مدة القراءة: 7 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

بالنسبة لكثير من الأمريكيين المحافظين، يبدو ترامب “بطلاً مُنقذاً” في مواجهة وضع أمريكي متدهور؛ وتبدو قراراته وإجراءاته ضرورية لتحقيق شعاره الذي رفعه “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”؛ وهي إجراءات منهجية واعية، وليست مزاجية متخبطة مُستفزّة كما يتهمه خصومه. كما أن اتخاذ نحو 200 قرار رئاسي وأمر تنفيذي خلال الأيام الأولى لولايته الرئاسية الثانية، تعكس بالنسبة لهم قدرته على الحسم ومواجهة التحديات ووضوح الرؤية، وحاجة الولايات المتحدة الماسة لشخصية مثله صاحبة قرارات ومستعدة لتحمُّل النتائج؛ إذ إن التدهور الداخلي بحسبهم أخذ في الاستفحال، بطريقة تجعل من علاجه بالوسائل الرتيبة التقليدية أمراً محكوماً بالفشل.

أما مدرسة “القومية الشعبوية” فهي مدرسة العلاقات الدولية التي يتبناها ترامب للاستجابة لتحدي التراجع الأمريكي العالمي.

ولكن، هل يستطيع ترامب مواجهة التحديات ولعب دور “المنقذ”، أم أنه سيُسرِّع من تدهور الوضع الأمريكي داخلياً وخارجياً؟! وهل عقلية تاجر العقارات النرجسية المقامرة التي تميل للتأزيم والابتزاز السياسي والمالي، تصلح لتحسين الأمور أم إلى تفجيرها؟!

المأزق الأمريكي:

في منظومة الحياة الأمريكية تظهر مجموعة من الإشكالات الخطيرة تشمل تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، والشد المتبادل بين اليمين المتشدد واليسار المتشدد، وتزايد الفجوة الاقتصادية المالية بين الأغنياء والفقراء، وتصاعد الديون الحكومية إلى مديات بدأت تخرج عن السيطرة، واتساع المشاكل المرتبطة بالهجرة واللجوء، وزيادة مظاهر العنصرية والتوترات الاجتماعية، والعجز المتزايد لدى الطبقات الاجتماعية المتوسطة عن توفير الرعاية الصحية والتعليمية وشراء المساكن، وزيادة مظاهر العنف المسلح والجريمة.

وفي هذا المقال، نختار بعض الأمثلة؛ فمثلاً، يشعر “الأمريكيون البيض” وخصوصاً المسيحيين البروتستانت، الذين يرون أنفسهم العنصر الأساس للمجتمع الأمريكي والعمود الفقري للنهضة الأمريكية، أن الهوية الأمريكية أصبحت مهددة. فعلى سبيل المثال، فقد كانت نسبة المسيحيين في الولايات المتحدة سنة 1970 تشكل 85% من السكان، وكان المسيحيون البيض يشكلون 80% من المجتمع الأمريكي، بينما أصبحت نسبة الذين يُعرفون أنفسهم كمسيحيين هذه الأيام 62-65% فقط، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 50% سنة 2050. أما المسيحيون “البيض” (من غير الهسبان/ اللاتينو) فقد انخفضت نسبتهم إلى نحو 40% فقط سنة 2025، (30% بروتستانت)، بعد أن كان البروتستانت يشكلون أكثر من 60% من السكان في سبعينيات القرن العشرين. وأما الكاثوليك فحافظوا على نسبتهم بحدود 23% تقريباً (بسبب قدوم أبناء الأصول الهسبانية)؛ بينما بلغت نسبة من ليس لهم انتماء ديني نحو 30%.

ومن ناحية التوزيع العرقي، فقد كان الأمريكان البيض (من غير الهسبان/ اللاتينو) يشكلون سنة 1970 نحو 85% من المجتمع الأمريكي بينما انخفضت نسبتهم سنة 2025 لتصل إلى نحو 57% فقط. وارتفعت نسبة الهسبان/ اللاتينو في الفترة نفسها من نحو 5% إلى 20% (نحو 62 مليوناً)، والسود من 11% إلى 13% (41 مليوناً) والآسيويين من أقل من 1% إلى 7% (19 مليوناً). وهو ما يعني أنّ “البيض” قد يفقدون غالبيتهم خلال العشرين سنة القادمة.

ولذلك فلا عجب أن تصبح معركة “الهوية” وضمان استمرار سيطرة “الإنسان الأبيض” في الولايات المتحدة، معركة مركزية مصيرية بالنسبة لترامب وأنصاره، ممن يعبرون عن التطلعات والمخاوف خصوصاً في الوسط البروتستانتي الأبيض.

من ناحية ثانية، فإن الهاجس الاقتصادي يشكل تحدياً كبيراً لدى صانع القرار الأمريكي. حيث بلغ مجمل الدَّين العام 36 تريليوناً و220 ملياراً وهو ما يساوي نحو 125% من الناتج القومي الأمريكي، بينما تبلغ خدمة الديون نحو 892 مليار دولار سنة 2025، وهو مبلغ متصاعد سيصل إلى 1.7 تريليون دولار سنة 2034. ويؤثر هذا الدَّين بشكل كبير على قدرة الحكومة على تمويل برامجها وخدمة المواطن الأمريكي حتى في مواضيع حيوية كالتعليم والصحة والبنى التحتية وبرامج الدفاع.

وفي الوقت نفسه، تتسع الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، حيث يملك 1% فقط من السكان نحو ثلث إجمالي الثروة في الولايات المتحدة، ويملك 10% من الأمريكيين نحو 70% من إجمالي الثروة، بينما يمتلك النصف الأفقر من السكان أقل من 3% من إجمالي الثروة؛ وثمة 37 مليون أمريكي تحت خط الفقر، وهو ما يهدّد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وقد سُجِّلت21,570 جريمة قتل في الولايات المتحدة سنة 2020، وهو من المعدلات الأعلى عالمياً. وتأتي السجون الأمريكية في صدارة السجون في العالم من حيث عدد المساجين حيث يوجد فيها نحو مليونَي سجين، يمثلون 25% من المساجين في العالم!! ويبلغ عدد السجناء من أصل إفريقي أربعة أضعاف الأمريكان البيض؛ وهي بقدر ما تعطي مؤشرات مقلقة على التفاوت الطبقي والاجتماعي، وشعور السود بالظلم، بقدر ما تدفع أعداداً من البيض إلى التعامل مع الإثنيات والقوميات الأخرى باعتبارهم عبئاً ومصدراً للمتاعب.

من ناحية ثالثة، يُمثل الصعود الصيني مصدر قلق كبير لصانع القرار الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. فمنذ 2009 بدأت الصادرات الصينية العالمية في تجاوز الصادرات الأمريكية، حتى وصلت في سنة 2022 إلى نحو ضعف الصادرات الأمريكية (3.6 تريليونات مقابل 1.83 تريليون دولار)؛ ومن المتوقع أن يتساوى الناتج المحلي الإجمالي الإسمي Nominal الصيني مع نظيره الأمريكي في سنة 2034، غير أنّ الناتج المحلي الإجمالي الصيني قد تجاوز نظيره الأمريكي من ناحية القدرة الشرائية (PPP) منذ عشر سنوات، وهو يزيد عنه الآن بأكثر من 6 تريليونات دولار. وقد ضاعفت الصين ميزانيتها العسكرية بنحو 800% في السنوات العشرين الماضية، مقارنة بزيادة بنحو 65% للولايات المتحدة في الفترة نفسها. وأصبحت الصواريخ الصينية النووية الفرط صوتية تشكل تهديداً جاداً للولايات المتحدة. وتجاوزت الصين الولايات المتحدة في براءات الاختراعات حيث سجلت نحو 921 ألفاً سنة 2023 مقابل نحو 315 ألفاً للولايات المتحدة.

كما تمثل مجموعة البريكس (الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا) وتصاعد وزنها الدولي حالة قلق أمريكي تضاف إلى همومها، وتراجع مكانتها العالمية.

سياسات ترامب:

يرى ترامب وفريقه أنه من أجل استعادة عظمة الولايات المتحدة، وتجاوز حالة التدهور، فلا بدّ من:

1. إنهاء حالة الترهل في المنظومة الإدارية والتنفيذية الأمريكية، وخفض التكاليف، والحسم السريع للقرارات.

2. حماية الأغلبية البيضاء، وخصوصاً البروتستانتية، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بمواجهة ظاهرة الهجرة واللجوء من الأقليات الأخرى للولايات المتحدة؛ مع السعي لتحقيق تجانس ثقافي للمجتمع الأمريكي.

3. حماية الأسرة و”القيم المحافظة” في المجتمع؛ ومحاربة الإجهاض، والتضييق على مجتمعات الشذوذ الجنسي والمثلية.

4. وضع القوانين بما يتناسب مع مصالح الأغلبية، وليس الأقليات، وعلى الأجانب (أي الأقليات الوافدة) أن يندمجوا من خلال قبول الاستيعاب في ثقافة “المسيحي الأبيض”، لا أن يفرضوا التعددية الثقافية.

5. تبني سياسة خارجية “قومية شعبوية “Populist Nationalism، تعطي الأولوية للسيادة الأمريكية، وتطبّق سياسات حماية اقتصادية، وتُشكك في قيمة المنظمات الدولية، وتعارض العولمة والتجارة الحرة، وترفض الالتزامات العسكرية الكبيرة، وتركز على الأولويات الوطنية الداخلية وعلى المصالح الخاصة في بيئة منافسة. وهي سياسة تجمع في بعض جوانبها سلوك “المدرسة الواقعية” و”المدرسة الانعزالية” في السياسة الخارجية الأمريكية.

6. يرى ترامب وفريقه أن السلطة العالمية يجب أن تكون للأقوياء، وهم الذين يتنافسون ويتفاوضون لصناعة المستقبل، وعلى الصغار أن يتكيفوا ضمن المساحة المتاحة لهم؛ مع تجاهل القيم والأخلاق والقانون الدولي. وهو في ذلك يُطبِّق “الداروينية الاجتماعية” القائمة على فكرة أن البقاء للأصلح والأقوى، وبناء على ذلك يرى لنفسه حق السيطرة على مناطق يَعدُّها استراتيجية لمصالح أمريكا مثل كندا وجرينلاند وقناة بنما. ولا يرى حرجاً من تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حتى ولو على حساب الأمن القومي لحلفائه في مصر والأردن.

7. يسعى ترامب وفريقه لتخفيف أي أعباء دولية تتحملها أمريكا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، في مقابل خدمة مصالحها العليا وبرامج استعادة تماسكها ومكانتها. كما تسعى لتدفيع حلفائها وأصدقائها فواتير وأثمان خدماتها، بشكل موغل في “الجشع الرأسمالي” والابتزاز السياسي والمالي، وبطريقة مُتسرِّعة، مع استخدام أدوات الضغط المتاحة لتحقيق ذلك؛ وتوفير أكبر قدر من المال بأقل قدر من التكاليف. ويبرز نموذج أوكرانيا بشكل صارخ في هذا المجال.

هل تنجح سياسات ترامب:

يجد ترامب نفسه أمام حالة تحدٍّ كبير لتحقيق أهدافه، ويبدو أن فرصه ليست مُشجّعة كثيراً في ضوء المعطيات المتاحة؛ لكنها بالنسبة له ولمؤيديه تستحق المحاولة و”المقامرة” في مقابل مسار التدهور الحتمي الذي يلوح في الأفق.

ويتجلى المأزق الأمريكي في أن الرغبات المندفعة لترامب لا تتناسب مع القدرات الفعلية على التنفيذ، وتبقى إلى حدٍّ كبير في إطار أسلوب رجل الأعمال الذي يسعى لتحقيق المكاسب السريعة بأي وسيلة.

وربما حظيت سياسات ترامب ببعض النجاحات الآنية، غير أنها قد تتسبّب بخسائر استراتيجية على المدى المتوسط والبعيد. وتكمن مظاهر تأزيم الوضع الأمريكي المحتملة فيما يلي:

1. إن الطريقة التي يريد بها ترامب “إدارة العالم” تُنهي عملياً النظام العالمي ودور مؤسساته الدولية القائمة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وتُسقط أي مرجعيات قانونية دولية أو أخلاقية في العلاقات الدولية. وقد يتيح ذلك بعض مساحات المناورة لترامب، لكن الكثير من القوى الصاعدة والطامحة، أو المقيَّدة بالنظام العالمي الحالي، ستجد هي الأخرى الفرصة للتنافس والسعي لخدمة مصالحها وفرض إرادتها. وعند ذلك لا تستطيع الولايات المتحدة الاحتجاج بأي منطق عقلي أو قيمي أو مؤسسي يمكن العودة إليه؛ وهو ما سيفتح عليها “صندوق باندورا” للمخاطر، وستضعف قدرتها على لعب أي دور مركزي في أي منظومة تَحكُّم عالمية.

2. تدفع سياسات ترامب حلفاء الولايات وأصدقاءها والعاملين تحت نفوذها، إلى الاعتماد على أنفسهم، وتقليل حاجتهم للولايات المتحدة أو الاستغناء عنها؛ وبناء علاقات دولية أقوى مع قوى صاعدة كالصين، والبحث عن مصادر جديدة للسلاح. وهو ما سيُضعف النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي الأمريكي على المدى المتوسط والبعيد؛ وبالتالي إضعاف قدرة الولايات المتحدة على الابتزاز المالي والسياسي، وتراجع تأثيرها في المجتمع الدولي.

3. تفتح سياسات ترامب، أحبت أم كرهت، فرصاً أفضل للصين والقوى الدولية الصاعدة لملء الفراغ، وتحسين فرصها التنافسية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

4. تراجع قوة الولايات المتحدة كأعلى دولة جاذبة للاستثمارات في العالم، بسبب سياسات إدارة ترامب التي تنزع الثقة في مصداقية الولايات المتحدة، وتوفيرها بيئات استثمار حُرَّة.

5. في مقابل إجراءات الحماية الأمريكية وفرض الضرائب والرسوم على الواردات، فإن الدول الأخرى ستقوم بإجراءات حماية مقابلة، وترفع الضرائب على الصادرات الأمريكية، مما سيرفع تكلفتها ويفقدها مزاياها التنافسية. كما ستستعيد هذه الدول جزءاً كبيراً من خسائرها التي تسببت بها سياسة ترامب.

6. سيتزايد سعي الكثير من الدول مثل دول البريكس وغيرها لتخفيف الاعتماد على الدولار الأمريكي في التبادل التجاري العالمي، وسيتزايد التأثير إذا ما قررت دول أوروبية أو الدول النفطية ذلك، وهو ما سيضعف تأثير الدولار في الاقتصاد العالمي.

7. تسهم سياسات ترامب الداخلية في ضرب البنى المؤسسية الأمريكية وإضعافها، وتأجيج الرغبة لدى بعض الولايات في الانفصال عن الدولة، ولو على المستوى البعيد، مثل كاليفورنيا وتكساس.

8. ستتسبّب سياسات ترامب في الحفاظ على هيمنة “البيض” وخصوصاً البروتستانت، وفرض نموذجه الاجتماعي الثقافي بطريقة متعسفة، في تصاعد النزاع الداخلي والإشكالات الاجتماعية والطبقية، وحالة الاحتقان لدى الأقليات العرقية والدينية. وسيتضرر عددٌ من الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة كأرض للحرية والتعددية الثقافية، التي وفّرت على مدى أكثر من مئتي عام بوتقة صهر Melting Pot للمهاجرين المندمجين، الذين يقدمون أفضل ما لديهم من إمكانات وإبداع في ضوء شعور حقيقي بالولاء والانتماء لوطنهم الجديد.

9. ترامب لا يرغب في التدخل العسكري ولا خوض الحروب، بل إن وضع الولايات المتحدة الحالي لا يعينها على التدخل العسكري الواسع المباشر. فبالرغم من قدرة ترامب على الإضرار بكثير من الدول إذا ما اتخذ إجراءات عقابية؛ فإن قدرته على الاستمرار في ممارسة الضغوط تظل محدودة، إذا ما رغبت هذه الدول في الاستمرار في تحدي سياساته… إذ إنه لا يستطيع في الغالب تجاوز الإجراءات الاقتصادية. وستتمكن معظم الدول من تجاوز أزماتها على المدى المتوسط والبعيد.

***

وفي الخلاصة، فإن سياسة ترامب هي خسارة محققة على المدى المتوسط والبعيد. وهي ستسهم في تعميق المأزق الأمريكي وبمزيد من تدهور الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، كما ستضعف تماسكها الداخلي. وإن الكثير من تهديدات ترامب مبنية على تقديرات مبالغ فيها للقوة، وعلى إيجاد أجواء ضاغطة مصطنعة في عملية “المقامرة” التي يقودها.
وفي الغالب، فإن الدول الوازنة في العالم ستسعى لامتصاص اندفاعة ترامب واستيعابها، وعدم مواجهته مباشرة؛ وستلعب معه “الشطرنج” لتحشره بعد ذلك في زاوية الخسائر ودفع الأثمان.


* العنوان الأصلي للمقال هو “ترامب في مواجهة المأزق الأمريكي”؛ ولكن إدارة التحرير في موقع الجزيرة نت فضّلت نشره حسب العنوان أعلاه.


المصدر: موقع الجزيرة نت، 2025/3/13


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: