إعداد: أ. ماجد أبو دياك.[*]
(خاص بمركز الزيتونة).
تحاول هذه الورقة تقديم تحليل شامل للموقف الذي وصلت إليه حرب الإبادة على غزة في ضوء استئنافها بعد وقف إطلاق النار الذي استمر قرابة الشهرين، مع التركيز على العوامل المتنوعة التي أثرت وتؤثر فيها.
وتنطلق الورقة من هذه المعطيات لمحاولة استقراء الخيارات المتاحة أمام المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حماس باعتبارها العمود الفقري للمقاومة، وذلك في ضوء تطور العوامل الإقليمية والدولية، وبعد قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump، وتأثير سياساته الجديدة على المنطقة بما فيها “إسرائيل”.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: موقف حركة حماس والمقاومة الفلسطينية ما بعد استئناف الحرب على غزة … أ. ماجد أبو دياك ![]() |
أولاً: الموقف الإسرائيلي:
• الحكومة الإسرائيلية:
لا شكّ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu وحكومته اليمينية المتطرفة يشكلان عاملان رئيسيان في تحديد مسار الحرب والتفاوض، ويعود ذلك بالأساس إلى متانة التحالف الذي يتمتع بدعم أغلبية في الكنيست (64 من أصل 120)، وذلك مقابل ضعف وتشتت المعارضة، وعدم نجاح زعيمها المفترض رئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد Yair Lapid في تشكيل تحالف معارض فاعل والاتفاق على خطط محددة لإسقاط الحكومة. ويمكن القول إنه لا يوجد في “إسرائيل” اليوم شخصية قوية مركزية تستند لها المعارضة في مواجهة نتنياهو، الذي يتكرس دوره كملك بلا منازع.
وتمكَّن نتنياهو وما يزال من تجاوز الهزات التي تعرضت لها الحكومة، ونجح بإعادة شنّ الحرب على غزة في إعادة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن جفير Itamar Ben-Gvir للحكومة، وامتصاص تهديدات وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش Bezalel Smotrich بالانسحاب منها إذا تمّ تطبيق المرحلة الثانية من الاتفاق.
ويبدو أن حكومة نتنياهو ستتمتع بالاستقرار النسبي بعد تمكنها من إقرار الميزانية العامة للدولة، فيما هي تسعى لإقرار قانون يتيح المجال لتهرب فئة الحريديم Haredim المتدينين من الخدمة العسكرية الإلزامية.
أما على صعيد موقف نتنياهو بشكل عام، ومن الحرب بشكل خاص، فهو ينبع أساساً من نظرته لنفسه بأنه من الزعماء التاريخيين للكيان مثل ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion، ولكن هزيمة 7 تشرين الأول/ أكتوبر يبدو أنها حفرت في نفسه عميقاً، وهذا ما يفسّر تشدّده وإصراره على استمرار الحرب، بالإضافة إلى رغبته في إرضاء المتشددين في الحكومة، إذ يستطيع بن جفير وسموتريتش إسقاط الحكومة، وكذلك بالنسبة للأحزاب الحريدية.
• الانقسام السياسي:
تواجه “إسرائيل” انقسامات سياسية داخلية، خصوصاً بين اليمين المتطرف والمعارضة التي تطالب بإنهاء الحرب، وتتهم نتنياهو بالديكتاتورية وأنه يقود “إسرائيل” نحو حرب أهلية بسبب تفضيله دعم اليمين المتطرف وتمكينه في الحكومة والرضوخ لمطالبه بالاستمرار بالحرب التي تحدث شرخاً بين العلمانيين الذين يدفعون كلفتها في الجيش، وبين المتدينين الذين يرفضون الخدمة، بل ويحتقرونها.
كما أن تهرّب نتنياهو من تحمل المسؤولية السياسية عن الفشل الإسرائيلي في التصدي لهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، يزيد من الشقة والخلاف بين السياسيين والعسكريين الذين قدَّم العديد منهم استقالاتهم من مناصبهم بعد التحقيقات التي أكدت تقصيرهم.
• فشل الاستراتيجية العسكرية:
تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إضعاف حماس عسكرياً وسياسياً بحيث لا تكون قادرة على شنّ هجوم جديد على شاكلة هجوم طوفان الأقصى، ولكنها فشلت حتى الآن خلال 16 شهراً من الحرب في تحقيق أهدافها، وهي القضاء على حماس، وإطلاق الأسرى المحتجزين في غزة، وهو ما أشعل الخلافات بين الحكومة المتشددة والمعارضة وأهالي الأسرى والعديد من المسؤولين السياسيين السابقين، والقيادات العسكرية السابقة والحالية.
وخسر جيش الاحتلال نحو 15 ألف جندي بين قتيل وجريح، ويواجه نقصاً حاداً في المجنَّدين دَفَعَتْه لإصدار أوامر تجنيد لنحو 14 ألف مجند من الحريديم في ظلّ استنكاف كبير منهم انتظاراً لإقرار قانون تجنيد يعفي فئات واسعة منهم، إضافة إلى الإرهاق الذي يعاني منه مجندي الاحتياط بسبب خدمتهم الطويلة وعدم حصولهم على إجازات، وهو ما دفع عدداً مهماً منهم إلى الاستنكاف عن الالتحاق بالخدمة.
• استئناف الحرب:
شعرت الحكومة الإسرائيلية خلال تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق تبادل الأسرى بالإهانة بعد أن انكشف أمام جمهورها والعالم أنه فشلت في تحقيق أهداف الحرب، وأن حماس استعادت عافيتها بعد حرب إبادة جماعية أكلت الأخضر واليابس. ولذلك حاول نتنياهو تعطيل الاتفاق ووضع العراقيل أمامه. وكانت زيارة نتنياهو للولايات المتحدة ولقائه مع الرئيس ترامب، مرحلة فارقة في تحصيل الدعم الأمريكي لاستئناف الحرب، على الرغم من وعود الأخير بإغلاق الحروب وليس بدئها.
وجاء استئناف الحرب ضمن ترتيبات أجراها نتنياهو بتعيين وزير دفاع (يسرائيل كاتس Israel Katz) ورئيس أركان (إيال زامير Eyal Zamir) خاضعين له، على عكس يوآف جالانت Yoav Gallant وهرتسي هليفي Herzi Halevi الذين طالبا برؤية واضحة لما بعد الحرب، وعارضا استمرارها إلا بعد استعادة الأسرى عبر اتفاق سياسي.
ويبدو من نمط الحرب الجارية، وتصريحات قادة الاحتلال، أنّ “إسرائيل” ستتفاوض على إطلاق الأسرى تحت النار، ولكن هذا الهدف معلن أكثر منه حقيقي، إذ إن الحكومة الإسرائيلية قرّرت شنّ حرب برية متدرّجة تعتمد على تقسيم وتقطيع قطاع غزة كما جرى في رفح وخانيونس، مع تقليل الاحتكاك مع عناصر المقاومة إلى حين إحكام السيطرة الكاملة على قطاع غزة، وربما فرض حكم عسكري عليها أيضاً، وتنفيذ مخطط التهجير، حيث ما تزال الحكومة الإسرائيلية تبحث عن دول تقبل باستقبال الغزيين المهجرين.
وفي ظلّ التناغم بين القيادة السياسية والعسكرية لأول مرة منذ حرب غزة، فإن جيش الاحتلال يستعد لتولي زمام تقديم المساعدات بنفسه أو إيكالها لشركة أمريكية تحت إشرافه، وذلك لحرمان حماس من فرصة الحفاظ على حاضنتها الشعبية، وتشجيع هذه الحاضنة للثورة عليها، باستغلال عناصر فلسطينية ساخطة أو من بعض العشائر أو حتى مقربة من فتح.
غير أن هذه الخطة لا يمكن أن تُستكمل بدون اللجوء إلى الاحتكاك مع المقاومة والوقوع في كمائنها التي دفعت الاحتلال إلى الموافقة سابقاً على وقف إطلاق النار بسبب الخسائر الفادحة التي تعرّض لها الجيش الإسرائيلي في شمال غزة تحديداً.
أضف إلى ذلك، فإن ترامب يؤمن بـ”السلام” من خلال القوة، قد يكون أعطى مهلة لنتنياهو لإنجاز مهمة إخضاع حماس ودفعها للموافقة على الشروط الجديدة التي وضعها المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف Steve Witkoff، والتي تعني القفز عن اتفاق وقف النار الذي وقَّعت عليه جميع الأطراف والوسطاء، وبهدف إخراج حماس من المعادلة السياسية، وإقناعها بالتخلي عن سلاحها ومغادرة قياداتها قطاع غزة.
ووفقاً لذلك، فمن المشكوك فيه أن تنجح “إسرائيل” في تحقيق هدف إخضاع حماس من خلال الحرب المكثَّفة والتأثير على موقفها السياسي في المفاوضات.
كما أنّ جيش الاحتلال يعاني من قصور حقيقي في التجنيد وتراجع المعنويات، بالإضافة إلى أنّ توزع قوات الاحتلال في احتلال أجزاء من الجولان السوري، واستمرار احتلال خمس نقاط عسكرية في لبنان، ودفعه لخمسة ألوية عسكرية في الضفة الغربية، سيجعل من الصعوبة على هذا الجيش الاستمرار بحرب استنزاف طويلة في غزة، خصوصاً إذا قرر البقاء في نقاط محددة قد يتعرض خلالها لهجمات مميتة من المقاومة سترفع حجم خسائره ربما بشكل أكبر مما كان عليه الأمر قبل وقف إطلاق النار.
ولا شكّ أنّ الموقف الإسرائيلي الرافض للتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة فتح، سيضيّق خيارات الاحتلال في إيجاد جهة بديلة لحماس، حيث سبق وفشلت محاولات للتعامل مع العشائر، وكذلك تجربة التعامل مع عناصر فلسطينية محسوبة على فتح.
• الشرق الأوسط الجديد:
ولا يبدو أنّ تسويق نتنياهو لبناء شرق أوسط جديد من خلال القوة العسكرية والاحتلال، هو أمر قابل للتطبيق، لأن احتمالية فشل اتفاق وقف النار في لبنان واردة بسبب استمرار الاحتلال، بالإضافة إلى عدم إمكانية استتاب الأمور له في سورية، في ظلّ نظام حكْمٍ جديد قد لا يتمكن من ضبط مجموعات ستسعى لاستهداف الاحتلال أو الرد على هجماته المتكررة على الأراضي السورية.
أما في الضفة الغربية، وعلى الرغم من سياسة التهجير الممنهجة هناك، فإن المقاومة في شمال الضفة ما زالت فاعلة وقادرة على إيقاع الخسائر بالاحتلال.
كما أنّ أي طموح سياسي يتطلب تقديم تنازلات، ليس أقلها القبول بمبدأ الدولة الفلسطينية أو على الأقل التفاوض عليها من أجل استكمال “الاتفاقات الإبراهيمية”، هو أمر غير وارد ليس لدى هذه الحكومة فقط، بل لدى مجمل القوى السياسية لدى الاحتلال، والتي صوَّتت ضد هذا الخيار في الكنيست.
• الضمّ والتهجير:
وفي إطار تطبيق برنامج حكومة المتشددين، وتسلم سموتريتش منصب ووزير الإدارة المدنية بوزارة الدفاع إضافة لمنصبه كوزير للمالية، وتسلم بن جفير منصب وزير الأمن الوطني، شدّد الاحتلال قبضته على الضفة الغربية، وشنّ حملات أمنية متعددة على نابلس وجنين على الأقل، فيما بدأ مؤخراً بتنفيذ حملة غير مسبوقة لتهجير أهالي المخيمات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية، حتى وصل عدد المهجرين إلى نحو 40 ألفاً، ما يزال الاحتلال يمنع عودتهم إلى بيوتهم.
وتكمن خطورة هذه الخطوات في أنّ الاحتلال ينفّذ من خلالها سياسة تهجير تدريجية تمهيداً لضم أراضي الضفة الغربية، وهي الخطوة التي لم تجد معارضة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث يهدف منها إلى إيجاد واقع جديد في الضفة، في ظلّ السعي لإنهاء القضية الفلسطينية عبر اتفاقات تطبيع لا تؤمن أصلاً قيام دولة فلسطينية، ولا تأخذ بعين الاعتبار إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية.
ثانياً: الموقف الفلسطيني:
• على المستوى الشعبي:
لم يكن الأداء الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية مع معركة طوفان الأقصى بالمستوى الذي يتناسب مع حجم المعركة التي تحوّلت إلى إبادة جماعية، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو الدور الذي مارسته السلطة الفلسطينية، والذي جعل أهلنا في الضفة بمعزل عما يجري في غزة.
ولم يكن حال فلسطينيي الـ 48 بأفضل، والذي يعود بالأساس إلى الوسائل القمعية التي اتخذتها سلطات الاحتلال بحق الفلسطينيين هناك، والتي شهدت تصعيداً غير مسبوق منذ الهبّة العارمة التي قاموا بها خلال معركة سيف القدس 2021.
غير أنه سيكون من العسير على الاحتلال أن ينجح في تحقيق الفصل بين تجمعات الشعب الفلسطيني، أو أن يتمكن من إخماد الروح النضالية فيه، وهذا ما عبّرت عنه استمرار المقاومة في الضفة الغربية، وعلى الأخص في شمالها، وتمددها لطولكرم، مع استمرار مشاركة الخليل في جنوب الضفة الغربية المقاومة في فعاليات المقاومة حتى مع الإجراءات الأمنية المكثّفة التي يفرضها الاحتلال بالتعاون مع السلطة الفلسطينية.
• على المستوى الفصائلي:
على الرغم من أنّ حماس كانت هي التي تقود المعركة في غزة، إلا أنّ فصائل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وبعض الفصائل الصغيرة شاركت وبفاعلية في المقاومة، ليس فقط في غزة، وإنما في الضفة حيث شكّل الجهاد عمود المقاومة في جنين بالاشتراك مع حماس، وذلك في الوقت الذي تخلّفت فيه فتح وما زالت عن المشاركة في المعركة، باستثناء بعض الفصائل الصغيرة المنشقة عنها والتي ما تزال تشارك في المعركة بغزة.
وما تزال الساحة الفلسطينية بعيدة عن تحقيق اتفاق على الأهداف الوطنية الفلسطينية، ولو في المرحلة الحالية من الصراع مع العدو. ولم ينجح لقاء المصالحة في الصين في تموز/ يوليو 2024 في تفكيك الخلافات بين فتح وحماس، سواء على صعيد منظمة التحرير الفلسطينية أم السلطة الفلسطينية.
وفيما عملت السلطة الفلسطينية على إلقاء اللوم على حماس في النتائج المترتبة على طوفان الأقصى، فإنها وصلت إلى حدّ انتظارها استلام السلطة في غزة على أمل أن تتمكن “إسرائيل” من القضاء عليها، كما رفضت تشكيل حكومة وحدة وطنية في ظلّ هذه الظروف، ورفضت الجهود المصرية لتشكيل لجنة إدارية من التكنوقراط لاستلام إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب.
• مؤسسات السلطة والمنظمة:
يلحظ في هذا السياق أنّ منظمة التحرير الفلسطينية تمّ تهميشها، وجعلها بنداً من بنود السلطة الفلسطينية التي أصبحت تُدار من قِبل الرئيس وشخصيات محددة تنتمي لحركة فتح.
والأخطر من هذا أنّ هذه المجموعة التي لا تؤمن أصلاً بخط المقاومة، بل تحاربه من قناعة فكرية راسخة وليس من موقف براجماتي، وهو ما أدّى مع اشتداد الضغوط عليها إلى الانتقال بالسلطة من تقديم الخدمات الأمنية لجيش الاحتلال باعتبار أنّ ذلك يخدم رؤيتهم، إلى أن تصبح جزءاً من الخطط العسكرية للاحتلال (حالة مخيم جنين)، بالإضافة إلى تصديها لمحاولة فلسطينيي الضفة لمشاركة إخوانهم في غزة شرف التصدي للاحتلال، وفشلها في تقديم دعم حقيقي للمقاومة خلال الحرب.
ثالثاً: الموقف الأمريكي:
ظهر تأثير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى قبل أن يستلم سلطاته، من خلال الضغط على نتنياهو للموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة عن طريق إرسال مبعوثه ستيف ويتكوف.
إنّ سعي ترامب لترتيب وقف إطلاق النار بغزة يأتي في سياق رؤية أوسع تحدّث عنها بإغلاق الحروب، إضافة إلى التحلل من الالتزامات المالية الثقيلة على أمريكا ضمن رؤية هي أقرب إلى الانعزالية والمصلحية البحتة، حتى لو تطلّب ذلك التخلي عن الحلفاء التقليديين في أوروبا من خلال فرض سياسات جمركية حمائية ضدهم.
ومن السابق لأوانه تقدير تأثير هذه السياسات الجديدة على أمريكا نفسها والمنطقة، ولكنّ هذه السياسة قد تبدّل التحالفات إلى صراعات، وتؤدي إلى خسائر أمريكية استراتيجية في العلاقة مع الغرب.
كما قد تؤدي إلى تباينات مع الأنظمة العربية، كما حصل في القمة العربية الطارئة التي رفضت خطة ترامب للتهجير، وقدّمت خطة بديلة لإعمار غزة.
أما عن التأثير على القضية الفلسطينية، فقد أكّد ترامب بأنه سيدعم أي خيار سيتخذه نتنياهو في الحرب على غزة، طالما أنّ حماس لم تستجب لمطلبه بإطلاق سراح كل الأسرى دفعة واحدة.
واستناداً لعقلية الرئيس الأمريكي القائمة على الصفقات، وسعيه لتحقيق عملية تطبيع عربية مع “إسرائيل”، وتوسيع “الاتفاقات الإبراهيمية” التي وقَّعتها بعض الدول العربية في ولايته الأولى، فإن ترامب أعطى الضوء الأخضر لحكومة نتنياهو لإعادة شن الحرب على غزة على أمل أن تسفر الحملة العسكرية عن إخضاع حماس تمهيداً لإغلاق الملف الفلسطيني، والتفرّغ لعملية التطبيع التي ستجلب رساميل خليجية يسعى ترامب لاستدراجها للولايات المتحدة. وهذا الأمر مشكوك في حصوله كما أسلفنا.
ومن خلال قراءة مشهد العلاقة الأمريكية الإسرائيلية في عهد ترامب، ومن خلال الآلية التي ضغط بها ترامب على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار، فيبدو أن العامل الأمريكي أصبح عاملاً حاسماً في التأثير على الموقف الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، جاء موضوع فتح قناة التواصل المباشرة مع حركة حماس من قبل المبعوث الأمريكي آدم بولر Adam Boehler كخطوة قد تكون محدودة وتكتيكية ولكنها تعبر عن سعي واشنطن للبحث عن مصالحها بصرف النظر إن توافقت مع مواقف “إسرائيل” أم لا.
إلا أنّ انفتاح أكبر قوّة في العالم على حركة حماس عزَّز من شرعيتها، بما قد يعزز الحوارات الجارية معها من قبل أوروبا وروسيا والصين، وفي الوقت نفسه سيزيد حساسية السلطة الفلسطينية تجاهها.
أما بخصوص قضية التهجير التي طرحها ترامب خلال لقائه مع نتنياهو في واشنطن، فقد أبدى تراجعاً عنها في تصريحات لاحقة قال فيها إنه لا يطرح تهجير الفلسطينيين بالقوة، ولكن هذا الموقف أشعل الضوء الأخضر لدى قوى اليمين الصهيوني لتشجيع هذه الفكرة، بل وإنها أصبحت فكرة طاغية في ضوء إعادة شنّ الاحتلال الحرب على قطاع غزة، وتصاعد الحديث عن احتلاله بالكامل وحكمه عسكرياً.
رابعاً: الموقف الإيراني:
عبّرت إيران عن دعمها الكامل لطوفان الأقصى وللمقاومة الفلسطينية، وأكّدت أنّ قرار إطلاق المعركة كان قرار المقاومة الفلسطينية، وهو ما أكّدته المقاومة؛ ولكن ذلك لم يجنبها الاستهداف الإسرائيلي المباشر، على اعتبار أنها سمحت لحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله بمساندة حماس ومهاجمة “إسرائيل”.
ووجدت إيران نفسها مضطرة للرد المباشر بالقصف الجوي الصاروخي على “إسرائيل” مرتين وبطريقة محسوبة، لأن التصعيد الإسرائيلي كان غير مسبوق في تاريخ الصراع بين الطرفين. وقد ردت “إسرائيل” على هذين الهجومين. غير أنّ الردود الإسرائيلية تجنّبت في الحالتين المنشآت النفطية والنووية ما حال دون تدحرج الصراع إلى حرب شاملة، خصوصاً أنّ حكومة الاحتلال لم تحظَ بدعمٍ أمريكي للتصعيد.
غير أنّ الوضع تبدل مع قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تولى بنفسه زمام التصعيد من خلال تهديد إيران بتوقيع اتفاق نووي أو المجازفة بحرب ساحقة ضدها.
وبينما رفضت إيران التفاوض مع الولايات المتحدة تحت التهديد، فإنها قبلت بالتفاوض غير المباشر الذي قد ينزع فتيل الأزمة إن تمّ اعتماده، مع أن حكومة “إسرائيل” ما تزال تنفخ في نار الخلافات، وتسعى لمشاركة أمريكية فاعلة في ضرب البرنامج النووي الإيراني، الذي لا تستطيع هي القيام به وحدها، ومن دون ضوء أخضر أمريكي.
وفي سياق الصراع مع “إسرائيل”، وبعد سقوط نظام بشار الأسد، فقد خسرت إيران الساحة السورية كساحة دعم وإسناد ونقل للأسلحة لحليفها حزب الله في لبنان، وهو الأمر الذي سيضعف نفوذها في المنطقة.
خامساً: موقف محور المقاومة:
شارك حزب الله اللبناني في الحرب منذ بدايتها، وغطت مشاركته شمالي فلسطين المحتلة، وأرغمت عشرات الآلاف من المستوطنين الصهاينة على النزوح، كما شغلت جانباً من الجيش الإسرائيلي على خطوط التماس مع لبنان، وعطّلت الكثير من جوانب الحياة الاقتصادية والأنشطة السياحية هناك. وفي أواخر أيلول/ سبتمبر 2024 صعّد الاحتلال عدوانه على لبنان، وتلقى حزب الله ضربات قاسية في تفجيرات البيجرات ووسائل الاتصال، واغتيل عدد كبير من قادته السياسيين والعسكريين وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، وقام العدو باجتياح أجزاء من جنوب لبنان وتسبب في تهجير نحو مليون و200 ألف لبناني. وقد استعاد حزب الله زمام المبادرة، وقدّم أداء قوياً حتى إعلان الهدنة على الجبهة اللبنانية في 27/11/2024. غير أنّ الاحتلال الإسرائيلي دأب على نقض الهدنة بشكل يومي، ومحاولة فرض معادلة أمنية جديدة في لبنان.
وقد شارك اليمنيون بفعالية في الحرب بالرغم من بُعد المسافة عن فلسطين، فقام أنصار الله (الحوثيون) بدور أساسي في قطع شريان الملاحة البحرية عن الاحتلال الإسرائيلي، مما تسبب له بأضرار كبيرة. كما أطلقوا الكثير من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة باتجاه فلسطين المحتلة. وقامت قوات إسرائيلية وأمريكية وبريطانية بتنفيذ غارات عنيفة ضدّ اليمن، ولكن ذلك لم يحل دون إصرار اليمنيين على مواصلة ضرباتهم للاحتلال الإسرائيلي. وشاركت المقاومة العراقية في توجيه عدد من الضربات للكيان عبر الصواريخ والمسيرات.
سادساً: الموقف الأوروبي:
حصل تغيّر كبير في موقف الدول الأوروبية الأساسية التي دعمت الحرب على غزة في بدايتها، ولكنها ما لبثت أن تراجعت عن هذا الموقف في عهد إدارة جو بايدن Joe Biden، خصوصاً بعد أن تحوّل العدوان على غزة إلى حرب إبادة جماعية.
واليوم، وفي ظلّ إثارة ترامب للخلافات الاقتصادية والسياسية مع الأوروبيين (الضغط على أوكرانيا لتوقيع اتفاق سلام مع روسيا يتضمن تنازلها عن جزء من أراضيها التي احتلتها روسيا، والسيطرة على جرينلاند، وفرض رسوم جمركية عالية على الصادرات الأوروبية لأمريكا…إلخ)، فإنه من المتوقع أن تبتعد هذه الدول عن الموقف الأمريكي أكثر باتجاه تبني مقاربة مختلفة من الحرب ومن القضية الفلسطينية.
ولكن لم يترجم هذا الموقف حتى الآن إلى سياسات قد تَحدُّ أو تمنع حرب الإبادة الشاملة التي استأنفتها “إسرائيل” بأبشع صورها في غزة، والحرب الشاملة على المخيمات في الضفة الغربية.
سابعاً: الموقفان الروسي والصيني:
من الواضح أن موقف روسيا الذي انشغل بأوكرانيا بدأ يتحسن في ضوء التغير في موقف إدارة ترامب تجاه الأزمة الأوكرانية، وفي المقابل، فإنّ ما حصل من تغيير في سورية بعد سقوط نظام الأسد سيؤثر بالتأكيد سلباً في دور روسيا ونفوذها في المنطقة العربية. أما اتجاه القضية الفلسطينية، فلا يبدو أن هناك تغييراً في الموقف الروسي في التواصل مع حركة حماس، حيث استمرت سياسة التواصل بمستويات معينة.
وعلى الرغم من أن حقّ النقض (فيتو Veto) الروسي في مجلس الأمن Security Council على تصنيف حماس كـ”حركة إرهابية”، حال دون شنّ حرب شاملة عليها، إلا أنّ الموقف الروسي كان محدوداً في مساعي وقف الحرب على غزة أو حتى وقف حرب التجويع.
وكذلك الأمر بالنسبة للصين التي عارضت الحرب، ولكن لم يكن لها خطوات فاعلة لمحاولة التأثير في مجراها، عى الرغم من أنّها تقدّمت خطوة في العلاقة مع حماس من خلال استقبال قيادتها ضمن الحوار الفلسطيني في تموز/ يوليو 2024.
وما تزال الصين تسعى لتعزيز وجودها في المنطقة اعتماداً على الديبلوماسية الاقتصادية، ولكنها ما زالت بعيدة عن لعب دور رئيسي في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
ولا يُتوقع في المدى المنظور أن يكون هناك تغيير في الموقفَين الروسي والصيني تجاه القضية الفلسطينية.
ثامناً: الموقف التركي:
اتّبعت تركيا موقفها الرافض للعدوان والمدين لـ”إسرائيل” بخطوة سياسية كبيرة لها مغزى، وهي تأكيدها على أنّ حماس هي حركة مقاومة تدافع عن أرضها وشعبها، وليست حركة “إرهابية”، وهو الموقف الذي يتعارض مع الموقفين الأمريكي والإسرائيلي.
وعلى الرغم من أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan كان نشطاً في إدانة “إسرائيل” والتصعيد السياسي ضدها، إلا أنّ دور تركيا العملي في محاولة وقف الإبادة الجماعية، أو على الأقل قيادة الجهود الإسلامية لفك الحصار عن غزة لم يكن فاعلاً.
ويخشى اليوم، وفي ظلّ انشغالها بالملف السوري المعقّد، وربما التحديات الداخلية بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أن يتراجع أو يضعف الدور التركي في مواجهة العدوان الإسرائيلي الجديد الذي قد يثير من جديد قضايا التهجير.
تاسعاً: الموقف العربي:
بشكل عام اتّسم الموقف العربي من الحرب على غزة بالضعف والتشتت، وإن كان نجح في الحيلولة دون نجاح مشروع التهجير الإسرائيلي الأمريكي، سواء في عهد بايدن أم ترامب.
وحصل هناك إجماع في موقف القمة العربية الأخيرة من موضوع التهجير، وضرورة إعمار غزة، وطرح أفق سياسي للدولة الفلسطينية، ولكنه جاء في إطار دفاع الدول المعنية عن مصالحها، وارتبط بمشروع لإعادة إعمار غزة دون أن يملك آليات للتطبيق، تتطلب قبل كلّ شيء وقف العدوان على غزة، وفكّ الحصار عنها.
ورفضت “إسرائيل” وأمريكا المقترح العربي لأنه لم يتضمن نزع سلاح حماس، وهو أمر لم تقدمه الدول العربية، وإن كان بعضها يريد أن يتم ذلك مقابل رعاية مصالحها وعلاقاتها مع واشنطن.
ولم تغير هذه القمة من طبيعة الموقف العربي السلبي والضعيف الذي لم يمارس أي ضغوط لا ديبلوماسية ولا اقتصادية ولا سياسية لوقف الحرب على غزة، ولا حتى محاولة كسر الحصار عليها.
وتظل إشكالية المواقف العربية أنها لم تنجح في إسناد الفلسطينيين أمام حرب الإبادة والتجويع التي تعرضوا لها في غزة، وحرب الاقتلاع والتهجير التي يتعرضون لها في الضفة الغربية، ولا هي ساندت المقاومة التي تشكل الخط الأول المتقدم للدفاع عن الأمن الوطني العربي.
عاشراً: الموقف الحالي في غزة والضفة:
1. في ظلّ استئناف “إسرائيل” الحرب على غزة، ما تزال المفاوضات متعثرة حول تفاصيل مقترح ويتكوف للإفراج عن بعض الأسرى الإسرائيليين، ولا يبدو أن هناك اختراقاً قريباً سيؤدي إلى إطلاق المرحلة الثانية من المفاوضات.
2. ما تزال الحكومة الإسرائيلية مصرة على شطب المرحلة الثانية من المفاوضات وعدم الاستجابة لمطالب حماس بوقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة، كشرط لاتمام عملية الإفراج عن الأسرى وفق معادلة جديدة “إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل فئة الجنود”. وتتمسك “إسرائيل” مدعومة من الولايات المتحدة برفض أي وجود لحماس وفتح في اليوم التالي للحرب، والذي أصبح مطلباً عربياً كذلك، فيما تتمسك “إسرائيل” وأمريكا بمطلب نزع سلاح حماس وإبعاد قادتها العسكريين. يأتي ذلك بعد أن أثبتت حماس من خلال مشهدية تبادل الأسرى، والإعلام الذي رافقها أنها ما تزال هي اليوم التالي في غزة، وأن قوّتها العسكرية عصية على الكسر على الرغم من الحرب الشاملة التي شنّت عليها.
3. من المفترض أن تكون المقاومة أعادت تنظيم نفسها، وترميم قدراتها التنظيمية والعسكرية، بما يؤهلها لخوض الجولة الثانية من الحرب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عمليات التزويد والتعويض متوقفة بسبب الحصار الخانق، ما يضع علامات استفهام حول إمكانات الصمود في حرب طويلة، وإن كانت المقاومة أثبتت قدرة عالية على الصمود، بل والإثخان في العدو.
4. يعاني جيش الاحتلال من قصور في التجنيد، وفقدان الدافعية، والخلاف بين القيادات (باستثناء رئيس الأركان وبعض القادة الذين تمّ تعيينهم) وبين القيادة السياسية بما في ذلك وزير الحرب نفسه.
5. وتواجه الحكومة الإسرائيلية التي تضم غلاة المتطرفين، معارضة شديدة ومتصاعدة لشن الحرب، مترافقة مع اهتزازات عنيفة مع المجتمع على خلفية انقلابها على اتفاق وقف إطلاق النار.
6. تواجه حركة حماس تحدياً يتعلق بالطروحات الداعية لنزع سلاحها أو إبعاد قادتها وتحييد قوتها العسكرية. وعلى الرغم من أنها غير ممكنة عملياً، إلا أنها تشكل عقبة أمام الأدوار الأخرى للحركة، وضغطاً على وجود الحركة ودورها في الضفة والخارج.
7. تعاني الضفة من اندماج دور السلطة مع الدور الإسرائيلي من خلال ملاحقة المقاومة وقتل المقاومين، وذلك لتقديم استحقاق لإدارة ترامب ولـ”إسرائيل” ليكون لها دور في اليوم التالي بغزة، واعتماد مكانتها في الضفة، في ضوء رفض الحكومة اليمينية المتطرفة لها، على الرغم من كل الاستحقاقات التي تقدمها. ويضع ذلك عقبات كبيرة أمام المقاومة، بل وحتى إضعاف الدور المدني والسياسي لها.
8. أدى إطلاق سراح الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني بفضل صفقة التبادل إلى ارتفاع في منسوب شعبية الحركة في الضفة والخارج تحديداً، وهذا يعزّز من دور حركة حماس في الضفة لتحفيز وتحريك الفلسطينيين لتفعيل وتعزيز تفاعلهم مع إخوانهم في غزة.
9. الحوار الأمريكي مع الحركة هو ثمرة من ثمرات الصمود الأسطوري لغزة، والثبات على الموقف السياسي، وهو تطور إيجابي يثبت قناعة إدارة ترامب بجدوى التواصل المباشر مع الحركة.
حادي عشر: المحددات التي تحكم المقاومة في المرحلة المقبلة:
1. النجاح في استكمال مراحل تبادل الأسرى، وصولاً لتحقيق وقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
2. التمكن من تحقيق الإغاثة والإيواء للشعب الفلسطيني بأفضل صورة ممكنة.
3. الحفاظ على الكتلة الصلبة لحماس وقوى المقاومة في الإطارَين المدني والعسكري، وتطويرها في مواجهة محاولات الإقصاء أو الاقتلاع أو القضاء على المقاومة وإنهائها.
4. المحافظة على دور قوى المقاومة في غزة والضفة في أي ترتيب سياسي وميداني قادم.
5. تطوير دور المقاومة في الضفة لمواجهة المخططات الإسرائيلية للضم والتهجير، وتفعيل دور الشتات في الإسناد ودعم صمود الشعب الفلسطيني في غزة.
6. تحقيق استدامة الصراع، باعتبار أن المعركة الحالية هي مقدمة ومحطة مهمة في طريق التحرير.
7. مواصلة الجهود بالتعاون مع القوى الفلسطينية لتشكيل جبهة أو إطار فلسطيني لدعم المقاومة والحفاظ على الثوابت.
ثاني عشر: الخيارات المتاحة لحماس وقوى المقاومة في المرحلة المقبلة:
في ظلّ تعقيد المشهد وصعوبته بالعدوان المنفلت من عقاله متحزماً بالدعم الأمريكي والخذلان العربي والصمت الدولي، تبرز أمام قوى المقاومة ثلاثة خيارات للتعامل مع الواقع:
1. وقف التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي، والذهاب للاشتباك والتصعيد معه إلى حين قبوله بالدخول في المرحلة الثانية دون قيد أو شرط.
2. القبول بمطالب “إسرائيل” الحالية، والتوصل لهدنة جديدة، مع خوض مفاوضات جديدة للدخول للمرحلة الثانية وتطبيق مطلبَي وقف إطلاق النار الدائم والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة.
3. الاستمرار في المفاوضات والتمسك بورقة الأسرى لمحاولة تكييف مقترح ويتكوف الأخير ضمن معطيات المقاومة، ومن ثَمَّ الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق لتحقيق وقف دائم للنار والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة. ويتطلب ذلك المرونة في التعامل مع قضية الأسرى لصالح تأمين الإغاثة للشعب الفلسطيني، جنباً إلى جنب مع العمل على إفشال العدوان والتصدي لقوات الاحتلال وإيقاع الخسائر البشرية والمادية فيها، ما سيؤدي إلى تأزيم الوضع الداخلي الإسرائيلي، ويفشل مخطط الاحتلال.
وفي ضوء المحددات السابقة، فإنّ الخيار الأول بالتخلي عن التفاوض والاشتباك مع العدو سيؤدي إلى زيادة معاناة أهل غزة، ويعطل عمليات الإغاثة، وقد يؤدي إلى إضعاف الحاضنة الشعبية، كما أنه سيستنزف مقدرات المقاومة مع صعوبة تجديدها في ظلّ الحصار المطبق.
أما الخيار الثاني، فلن يؤدي إلا إلى استمرار التعنت الإسرائيلي، وسعيه لابتزاز التنازلات من الحركة، لأنه سيعتقد أن المزيد من الضغط العسكري هو ما سيُخضع الحركة ويجعلها تفرج عن الأسرى في نهاية المطاف بدون قيد أو شرط.
ولذلك، فإن الخيار الثالث القائم على استمرار التفاوض، والتمسك بورقة الأسرى هو الخيار الأنسب في الوقت الحالي، مع التأكيد على أن خيار الصمود والتعويل على فشل الحملة العسكرية الإسرائيلية، قد يؤدي لتفاعلات داخلية إسرائيلية تدفع نتنياهو لتليين موقفه.
وفي ضوء هذا الخيار، فإن هناك مجموعة من المهمات التي يمكن أن تعمل عليها حماس والمقاومة الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
ثالث عشر: المهمات الوطنية على عاتق المقاومة الفلسطينية في المرحلة المقبلة:
1. التعامل مع المعركة على أنها مستمرة وطويلة، فحتى لو تمّ وقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي، لو حصل، فمن المرجح أن تتجدد الحرب بأشكال وطرق مختلفة، لأن العدو لم يتمكن من تحقيق أهدافه طول حرب الإبادة، ويريد ضمان ألا تكون حماس قادرة على شنّ 7 تشرين الأول/ أكتوبر جديد.
2. ولذلك قد يستحق الأمر من حماس وقوى المقاومة دراسة جدوى فكرة الاتفاق على هدنة مطوّلة (5-10 أعوام) في غزة فقط، مع عدم توسيعها للضفة حرصاً على استمرار فاعلية المقاومة ومواجهة خطوات الضم والتهجير. وقد ينجح ذلك في تجاوز الفيتو على الحركة إسرائيلياً وأمريكياً بل وحتى عربياً، بما يؤهل الحركة للاحتفاظ بقوتها العسكرية التي هي ذخر للشعب الفلسطيني.
3. وانطلاقاً من ذلك، فلا بدّ من صياغة مبادرة حقيقية للهدنة تقدم للفضاء العام، أو للإدارة الأمريكية من خلال الحوار المباشر معها، مع ضرورة الانتباه لمخاطر هذا الحوار بدون أن ينبني على خطة وضوابط واضحة تمنع الانزلاق نحو التجاوب مع الابتزازات والمطالب الأمريكية.
4. استثمار فتح قناة الاتصال مع أمريكا لمحاولة لتطوير ورفع سقف العلاقة مع أوروبا وروسيا والصين.
5. العمل على تعزيز إغاثة وإيواء الشعب الفلسطيني عملياً وسياسياً من خلال تشجيع تركيا لتبنّي خطة فك الحصار عن غزة بالاشتراك مع دول إسلامية كبرى مثل باكستان وماليزيا وإندونيسيا.
6. استمرار العمل على خلخلة جبهة العدو الداخلية من خلال استخدام ورقة الأسرى، باعتبارها قد تخلخل دعم الجبهة الداخلية لاستمرار الحرب، وتدفع باتجاه قبول العدو لوقف النار بالسرعة الممكنة، وكذلك تطوير آليات كشف خسائر العدو البشرية والمادية وتسليط الضوء عليها.
7. تطوير الأداء التفاوضي الفلسطيني في مفاوضات وقف النار من خلال إشراك بقية القوى المقاومة فيه بشكل مباشر، وتقديم المطالب على أنها تخص الشعب الفلسطيني وليس حماس وحدهاـ وهذا يقتضي تشكيل فريق لإدارة التفاوض يضم القوى الفلسطينية الفاعلة في المقاومة مثل حركتَي الجهاد والشعبية، ضمن سياسات تفاوضية تعمل على مواجهة مراوغات العدو الإسرائيلي.
8. ضرورة تفعيل دور الضفة والقدس ليس فقط في المقاومة، وإنما أيضاً في المواجهات الجماهيرية الشعبية مع الاحتلال، بهدف التصدي للاستيطان وعبث وجرائم المستوطنين في الضفة.
9. استمرار حثّ فلسطينيي 48 على استعادة دورهم الذي كان بارزاً ومؤثراً خلال معركة سيف القدس سنة 2021.
10. استمرار التفاعل الشعبي الغربي، وفي الأمة، من أجل الضغط السياسي على حلفاء العدو لإجباره على وقف العدوان.
11. تشجيع التحرك العلمائي لحث التحركات الرسمية والشعبية لفك الحصار عن غزة من خلال تحريك القوافل.
12. ضرورة العمل على تشجيع عناصر الأجهزة الأمنية للتوقف عن استخدام سلاحهم ضدّ شعبهم وتوجيهه للمحتل.
13. تشجيع تحركات الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، لدعم فكرة وقف إطلاق النار، وإغاثة الشعب الفلسطيني.
14. تعزيز الصمود الاقتصادي في قطاع غزة من خلال توفير الدعم المالي واللوجستي للمواطنين الذين يعانون من الحصار والعدوان.
15. التمسك بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة المحافظة على الثوابت، والتمثيل الحقيقي الفعّال لمكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والتمسك بمطلب تشكيل حكومة وطنية للتعامل مع الواقع الفلسطيني بمرجعية فصائلية، وحشد القوى الفلسطينية لدعمه. ولذلك ينبغي اعتبار لجنة إدارة غزة من التكنوقراط هي خطوة، وليس نهاية المطاف باتجاه تشكيل الحكومة الوطنية التي تمنع السلطة من التّغوُّل في الضفة وغزة، وتنصهر مع المجموع الوطني للالتزام بثوابت الشعب الفلسطيني، واعتبار المقاومة هي الوسيلة الاستراتيجية للشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه. كما ستؤدي هذه الخطوة إلى تنظيم انتخابات عامة للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات لتحديد من سيقود الشعب الفلسطيني.
16. إذا لم تنجح هذه الخطوة، يتم الدّفع باتجاه إعادة بناء المرجعية الوطنية الفلسطينية الفاعلة، وموقع المقاومة المتقدم فيها، والعمل على إيجاد إجماع وطني فلسطيني على المقاومة كمنهج فعال وناجح لاستعادة الحقوق الفلسطينية.
17. العمل على وقف الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى من خلال الجهود الفلسطينية، مشفوعة بموقف عربي صلب في هذا الاتجاه.
18. استمرار السعي لتبييض سجون الاحتلال من الأسرى.
19. إعادة تقديم المقاومة باعتبارها حائط صدّ للأمة العربية في مواجهة التغول الإسرائيلي، وفي مواجهة إعادة تشكيل خريطة المنطقة، وتفعيل وسائل الضغط الشعبية في المنطقة للتأثير على مواقف الدول العربية للإسهام بجهود وقف النار.
[*] أ. ماجد أبو دياك، كاتب ومحلل سياسي فلسطيني، وخبير في تقدير الموقف في تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، وله المئات من المقالات والتحليلات السياسية في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية، وله إسهاماته المتخصصة في الوسائل الإعلامية المرئية والمؤتمرات.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: موقف حركة حماس والمقاومة الفلسطينية ما بعد استئناف الحرب على غزة … أ. ماجد أبو دياك ![]() |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 8/4/2025
أضف ردا