخلي فيما يخص العلاقات بين الفصائل وما تقتضيه المصلحة الوطنية من وجوب التلاقي بأنه “لم يكن ثمة فاعلية” بالرغم من بعض اللقاءات، واتسم موقف منظمة التحرير بمهاجمة وإحباط أي محاولات لتفعيل فلسطيني الخارج. وبناء على معطيات الوضع في غزة، وما آلت إليه الأمور، فيوصي التقرير لقوى المقاومة، وتحديداً حركة حماس، الحاجة للتوافق على آلية وطنية لملفات رفع الحصار وإعادة الإعمار، من قبيل حكومة تكنو قراط أو حكومة وحدة وطنية؛ ترميم شعبيتها بعد محاولات الاحتلال طمس نتائج عملية “طوفان الأقصى”، وهذا من شأنه أن يحصل من خلال “صفقة تبادل أسرى كبيرة، أو تحولات في مجريات الحرب”؛ الإفراج عن القائدين مروان البرغوثي، وأحمد سعدات قد يحسن العلاقة بين حركة فتح والجبهة الشعبية من جهة وحماس من جهة أخرى.
وفي خلاصة الفصل الثاني: “المؤشرات السكانية والاقتصادية الفلسطينية”، توصل التقرير إلى أن الاحتلال عمل على إيجاد “ظروف طاردة لتهجير الفلسطينيين، غير أن الشعب الفلسطيني ظل صامداً في أرضه بالرغم من شدة المعاناة وأفشل مشروع التهجير من قطاع غزة، وبالرغم من محاولات الاحتلال الحثيثة للتهجير والطرد، إلا أن أعداد الفلسطينيين تتجاوز أعداد اليهود في فلسطين التاريخية، فاتجاهات النمو السكاني هي لصالح الفلسطينيين، حيث بلغت أعداد الفلسطينيين في فلسطين 7.3 ملايين، مقابل 7.2 يهودي. أما فيما يخص التداعيات الاقتصادية بعد عملية طوفان الأقصى، فقد اتخذت مناحي كارثية في غزة، بعد تدمير الاحتلال كل المرافق الحيوية، والحصار، مما أدى لانكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع في معدل البطالة، كذلك تراجعت أرقام الضفة الغربية في الناتج المحلي، ومستوى الاستهلاك، وارتفاع حاد في الأسعار، وبالتالي استمرار المعاناة الفلسطينية بسبب السياسات الإسرائيلية القمعية والقاسية لتكريس وتعميق تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي.
القدس والمقدسات
في الفصل الثالث: “الأرض والمقدسات”، يسجل التقرير استغلال الاحتلال الإسرائيلي للحرب العدوانية على غزة لحرف الأنظار عما يجري في القدس والضفة الغربية، لفرض المزيد من الهيمنة على الأرض والمقدسات. ولقد تمكَّنت “جماعات المعبد” خلال السنوات الأخيرة، بفضل التيار الديني القومي المتطرف والذي تولى حقائب وزارية عديدة، مكَّنت تلك الجماعات من بسط نفوذها، لتحقيق مزيد من مخططات التهويد والسيطرة على المسجد الأقصى والقدس وباقي الضفة الغربية. وفيما يخص المسجد الأقصى، فقد سجل التقرير زيادة في أعداد المقتحمين، فضلاً عن محاولات عديدة للسيطرة على إدارة المسجد، وترسيخ التقسيم الزماني والمكاني، ناهيك عما أسماه التقرير “التأسيس المعنوي للمسجد” خصوصاً في الأعياد اليهودية والمناسبات التهويدية، والتي تتقاطع مع الأعياد الإسلامية. ترافق ذلك مع الاندفاع الكبير للمشاريع التهويدية في محيطه، متزامنة مع الحفريات أسفله، والتي باتت تهدد أساساته، مترافقة مع عمليات تهجير الفلسطيني بين الترغيب والترهيب. وبالرغم مما سبق، فإن المقدسيين ما زالوا يواجهون تلك التحديات، ويصعِّبون على الاحتلال الإسرائيلي مخططاته، بل ويُفشلون توسعها بشكل كبير.
المقاومة والتسوية السلمية
يُبرز التقرير في فصله الرابع “مسارات العدوان والمقاومة والتسوية السلمية” أن الفترة الممتدة بين (2022-2023) مثلت أحد أبرز مراحل العمل العسكري المقاوم منذ إنشاء الكيان الصهيوني عام 1948. ففي الضفة الغربية سجلت المقاومة قفزات نوعية، وشهدت تشكيل وبروز أطر مقاومة في جنين ونابلس وطولكرم، كما تضاعفت العمليات النوعية. وتفردت غزة، لتسجل عملية “طوفان الأقصى” العنوان الأبرز في تاريخ الصراع مع الاحتلال، “لتكون أبرز عمل عسكري مقاوم في داخل الأراضي المحتلة على مدى 75 عاماً”. وكان من أبرز تجليات هذه المعركة بالإضافة إلى الأداء العسكري، وإلحاق الخسائر الضخمة غير المسبوقة بالعدو، هي التفاف الحاضنة الشعبية والتي بحسب التقرير “أفشلت كافة خطط الاحتلال في الضغط على المدنيين لعزل المقاومة عن حاضنتها”. كذلك يعُدّ التقرير أن جرائم الاحتلال أدت لضرب مسار التطبيع في المنطقة، مما أدى “لعزل الكيان الصهيوني في البيئة الدولية وتحويله إلى كيان منبوذ”، ومن المرجح أن قرار محكمة الجنايات الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، ووزير الدفاع الأسبق يوآف غالانت، ستزيد من أزمات الاحتلال عبر كشف وجه قادة الاحتلال الحقيقي، كمجرمي حرب، مما يعمق أزمته مع الرأي العام الغربي.
أما فيما يخص مشروع “الدولة الفلسطينية”، في ظل توجهات اليمين الديني القومي المتطرف فيتوقع التقرير أنه “ليس من المتوقع في الظروف المتاحة دعم قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيها شرقي القدس ودعم حق العودة،… لذلك سيظل خيار المقاومة هو الخيار الذي يكاد يُجمع عليه الشعب الفلسطيني”.
الشأن الإسرائيلي
عدَّ التقرير في فصله الخامس “المشهد الإسرائيلي”، حكومة التطرف الديني القومي الإسرائيلي بقيادة نتنياهو المشهد الأبرز الذي ميز المشهد الإسرائيلي طوال الفترة (2022-2023). وبقدر اندفاعها لإحداث تغييرات جذرية في الملف الفلسطيني، إلا أن معركة طوفان الأقصى شكلت زلزالاً جعل وجود “إسرائيل” نفسها ودورها الوظيفي ومستقبلها محل نقاش، كما أحدثت سلسلة هزات أمنية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، انعكست صدمة مهولة في المجتمع الإسرائيلي لجهة ضعف الثقة بمؤسسات الدولة المختلفة، والجيش والأجهزة الأمنية، التي أظهرت هشاشتها في التعامل مع عملية “طوفان الأقصى”.
ويتوقع التقرير استمرار تداعيات عملية “طوفان الأقصى” على المشهد الإسرائيلي، في الأعوام القادمة، لما اعتبره ولادة جديدة لـ”إسرائيل ما بعد غزة”، وهي الولادة أو التشكيل “لإسرائيل الثالثة” بعد 7/10/2023 غير أن معالمها الحقيقية لم تظهر بعد، وهي بحاجة إلى مزيد من المتابعة والدراسة في المرحلة المقبلة.
أما بالنسبة للشؤون الداخلية الإسرائيلية، فيتوقع التقرير سقوط نتنياهو في الانتخابات الجديدة، وانتهاء حياته السياسية، وتجميد التعديلات الدستورية. كما يتوقع التقرير أن تتعمق حالة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي بين الديني والعلماني، تعززها امتيازات المتدينين (الحريديم وتجنيدهم). وستلقي تداعيات عملية “طوفان الأقصى” حملاً ثقيلاً على الوضع الاقتصادي نظراً لتكلفة الحرب، كما ستشهد مزيداً من الإنفاق الحكومي على المؤسسة العسكرية. وتوقَّع التقرير تشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاق توقع عملية “طوفان الأقصى” والتي ستشكل أزمة خلاف في المشهد الإسرائيلي.
البعد العربي والإسلامي والدولي والقضية الفلسطينية
أما الفصول الأخيرة، ذات الأبعاد العربية؛ والإسلامية؛ والدولية تجاه القضية الفلسطينية، فقد ألقت عملية “طوفان الأقصى” أبعاداً مختلفة، تفاوت تأثيرها بين بُعد وآخر.
فعلى الصعيد العربي، في الفصل السادس تحت عنوان: “القضية الفلسطينية والعالم العربي”، فإن الجسد العربي، لم يكن قادراً على التفاعل ولا على استغلال فرصة ما أتاحته معركة طوفان الأقصى، نظراً لأسباب عديدة داخلية وخارجية أهمها النفوذ الأجنبي، والانشغال بالقضايا القُطرية، فجاء السلوك العربي حسب وصف التقرير “ثقيلاً متباطئاً” بالرغم من هول المجازر، كما كان أداء الجامعة العربية مماثلاً لهذا السلوك.
ولم تكتفِ الدول المطبِّعة مع الاحتلال بأنها لم تقطع علاقاتها به، بل فتحت مساراً تجارياً لدعمه، إلا أن التقرير يسجل إصابة مسار التطبيع بصدمة، بعد عملية “طوفان الأقصى” وهو ما أخَّر وعقَّد مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي.
على المستوى الشعبي، عبَّرت الشعوب عن دعمها الكامل لعملية طوفان الأقصى ومسار المقاومة، وبالرغم من بداياتها المشجعة في الأردن، ولبنان، والكويت، واليمن، والعراق، إلا أنها تعرضت لاحقاً لقمع الأنظمة، مما حدا بتلك التحركات أن تتراجع.
وفي ظل ارتهان الدول العربية للنفوذ الأمريكي، ورهانها على قدرة الاحتلال لتقويض المقاومة ومشروعها، فإن الوضع العربي سيبقى “غير مؤهل لتفاعل قوي مع قضية فلسطين ولا في مواجهة العدوان الصهيوني”، وبالتالي يتوقع التقرير أن يستمر التأييد لمسار التسوية ودعم السلطة، متوجساً، بل ومسكوناً بالعداء للإسلاميين، ومن تداعيات مشروع المقاومة على المستوى الداخلي العربي، ولا يريد أي تغيير، بالرغم من الهزة العنيفة التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى”.
ولقد اختلف المنظور الإسلامي عن المنظور العربي، بنموذجيه الأبرز التركي والإيراني. وتحت عنوان “القضية الفلسطينية والعالم الإسلامي”، استقرأ التقرير المواقف التركية والإيرانية. فلم يغادر الموقف التركي ساحة المتوقع، بالرغم من بعض الإجراءات العقابية الاقتصادية التي اتخذها تجاه الاحتلال الإسرائيلي، والتشدد في المواقف السياسية الداعية لوقف العدوان ومحاسبة الاحتلال على جرائمه، مدفوعة بحكم الضرورة لـ”التفاعل الشعبي التركي الجارف المؤيد للمقاومة والمعادي لإسرائيل”، والذي ربما أرسل رسالة شديدة اللهجة لأردوغان وحزب العدالية والتنمية، ليعيده لتاريخه، بعد الهزيمة التي لحقت به في الانتخابات البلدية في آذار/ مارس 2024.
أما النموذج الإيراني، ذات السقف المرتفع، فقد شكلت عملية طوفان الأقصى حدثاً يتوافق مع توجهاته وثوابته في رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع. وانعكس دعم إيران على كافة الصعد السياسية والإعلامية والمالية والعسكرية، فضلاً عن تشجيع حلفائها في لبنان واليمن والعراق، لإسناد غزة، مع تأكيد إيران أن عملية “طوفان الأقصى” هي قرار فلسطيني اتخذته حماس. أما الحراك الشعبي في العالم الإسلامي، فقد اتخذ أشكال المظاهرات، ومقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال، ورفض التطبيع.
وفي الفصل الثامن اتسم التقرير بقراءة التوجهات المستقبلية للبيئة الدولية بقواها الكبرى، تجاه الصراع العربي الإسرائيلي تحت عنوان “القضية الفلسطينية والوضع الدولي” بقواه الدولية الست، أمريكا؛ الاتحاد الروسي؛ الصين؛ الاتحاد الأوروبي؛ اليابان؛ الهند.
وينظر التقرير إلى أن الولايات المتحدة، معنية بتخفيف التزاماتها الدولية في ظل حالة تراجع مفهوم “الإمبراطورية” مما يقلق صانع القرار الإسرائيلي. وإن كان هذا المنظور على المستوى الاستراتيجي المتوسط والبعيد، يستدعي قراءة جديدة للدعم الأمريكي للاحتلال، إلا أنه في المدى المنظور ما أثبتته الأحداث أن دعم الكيان خارج أي حسابات أو التزامات يريد الأمريكي التخلص منها.
وفيما يخص الشأن الأوروبي، فإن الكيان الإسرائيلي سيجد نفسه يميل إلى التيار المعني بالمزيد من الارتباط بالولايات المتحدة ونموذجها، وأكثر ابتعاداً من التيار الشعبوي الذي بدأ بالصعود في أوروبا.
في الشأن الروسي، سيجد الكيان الإسرائيلي تحدياً أو مأزقاً لكيفية الملائمة بين علاقته مع روسيا التي تشهد توتراً وحرباً مع الولايات المتحدة والغرب، وارتباط الكيان الإسرائيلي بالغرب وأمريكا تحديداً.
أما الصين واليابان والهند، ذات التوجهات الاقتصادية، فأدوارها ستنحسر بين إيجاد مناخ للصراع العربي الإسرائيلي بالطرق السلمية، مما يشكل تحدّياً للعلاقات الصينية الإسرائيلية لعدم استعداد الاحتلال لتقديم تنازلات للفلسطيني، أما بالنسبة إلى اليابان ذات التوجهات المركنتيلية، فهي سياسة تناسب الاحتلال، بخلاف الهند التي وإن كان الاحتلال يحبّذ التعاون معها، إلا أنه يرى فيها منافساً اقتصادياً في المنطقة.
لقد أثرت مجريات عملية “طوفان الأقصى” على قراءة التقرير للعام (2022-2023)، والذي ما زلنا نعيش أجواءه بانكساراته ونجاحته، ولعل التقرير الاستراتيجي المقبل، سيسجل المزيد من التغيرات الاستراتيجية مما ستحدثه عملية “طوفان الأقصى”.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/12/2024
لتحميل الكتاب كاملاً ، اضغط على الرابط التالي: كتاب: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2022-2023 (550 صفحة، حجم الملف 8.9 MB) |
معلومات النشر:
– العنوان: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني: 2022-2023 |
– الكتاب متوفر للشراء، عبر: || || || ||
أضف ردا