إعداد: أ. عاطف الجولاني.[*]
(خاص بمركز الزيتونة).
ملخص:
كان لمعركة طوفان الأقصى، تأثيرات قوية على حالة الأمن والاستقرار الإقليمي، وبشكل خاص على دول الطوق المحيطة بفلسطين والأكثر تفاعلاً وتأثّراً بالتداعيات السياسية والأمنية لتطورات الوضع الفلسطيني. وقد وجد الأردن نفسه في عين العاصفة نتيجة التداعيات القائمة والمحتملة للمعركة على أمنه واستقراره، وبرز تأثير تخوفاته الأمنية بشكل واضح في خطابه السياسي ومواقفه وتحركاته وإجراءاته العملية. وتظهر المؤشرات المتعددة أن مواجهة التحديات الأمنية باتت تتصدر سلم الأولويات الأردنية، وتتقدّم حتى على الأولوية الاقتصادية والوضع المعيشي الضاغط أردنياً طيلة السنوات الماضية.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: الأردن والتداعيات الأمنية لمعركة طوفان الأقصى … أ. عاطف الجولاني (16 صفحة، 1.2 MB) |
وقد ضاعف فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب Donald Trump بانتخابات الرئاسة الأمريكية من مخاوف الأردن وهواجسه الأمنية، حيث بات يجد نفسه مضطراً للتعامل خلال الفترة القادمة مع إدارة جمهورية لا تكنّ له الود، وتتبنى تجاهه أجندة سلبية كما ظهر جلياً في ولاية ترامب السابقة، بالتزامن مع توجهات متطرفة لليمين الإسرائيلي، الذي يواصل إطلاق تهديداته للأردن بصورة مستمرة.
وترصد هذه الورقة أبرز التحديات الأمنية، ومصادر قلق الأردن من تبعات معركة طوفان الأقصى على استقراره، ويقف على تعامل الأردن مع تلك التحديات، ويعرض خياراته المستقبلية في مواجهتها وتقليص انعكاساتها السلبية.
أولًا: التحديات ومصادر القلق الأمني:
كشف استطلاع للرأي أُجري مؤخراً في أوساط نخبة أردنية مكوَّنة من مئة شخصية، وتضم مسؤولين حكوميين سابقين ونواباً منتخبين وأمناء عامين لأحزاب وقيادات مجتمعية ونقابية، أن الهاجس والتحدي الأمني في مواجهة تهديدات اليمين الإسرائيلي للأردن، يأتي على رأس سلم أولويات الأردنيين. وأيّد 48% من أفراد النخبة الأردنية المستطلَعة أن يحتل العمل على تعزيز الجبهة الداخلية لمواجهة خطر اليمين الإسرائيلي المتطرف على الأردن، الأولوية الأولى لعمل مجلس النواب المنتخب حديثاً، وحلّ التحدي الاقتصادي والمعيشي في المرتبة الثانية بنسبة 33%، والإصلاح السياسي في المرتبة الثالثة بنسبة 8%، فيما جاءت الحريات العامة في المرتبة الأخيرة في أولويات النخبة الأردنية.
وتتعدد مصادر القلق الأمني لدى الأردن من تداعيات معركة طوفان الأقصى، وتأتي في مستويين:
الأول: مصادر قلق عامة شملت العديد من الدول العربية، ومن أبرزها:
1. الخشية من ردود فعل شعبية غاضبة في الشارع العربي إزاء المجازر والجرائم الإسرائيلية المرتكبة في قطاع غزة، في ظلّ انخفاض سقف الموقف الرسمي العربي وعجزه عن القيام بدور فاعل ومؤثر لمساندة الشعب الفلسطيني، ووقف مجازر الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة. ولأجل ذلك لجأت العديد من الدول العربية لكبح جماح حركة الشارع العربي والحدّ من تعبيرات التضامن مع الشعب الفلسطيني، واكتفت بإطلاق التصريحات السياسية المساندة للشعب الفلسطيني والرافضة للمجازر الإسرائيلية.
2. تزايد المخاوف لدى العديد من الحكومات العربية من انعكاسات سلبية لتداعيات معركة طوفان الأقصى على مستقبل السلطة الفلسطينية، في ظلّ تراجع مكانتها وشعبيتها في المجتمع الفلسطيني بتأثير مواقفها الضعيفة وأدوارها السلبية ومواصلتها التنسيق الأمني مع الاحتلال لمواجهة أنشطة مجموعات المقاومة في الضفة الغربية. وقد أظهرت استطلاعات الرأي المخلتفة تدني شعبية السلطة وتآكل ثقة الشارع بها إلى مستويات قياسية.
3. تزايد الخشية لدى العديد من الدول العربية من النتائج المحتملة لتصاعد قوة حركات المقاومة الفلسطينية ذات التوجه الإسلامي التي فجّرت طوفان الأقصى، وتتصدر قيادة المواجهة مع الاحتلال على مدار أكثر من 13 شهراً. وعزَّز من تلك المخاوف نتائج استطلاعات الرأي المحايدة التي تُظهر تنامي شعبية حركة حماس بصورة قوية في الشارع الفلسطيني. وتتخوف العديد من الدول العربية من أن ينعكس التأييد المتزايد في الشارع الفلسطيني والعربي للمقاومة الفلسطينية إيجاباً على قوة الحركات الإسلامية في تلك الدول، كما حصل مؤخراً في الأردن، حيث حصلت الحركة الإسلامية على 31 مقعداً من أصل 138، وهو أعلى عدد من المقاعد تحصل عليه الحركة في تاريخ مشاركاتها في الانتخابات البرلمانية منذ خمسينيات القرن الماضي.
4. القلق من تعزيز دور إيران ونفوذها السياسي والأمني في المنطقة بتأثير تداعيات معركة طوفان الأقصى، في ظلّ التغيّر الحاصل في المزاج الشعبي في المنطقة العربية تجاه الموقف من إيران ومن حالة الصراع الطائفي. حيث أسهم موقف إيران والمشاركة الفاعلة لحزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله اليمنية وفصائل المقاومة العراقية في معركة طوفان الأقصى، في تحسين صورة إيران وحلفائها وتعزيز مكانتهم على المستوى الشعبي، الأمر الذي يزيد مخاوف العديد من الأطراف الرسمية العربية من النتائج المحتملة لذلك سياسياً وأمنياً.
الثاني: مصادر قلق أمنية خصوصاً في الأردن من التداعيات الأمنية لمعركة طوفان الأقصى، ومن أبرزها:
1. علاقات الأردن المتوترة تقليدياً مع اليمين الإسرائيلي، ولا سيّما في ضوء التهديدات المتواصلة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu وقادة تيار الصهيونية الدينية تجاه الأردن. وينبع القلق الأردني من توجهات اليمين الصهيوني المتطرّف من المعطيات التالية:
أ. المواقف الحاسمة لليمين الإسرائيلي من رفض قيام دولة فلسطينية، وعرض قادة اليمين خرائط في المحافل الدولية تلغي وجود الضفة الغربية وتشير بوضوح إلى تبني خيار الوطن البديل في الأردن، عوضاً عن قيام الدولة على جزء من الأراضي الفلسطينية. وقد تكرر هذا السلوك من قِبل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش Bezalel Smotrich، على الرغم من احتجاجات الأردن وإداناته المتواصلة.
ب. البدء بإجراءات خطة ضمّ غور الأردن ومناطق ج في الضفة الغربية التي تشكل مساحتها ما نسبته 61% من مساحة الضفة. حيث أعلن سموتريتش في 11/11/2024 أن “العام 2025 سيكون عام السيادة في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)”، وأكد أنه أصدر تعليمات لمديرية الاستيطان للبدء بالعمل على إعداد البنية التحتية المطلوبة لفرض السيادة على الضفة. واتخذ نتنياهو موقفاً مؤيداً لطرح مخططٍ لضم مناطق واسعة من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية.
ج. توزيع السلاح على نطاق واسع في أوساط المستوطنين في الضفة الغربية، حيث تقدَّم نحو 250 ألف مستوطن للحصول على رخص حمل السلاح بعد معركة طوفان الأقصى، وجرى بالفعل تسليح عشرات الآلاف منهم، في سياسة ممنهجة يشرف عليها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن جفير Itamar Ben-Gvir.
د. زيادة الضغوط الأمنية والاقتصادية على الفلسطينيين في الضفة الغربية لدفعهم إلى الهجرة من مناطقهم نحو الأردن، والتلويح بتنفيذ عمليات تهجير قسري (ترانسفير) لسكان الضفة، وتوزيع منشورات تدعوهم للرحيل إلى الأردن. وفي أيلول/ سبتمبر 2024، صرَّح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بأن الأردن ينظر إلى أي محاولة لتهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى المملكة بمثابة إعلان حرب.
2. الخشية من أن يعمد الائتلاف اليميني المتطرف في “إسرائيل” لإعادة النظر في الموقف الإسرائيلي التقليدي من استقرار النظام السياسي في الأردن، بهدف إيجاد حالة فوضى تتيح تنفيذ مخطط التهجير القسري لفلسطينيي الضفة وفرض مشروع الوطن البديل، الذي يتبناه اليمين الإسرائيلي منذ عقود، ويرى فيه حلاً جذرياً للمشكلة الفلسطينية. وتزداد مخاوف الأردن نتيجة نجاح تيار الصهيونية الدينية في اختراق المؤسستين العسكرية والأمنية، واللتين راهن الأردن الرسمي طويلاً على توجهاتهما من استقرار نظامه السياسي. ويشعر الأردن بالقلق من احتمالات أن تتساوق إدارة ترامب مع توجهات اليمين الإسرائيلي المتطرف بهذا الخصوص، ولا سيّما في ضوء إشارته في أثناء الحملة الانتخابية إلى مساحة “إسرائيل” الصغيرة وضرورة العمل على توسيعها.
3. تفاقم التحديات الأمنية على حدود الأردن الغربية والشمالية والشرقية:
أ. فعلى الحدود الغربية مع فلسطين المحتلة، وبتأثير مشاعر الغضب من جرائم الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، تزايدت محاولات التسلل عبر الحدود مع فلسطين المحتلة لتنفيذ عمليات مسلحة ضدّ الأهداف الإسرائيلية منذ 7/10/2023. وفيما تمّ إحباط العديد من تلك المحاولات، برزت العملية التي نفذها سائق الشاحنة الأردني ماهر الجازي في 9/9/2024 على جسر الملك حسين الواصل بين الأراضي الأردنية والفلسطينية، وأسفرت عن مقتل ثلاثة رجال أمن إسرائيليين. وفي 18/10/2024 نفَّذ الشابان الأردنيان عامر قواس وحسام أبو غزالة عملية حدودية ضدَّ جنود الاحتلال جنوبي البحر الميت، أسفرت عن جرح جنديين إسرائيليين.
وفي تطور أمني خطير أعلن الجيش الإسرائيلي في 30/10/2024 عن إنشاء فرقة عسكرية على الحدود مع الأردن، بمبرر منع عمليات التسلل وتهريب الأسلحة عبر الأردن. وبالتوازي مع ذلك تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي استكمال بناء جدار فاصل بين الأردن و”إسرائيل”، وهو ما يرى فيه الأردن محاولة لمنع أي تواصل جغرافي مستقبلي بين الأردن وفلسطين المحتلة.
ب. وعلى الحدود الشمالية مع سورية، تزايد بشكل كبير نشاط المجموعات المسلحة الناشطة على الأراضي السورية لتهريب السلاح إلى الأردن عبر الطرق التقليدية، وكذلك باستخدام الطائرات المسيّرة، وقد أعلنت السلطات الرسمية الأردنية مؤخراً إسقاط العديد من تلك المسيّرات على الأراضي الأردنية دون الإفصاح عن التفاصيل. وتشير العديد من المصادر إلى أن السلاح الذي يجري تهريبه عبر الحدود السورية الأردنية يتجه صوب الأراضي الفلسطينية، وتحديداً باتجاه الضفة الغربية. فيما ترى السلطات الأردنية أن أي عمليات تهريب من هذا النوع تُعدّ اختراقاً غير مقبول للحدود الأردنية، وتشير إلى أن نشاط تلك المجموعات المسلحة لا يقتصر على السلاح، بل يشمل المخدرات أيضاً.
ج. وعلى الحدود مع العراق، ورداً على تصاعد الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، احتشد آلاف الشبان العراقيين المسلحين على الحدود مع الأردن طوال أسابيع مطالبين بفتح الحدود أمامهم، من أجل المشاركة في معركة طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة، الأمر الذي تسبب بحالة استنفار أمني على الحدود الأردنية الجبهة الشرقية.
4. وفي سياق مشاركة جبهتَي الإسناد العراقية واليمنية في معركة طوفان الأقصى، وكذلك نتيجة المواجهات المتبادلة بين إيران و”إسرائيل” خلال الشهور الماضية، تحوّلت أجواء الأردن إلى ساحة اشتباك ومواجهة عبر إطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة القادمة من إيران والعراق واليمن باتجاه أهداف إسرائيلية.
كما نفَّذت فصائل عراقية هجوماً بطائرة مسيّرة على موقع عسكري أمريكي على الحدود الأردنية السورية في 28/1/2024 أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وجرح 34 آخرين. وبعد أن كانت السلطات الأردنية أشارت إلى أن الهجوم تمّ على قاعدة التنف داخل الحدود السورية، عادت لتصدر بياناً رسمياً يدين ما وصفته بـ”الهجوم الإرهابي الذي استهدف موقعاً متقدماً على الحدود مع سوريا، وأدى إلى مقتل 3 جنود أميركيين وجرح آخرين من القوات الأمريكية التي تتعاون مع الأردن في مواجهة خطر الإرهاب وتأمين الحدود”.
ثانياً: كيف تعامل الأردن مع التحديات الأمنية؟
تنوّعت أشكال استجابة الأردن وتعامله مع التحديات الأمنية متعددة المصادر خلال الشهور الـ 13 الماضية من عمر معركة طوفان الأقصى. وركَّزت استجابة الأردن في مواجهة التحديات الأمنية على تقليص تداعياتها وتأثيراتها غير المرغوبة، وعلى الحيلولة دون تفاقمها.
فعلى الصعيد السياسي، تحرّك الأردن سياسياً وديبلوماسياً لمواجهة تهديدات اليمين الإسرائيلي بتنفيذ مخططات التهجير القسري لسكان الضفة الغربية، وعزَّز التعاون مع مصر التي تواجه الخطر والتهديد ذاته. وأسفر الجهد المشترك للبلدين عن استصدار قرار من القمة العربية والإسلامية التي انعقدت في الرياض في 11/11/2023 يعلن موقفاً عربياً وإسلامياً موَحّداً يؤكد على دعم صمود الفلسطينيين على أرضهم، ويرفض المخططات الإسرائيلية لتنفيذ أي عمليات ترحيل قسري للفلسطينيين خارج أرضهم، ويتضامن مع الأردن ومصر في مواجهة تلك المخططات التي تهدد الأمن القومي للدولتين.
كما نشط الأردن سياسياً في تطوير علاقات التعاون مع السلطة الفلسطينية لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، وسعى لتعزيز دورها وحضورها بالضفة الغربية في مواجهة تراجع شعبيتها في الشارع الفلسطيني لصالح حركات المقاومة. وبموازاة ذلك حرص الجانب الأردني على إدامة قناة التواصل الأمني القائمة مع حركة حماس منذ سنوات طويلة، ولم يتجاوب حتى اللحظة مع الدعوات التي تصاعدت طوال الفترة الماضية في أوساط النخبة الأردنية والحالة الشعبية للمطالبة بتعزيز العلاقات مع حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية وبإحداث حالة من التوازن في العلاقة مع أطراف المعادلة الفلسطينية.
وعلى المستوى الأردني الداخلي، وخلافاً لكثير من الدول العربية، حرص الجانب الرسمي على استيعاب ردود الفعل الشعبية المتفاعلة مع قطاع غزة في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية، ووفّر مساحة واسعة للتعبير عن الغضب الشعبي وعن التضامن مع معاناة الشعب الفلسطيني، وهو ما أسهم في استمرار التحركات في الشارع الأردني منذ 7/10/2023 وامتدادها على رقعة واسعة من الأراضي الأردنية. غير أن السلطات الأردنية وضعت سياسة صارمة في منع التحركات الشعبية من الوصول إلى السفارة الإسرائيلية في عمّان، كما حالت دون وصول تلك الفعاليات إلى المناطق الحدودية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد نجحت السياسة الرسمية بالفعل في احتواء مشاعر الغضب الشعبي، وفي تجنّب أي تداعيات غير مرغوبة على الحالة الأمنية. غير أن ذلك لم يحل دون استمرار مشاعر عدم الرضا الشعبي عن سقف الموقف الرسمي، حيث تواصلت المطالبات الشعبية بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني بصورة كاملة، وعدم الاكتفاء باستدعاء السفير الأردني وتجميد عمل السفارة الإسرائيلية في عمّان. كما استمرت المطالبات بعدم السماح للشاحنات المتجهة للكيان الصهيوني بعبور الأراضي الأردنية في وقت يمنع فيه الجانب الإسرائيلي وصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ويفرض عليه حصاراً محكماً وجائراً.
وعلى صعيد التعامل مع التحديات الحدودية، لجأ الأردن لتعزيز وجوده الأمني، ونشرَ مزيداً من القوات العسكرية على حدوده مع فلسطين المحتلة وسورية والعراق، لمواجهة أي تهديدات قادمة عبر الحدود، ولمنع أي عمليات تسلل عبر الأراضي الأردنية باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبخصوص استخدام الأجواء الأردنية مسرحاً للهجمات العسكرية المتبادلة بين “إسرائيل” وكلٍ من إيران وفصائل المقاومة العراقية واليمنية، أصدر الجانب الرسمي الأردني تصريحات يرفض فيها استخدام أجوائه ساحة للاشتباك من مختلف الأطراف، معتبراً أنّ ذلك يشكّل انتهاكاً للسيادة الأردنية، وهدَّد بأنه سيتصدى لأي صواريخ أو طائرات مُسيّرة تعبر أجواءه وسيعمل على إسقاطها.
ثالثاً: السيناريوهات المحتملة للتحديات الأمنية:
يبدو الأردن في مواجهة ثلاثة سيناريوهات محتملة لتطور التداعيات الأمنية لمعركة طوفان الأقصى خلال الفترة القادمة، تتلخص في السيناريوهات التالية:
• السيناريو الأول: سيناريو تراجع التحديات الأمنية ومصادر التهديد والخطر على أمنه واستقراره.
• السيناريو الثاني: سيناريو تصاعد التحديات والتداعيات الأمنية على استقرار الأردن بصورة أكثر خطورة.
• السيناريو الثالث: سيناريو استمرار التداعيات الأمنية بمستوياتها الحالية.
ويمكن الوقوف على مجموعة من المحددات والعوامل التي سترجّح فرص هذه السيناريوهات أو تضعفها، ومن أبرزها:
1. مسار المواجهة الإسرائيلية مع قطاع غزة ولبنان، والمديات الزمنية المتوقعة لاستمرارها. حيث إن طول أمد المعركة وتصاعدها من شأنه أن يزيد التحديات والتداعيات الأمنية التي تواجه الأردن، فيما يسهم إنهاء المواجهة في تحقيق حالة من الهدوء ويقلّص مصادر الخطر على الأمن الأردني. وبينما تتزايد المؤشرات على قرب احتمالات التوصل لتهدئة على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية، تسود حالة من عدم اليقين بخصوص فرص إنهاء الحرب في قطاع غزة. ولا شكّ أن التوجهات التي سيعتمدها ترامب في الموقف من استمرار الحرب بعد بدء ولايته الرئاسية في 20/1/2025 سيكون لها تأثير مهم على مسار المعركة ومداها الزمني.
2. مستقبل الأوضاع في الضفة الغربية، واحتمالات تصاعد المواجهة العسكرية بين قوات الاحتلال والمقاومة خلال الفترة القادمة، وسلوك المستوطنين المتوقع في الضفة بعد قرار وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس Israel Katz في 22/11/2024 بوقف مذكرات الاعتقال الإداري بحق المستوطنين المتهمين بمهاجمة فلسطينيين في الضفة، والذي من شأنه أن يطلق العنان لهم لزيادة اعتداءاتهم بحق الفلسطينيين.
3. مستقبل السلطة الفلسطينية ومكانتها وشعبيتها وقدرتها على بسط سيطرتها الأمنية في الضفة، وموقف الحكومة الإسرائيلية وإدارة ترامب من دور محتمل لها في إدارة قطاع غزة بعد الحرب.
4. الإجراءات الإسرائيلية لتنفيذ خطة ضمّ مناطق ج في الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، والتي تشمل منطقة غور الأردن المحاذية للحدود الأردنية، حيث إن المباشرة بتنفيذ هذه الإجراءات كما هو مرجّح، من شأنه أن يزيد الضغوط على سكان الضفة الغربية، ويرفع من مستوى التهديدات الأمنية للأردن، ويضاعف الخطر المحتمل لتنفيذ مخطط التهجير القسري لسكان الضفة.
5. موقف إدارة ترامب من تنفيذ “صفقة القرن”، من حيث إعطاء الأولوية للمضي قدماً في مخطط ضمّ الضفة، وبالتالي وضع معوقات أمام عملية التطبيع مع السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى، أو تأجيل المخطط لصالح إعطاء الأولوية للتقدّم في مسار “الاتفاقيات الإبراهيمية”.
6. المواجهات العسكرية المحتملة بين إيران و”إسرائيل”، حيث إن تنفيذ إيران لتهديداتها بمعاقبة “إسرائيل” على هجومها الأخير على إيران في 26/10/2024 من شأنه أن يفتح الباب على مزيد من ردود الفعل والمواجهات المتبادلة، الأمر الذي يزيد من الحرج في الموقف الأردني ويفاقم الأخطار الأمنية التي تواجه الأردن والمنطقة ويعزز احتمالات التصعيد واتِّساع مساحة المواجهة.
وفي ضوء المحددات السابقة، تبدو احتمالات تصاعد التحديات والتداعيات الأمنية التي تواجه الأردن قوية، في ضوء عدم توفر مؤشرات جدّية تعزز فرص وقف التصعيد في قطاع غزة، كما أن إطلاق يد المستوطنين في الضفة وإعلان مسؤولين إسرائيليين عن بدء تنفيذ إجراءات خطة ضمّ المناطق ج للسيادة الإسرائيلية، من شأنه أن يديم حالة التصعيد ويفاقمها ويتسبب بمخاطر أكبر على حالة الأمن والاستقرار في الأردن.
وحتى لو تراجع مستوى التصعيد في لبنان وغزة وكذلك بين “إسرائيل” وإيران، بعد تسلم إدارة ترامب لمهامها، في حال اختارت تهدئة بؤر التوتر وخفض التصعيد في المنطقة وتقليص حجم انخراطها في صراعاتها العسكرية، فإن من المرجّح أن تقايض إدارة ترامب أي تهدئة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بإطلاق يد حكومة اليمين الإسرائيلي لتنفيذ خطة ضمّ الضفة للسيادة الإسرائيلية، وهو ما يزيد الأعباء الأمنية على الأردن ويفتح الباب على تهديدات مستقبلية خطيرة.
رابعاً: خيارات الأردن في التعامل مع التحديات الأمنية:
من الواضح أن الأردن يواجه في المرحلة الراهنة تحديات جديّة تؤثر على أمنه واستقراره، في ظلّ تعدد مصادر التهديد وتزايد مؤشرات استمرارها وتفاقمها في الفترة القادمة، الأمر الذي يؤكد أن مخاوف الأردن من التداعيات الأمنية لمعركة طوفان الأقصى مُبرَّرة، ولا تنطوي على تضخيم ومبالغات، وهو ما يعكس نفسه بصورة ملحوظة على أولويات الدولة والنخبة الأردنية والحالة الشعبية. وإزاء هذه التداعيات والتهديدات يجد الأردن نفسه أمام ثلاثة خيارات صعبة تحتاج تقديرات وحسابات دقيقة، وهي:
1. الخيار الأول: مواصلة السياسة الحالية المتحفظة والحذرة لمواجهة التحديات السياسية والأمنية، ومواصلة سياسة النأي بالنفس وتغليب موقف الحياد.
2. الخيار الثاني: اعتماد مقاربة جديدة تقوم على المبادرة والتفاعل وتعزيز دور إيجابي في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية.
3. الخيار الثالث: الانحناء أمام العاصفة، والتكيُّف السلبي مع التحديات الأمنية، والالتحاق بتوجهات إدارة ترامب وبعض الأطراف العربية، فيما يخص الترتيبات السياسية والأمنية.
وفي حال اختار الأردن المحافظة على سياسة الحياد والنأي بالنفس عن مواجهة التحديات السياسية والأمنية، يُرجَّح أن تستمر التحديات الأمنية وأن تتفاقم خلال الفترة القادمة، في ظلّ التوجهات السلبية لحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف والسياسات المرجّحة لإدارة ترامب تجاه مستقبل الضفة الغربية.
وإذا اختار الأردن سياسة الانحناء أمام العاصفة والالتحاق بتوجهات إدارة ترامب وبعض الأطراف العربية المنخرطة في مشروع التطبيع و”الاتفاقيات الإبراهيمية” بمساراتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، فإن من المُستبعد أن تنجح هذه السياسة في حماية الأردن من الأخطار المحدقة، وفي حماية مصالحه الوطنية وتحقيق أمنه واستقراره. بل إن سياسة الضعف والتكيُّف السلبي وتقديم التنازلات، قد تعّرض الأردن لمزيد من الاستهداف السياسي والأمني، ومن الاجتراء على مصالحه واستقراره ودوره الإقليمي.
أما في حال اختار الأردن الذهاب لمقاربة جديدة تقوم على المبادرة والتفاعل وتعزيز الدور في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، فلا شكّ أن ذلك يفرض عليه حسم أمره في الموقف من إدارة العديد من الملفات المهمة، ومن أبرزها:
1. إدارة العلاقة مع اليمين الإسرائيلي في ظلّ تهديداته المتواصلة وممارساته الاستفزازية، التي لا تراعي مصالح الأردن العليا ولا تظهر أي حرص على أمنه واستقراره.
2. إدارة علاقة متوازنة وحذرة مع إدارة ترامب تُعزّز مكانة الأردن وتُجنّبه أي توترات غير مطلوبة، والاستفادة من تجربته السابقة مع إدارة ترامب خلال الفترة 2017-2021 التي تمّ خلالها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإقرار خطة “صفقة القرن”.
3. توفير غطاء إقليمي ودولي لمواقف أردنية تُغلّب أولوياته الوطنية سياسياً وأمنياً، كي يتجنب الانفراد في تحمّل أعباء المرحلة.
4. إدارة علاقات أكثر توازناً مع أطراف المعادلة الفلسطينية، ومغادرة سياسة الرهان على حصر العلاقة مع السلطة الفلسطينية.
5. حسم الموقف من إدارة ملف الإصلاح السياسي على المستوى المحلي، وتعزيز العلاقة مع القوى المجتعية والسياسية الفاعلة، بما ينعكس إيجاباً على تمتين جبهته الداخلية وتقوية عناصر منعته الوطنية.
خامساً: التوصيات:
مع التأكيد على ضرورة عدم الانخذاع بالإغراء الذي قد يحمله خيار الانحناء للعاصفة، والتكيّف السلبي مع استحقاقات مرحلة ترامب واليمين الإسرائيلي سياسياً وأمنياً، وأهمية إدراك عدم جدوى مواصلة سياسة الحياد والنأي بالنفس التي لم تفلح في تجنيب الأردن التحديات الأمنية القائمة، فإن هذه الورقة توصي باختيار مقاربة جديدة تقوم على المبادرة والتفاعل وتعزيز الدور الأردني في مواجهة التحديات الأمنية والاستحقاقات السياسية، مع ما ينطوي عليه هذا الخيار من صعوبات وتحديات تحتاج قدراً عالياً من الجرأة والشجاعة، فهو الأفضل والأسلم في حماية المصالح الوطنية العليا للأردن، والأقدر على صيانة أمنه واستقراره على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى. وفي هذا السياق توصي خذه الورقة الأردن بما يلي:
1. العمل على تعزيز الجبهة الوطنية الداخلية التي تشكل الحصن الحصين الأكثر أهمية في تحقيق المناعة الوطنية واستجماع عناصر القوة والقدرة على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية. والمضي في مشروع الإصلاح والتحديث السياسي الذي يشكل ركيزة مهمة لتعزيز قوة الأردن ومنعته واستقراره، وقطع الطريق على التدخلات الخارجية في الشأن الأردني.
2. الانفتاح على العلاقة مع جميع مكونات المعادلة الفلسطينية، لمواجهة التحديات الأمنية والسياسية التي تستهدف الأردن وفلسطين في آن واحد. والعمل على تصليب موقف السلطة في التعامل مع استحقاقات مرحلة ترامب، ومنع انهيار موقفها الذي من شأنه أن يشكل، حال حصوله، خطوة خطيرة تنعكس سلباً على مصالح الأردن وقدرته على الصمود والمناورة في مواجهة ضغوط المرحلة القادمة.
3. تعزيز العلاقة مع الصين والاتحاد الأوروبي، والاستفادة من التعارض بين مواقفهما وأولوياتهما وبين توجهات إدارة ترامب وأولوياتها بخصوص العديد من الملفات، وفي مقدمتها الموقف من قيام الدولة الفلسطينية ورفض “صفقة القرن” وخطة الضم وسياسة الاستيطان في الضفة الغربية.
4. مواصلة التحركات السياسية والديبلوماسية لحشد مواقف إقليمية ودولية داعمة لموقف الأردن ومصر في رفض التهجير القسري للفلسطينيين من الضفة وقطاع غزة، ومواصلة التنسيق مع مصر بهذا الخصوص.
5. الاستعداد للقيام بخطوات عملية في مواجهة التصعيد والتهديد الإسرائيلي الذي يمس الأمن القومي الأردني بما في ذلك وقف التطبيع، وقطع العلاقات، وإلغاء اتفاقية وادي عربة.
[*] إعلامي وكاتب أردني من أصل فلسطيني. رئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية. خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الفلسطينية والأردنية. نُشرت له مئات المقالات والتحليلات السياسية وتقديرات الموقف وأوراق العمل، بالإضافة إلى حضوره النشط في الوسائل المرئية والمسموعة.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: الأردن والتداعيات الأمنية لمعركة طوفان الأقصى … أ. عاطف الجولاني (16 صفحة، 1.2 MB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 5/12/2024
أضف ردا