بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تزايد في الآونة الأخيرة النقاش حول جدوى وجود السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تصاعدت فيه حالة الإحباط لدى العديد من قيادات السلطة ومنظمة التحرير من أن السلطة لم تعد المعبر المرجو للوصول إلى الدولة الفلسطينية، وأن “إسرائيل” أفرغت مشروع التسوية من محتواه.
السلطة الفلسطينية التي تشكّلت سنة 1994، كانت تأمل التحوّل إلى دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة خلال خمس سنوات، مع حل القضايا النهائية المتعلقة بمستقبل اللاجئين، والقدس، والمستوطنات، والحدود، ومدى سيادة الدولة على أرضها…
غير أنه لم يتم وضع أي إطار زمني ملزم للطرف الإسرائيلي بالوصول إلى اتفاق نهائي، والانسحاب من الضفة والقطاع، كما لم يتم وضع أية آلية دولية ملزمة لـ”إسرائيل” لتنفيذ الاستحقاقات. وقد أنشأ هذا الاتفاق وضعًا شاذًّا، إذ عالج بعض التفصيلات قبل علاج جوهر المشكلة، وكان ملزمًا لطرف دون آخر، وسمح بتكريس الاحتلال وليس بإزالته، وحمّل مجموعة من “المساجين” إدارة شؤون حياتهم، مع إمكانات الحرمان والإفشال والقمع والتدمير والمصادرة في أي لحظة.
طوال 17 عاما تابعت السلطة اللهاث خلف “جزرة” الحل النهائي، غير أنه لم يتحقق شيء مما توقعت إنجازه، وهي لم تجد ما تقنع به الشارع الفلسطيني والعربي والمسلم المحبط، حول أية أنباء سارة يحملها مسار أوسلو أو خريطة الطريق.
وهناك شعور فلسطيني بمدى الأزمة التي تواجهها السلطة، غير أنّ هناك اختلافًا في طريقة التعامل معها. ومسار الأحداث منذ نحو عام يشير إلى تزايد الحديث عن فكرة حلّ السلطة لتكون من الخيارات المطروحة، وإن لم ترقَ بعد لأن تكون خيارًا متقدمًا على غيره من الخيارات.
تسقط السلطة
يرى مؤيدو فكرة حلّ أو إسقاط السلطة أن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي قد استنفدت أغراضها، ولم تعد الوسيلة الممكنة الصالحة لإنشاء الدولة الفلسطينية وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي، وينبهون إلى تآكل الدور الوطني للسلطة لحساب خدمة الملفات الإسرائيلية وخصوصًا الأمنية… وبالتالي فلا حلّ سوى حلّ السلطة، عند الوضع في الاعتبار:
1- ضرورة إنهاء عبثية مسار اتفاق أوسلو وخريطة الطريق، بعد ثبوت عدم فعاليته وعدم قدرته على إلزام الطرف الإسرائيلي بشيء.
2- إقامة السلطة الفلسطينية أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه، وجعلت المفاوضات تبدو بين دولتين أو سلطتين، وليس بين احتلال وشعب تحت احتلال، وانشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية والمعيشية، في حين تحول الاحتلال الإسرائيلي إلى “استعمار نظيف”، أو بحسب ما وصفه الكاتب الإسرائيلي ميرون بنيفستي، ومدير استخبارات الجيش الإسرائيلي شلومو غازيت استعمار “ديلوكس” أو فاخر.
إذ بينما تتولى السلطة كافة “الملفات القذرة”، وينزوي الوجه البشع للاحتلال، ويضرب الفلسطينيون بأنفسهم قواهم المقاوِمة، يستمتع الاحتلال بوضع مريح، يتابع فيه بشكل حثيث الاستيطان والتهويد ومصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض. ولذلك يجب إنهاء الدور الوظيفي للسلطة الذي تخدم من خلاله أجندات إسرائيلية، دون تحقيق الأجندات الوطنية.
3- ضرورة تحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولياته كاملة تجاه الشعب الفلسطيني الذي يحتله، قانونيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وصحيًّا…، وألا يتحملها أي طرف فلسطيني، طالما أن الطرف الإسرائيلي غير جادّ في الانسحاب، ويبحث فقط عن مجرد وكلاء أو غطاء لاحتلاله.
4- وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، على اعتبار فشل مسار التسوية، وعلى اعتبار أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وله الحق في المقاومة والاستقلال، وحق تقرير المصير وفق المواثيق والقوانين الدولية.
5- السلطة لم تعد ذراعًا لمنظمة التحرير بقدر ما أصبحت ذراعًا للاحتلال، وهي قد كسرت مجاديفها وبدائلها الإستراتيجية من خلال “نبذ العنف”، ومن خلال ضرب قوى المقاومة وملاحقتها، حتى لو أدى ذلك إلى ضرب الوحدة الوطنية، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطيني. أما المنظمة فتحولت إلى ظلّ باهت تابع للسلطة. ولا بدّ من استرجاع الدور الوطني والفاعل للمنظمة، باعتبارها حاضنة للمشروع الوطني الفلسطيني، الذي يضم كافة فصائل وفاعليات المجتمع الفلسطيني.
6- فتح المجال أمام وضع شروط جديدة للعبة السياسة مع “إسرائيل”، بعد ثبوت فشل شروط اللعبة الحالية.
7- فتح المجال أمام إنشاء سلطة مُقاوِمة تحت الاحتلال، تترك المظاهر الشكلية للسلطة، وتترك للاحتلال تحمل مسؤولياته، وتركز عملها على مقارعته وإنهاء وجوده، محتذية نموذج الانتفاضة المباركة الأولى 1987-1993.
8- إنهاء عدد من مظاهر الفساد في المجتمع الفلسطيني، كالفساد الإداري والمالي في السلطة، والتعاون مع الاحتلال، والارتهان للمعونات الدولية، والبحث عن رفاه مصطنع تحت الاحتلال.
9- بما أن “إسرائيل” وأميركا لن تقبلا في الضفة الغربية إلا كيانًا تحت شروط أوسلو، وبما أن قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني (الإسلاميون وقوى اليسار… وغيرها) ترفض ذلك، فإن الوحدة الوطنية الحقيقية وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، لن ينجز إلا بتجاوز شروط أوسلو، أو بتجاوز الشروط التي قامت السلطة على أساسها، وهو ما سيؤدي في النهاية إما إلى استمرار الانقسام أو إلى حلّ السلطة نفسها.
تعيش السلطة
يرى مؤيدو بقاء السلطة أنه من السابق لأوانه حلُّ السلطة، وأنه ما زال هناك مجال لمراكمة الإنجاز وإصلاح الخلل إن وجد، وأبرز حججهم هي:
1- نجح الفلسطينيون في بناء العديد من الحقائق على الأرض من خلال إنشاء سلطة وطنية، توظف عشرات الآلاف من الكوادر في مختلف الوزارات والأجهزة، التي تمثل البنية التحتية للدولة الموعودة، وانتزعوا اعترافًا إسرائيليًّا أميركيًّا بالشعب الفلسطيني، وبحقه في إنشاء دولته في الضفة والقطاع بغض النظر عن حجمها وصلاحياتها. ثم إن السلطة تدير مصالح الفلسطينيين وفق أجندة وطنية، وتلقى اعتراف وتعاون بلدان العالم، ولا ينبغي إضاعة مثل هذه المكاسب.
2- أن حلّ السلطة يعني إعادة الاحتلال الإسرائيلي، وتحكمه في كافة مفاصل الحياة، وتنفيذه لأجندته بشكل أكثر حرية، وإطلاق يده دون قيود.
3- أن حلّ السلطة هو إعلان عن فشل الفلسطينيين في إدارة أنفسهم، وهو تأكيد لمقولات الاحتلال الإسرائيلي بأن الفلسطينيين لا يستحقون دولة مستقلة.
4- أن السلطة هي معبر مؤقت باتجاه الاستقلال وإقامة الدولة، ومهما كانت مراوغة الاحتلال، فإن المجتمع الدولي وحتى أميركا، ملتزم بإقامة الدولة الفلسطينية في نهاية المطاف، ولم يستنفد مشروع التسوية أغراضه حتى الآن، بوجود بيئة عربية وإسلامية ودولية تتبناه. ولا يجوز إغلاق الباب أمام هذه الفرصة، التي قد تعني عدم إقامة الدولة الفلسطينية لسنوات عديدة قادمة.
5- أنه حتى لو تم حلّ السلطة، فلا توجد بدائل حقيقية وواقعية مقنعة يتبناها الفلسطينيون، ويمكن أن يتقبلها الواقع العربي والدولي.
6- أن فكرة حلّ السلطة بحاجة إلى توافق وطني فلسطيني، خصوصًا بين ركيزتيه الكبيرتين فتح وحماس، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ليكون قادرًا على تحمل النتائج المترتبة على الحل، وطرح بدائل جديدة، وما لم يحدث التوافق، فإن عملية الحلّ ستظل فكرة عدمية.
7- أن حلّ السلطة سيعني وقف مساعدات الدول المانحة المقدرة بمئات الملايين، ووقف الكثير من المشاريع والأعمال، وفقدان عشرات الآلاف من الموظفين لمصادر رزقهم.
حركة فتح: تعيش السلطة ولكن
لا يزال خط فتح الرسمي يدعم بقاء السلطة، وإن كان العديد من المسؤولين يتحدثون بمرارة عما آلت إليه الأمور. والتصريحات التي تصدر من قيادات السلطة وفتح حول إمكانات حلّ السلطة تدخل في إطار إبداء الانزعاج، أو التهديد أو الضغط السياسي، لكنها لا ترقى إلى تحول حقيقي وواسع في أطر فتح.
وبلا شك فإن هناك حالة إحباط كبيرة في الأوساط القيادية لحركة فتح نتيجة انسداد مسار التسوية السلمية، ونتيجة إلغاء “إسرائيل” عمليًّا للعديد من أدوار السلطة الوطنية، وإبقائها واجهة تعمل في الأطر التي يرتضيها الاحتلال.
وقد نقل خيار حلّ السلطة عن الرئيس عباس، وصائب عريقات، ونبيل شعث، وأبو علاء أحمد قريع، ومحمد اشتية، وجمال محيسن… وغيرهم. ومن جهة أخرى فإن عددًا من القيادات الفتحاوية وقيادات السلطة تؤكد على استبعاد خيار حلّ السلطة، أمثال سلام فياض، ومحمد دحلان، وجبريل الرجوب.
حركة حماس: تسقط السلطة ولكن
حركة حماس عارضت ولا تزال تعارض اتفاق أوسلو، ولم ترحّب أصلاً بإنشاء السلطة، وتابعت العمل المقاوم، لكنها تعاملت بنوع من الواقعية مع السلطة التي هي إحدى مخرجات الاتفاق. ومع أن عددًا من قيادات حماس دعوا إلى إنشاء سلطة مُقاوِمة غير ملتزمة بسقف أوسلو، فإنه لم يصدر موقف رسمي نهائي لحماس يدعو إلى إسقاط أو حلّ السلطة في رام الله.
وطالما أن السلطة أصبحت أمرًا واقعًا، فقد اختارت حماس المشاركة السياسية، لتقوم بتغيير الدور الوظيفي للسلطة بحيث تصبح سندًا للمقاومة، ولتقوم بمحاربة الفساد وخدمة الشعب الفلسطيني.
وقد استفادت حماس من الانتخابات التشريعية كأداة وفرتها السلطة لتأكيد الشرعية الشعبية لتيار المقاومة، بعد أن أكدت شرعيته النضالية من خلال انتفاضة الأقصى. وحاولت أن تدخل في مؤسسات السلطة وتديرها من خلال الحكومتين العاشرة والحادية عشرة، إلا أنها ترفض شروط اللعبة التي حددها اتفاق أوسلو، وترفض الاعتراف بـ”إسرائيل”، كما ترفض وقف المقاومة. وإن سعي حماس للعب وفق شروطها هو الذي أدى للحصار، ومحاولات إسقاط حكومتها، واعتقال نوابها وإغلاق مؤسساتها في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، فإن حماس استخدمت شرعيتها الشعبية وقوتها العسكرية في فرض شروطها، وتجاوز سقف أوسلو والسقف الموضوع للسلطة، مستفيدة من فرصة الانسحاب الإسرائيلي من القطاع. فتشكل نظام لا يقع تحت الحكم العسكري ولا تحت الاحتلال، ولا يعتمد على المنح والمساعدات الأجنبية المغموسة بالشروط السياسية والأمنية، ولا ينسق مع الاحتلال، ويرتب أوضاعه بالتعاون مع القوى الوطنية، ويتبنى خط المقاومة. ومعنى ذلك أن حماس أحدثت انقلابًا في طريقة عمل السلطة، وليس بالضرورة انقلابًا على السلطة، في قطاع غزة.
وترى حماس أن حركة فتح هي التي تسيطر على منظمة التحرير وعلى قيادة السلطة في رام الله، وهي بالتالي المعنية أساسًا بحلّ السلطة. كما ترى أنه لا يمكن حلّ السلطة دون توافق وطني، وبدون هذا التوافق سيحدث صراع داخلي ومزيد من التعقيد للوضع الفلسطيني.
أسئلة برسم الإجابة
سوف تجد كافة القوى الفلسطينية ( وخصوصا فتح وحماس) نفسها إن عاجلاً أو آجلاً مضطرة للإجابة بوضوح عن عدد من الأسئلة المتعلقة بمستقبل السلطة الفلسطينية، من أبرزها:
بالنسبة لفتح والقوى المؤيدة لخط التسوية: إلى أي مدى يمكن الاستمرار في سلطة كهذه، تحقق أغراض الاحتلال أكثر مما تحقق أهداف المشروع الوطني؟
بالنسبة لحماس والقوى المؤيدة لخط المقاومة: إذا ثبت أنه لا يمكن تحقيق برنامج إصلاح وتغيير تحت الاحتلال، ولا يمكن قيادة السلطة في الضفة الغربية دون إيقاف برنامج المقاومة، وإذا ثبت أنه حتى في حالة الفوز في الانتخابات، فإن مسلسل عدم الاعتراف والحصار والاعتقال والإفشال سيتكرر، فهل من المناسب العودة إلى السيناريوهات نفسها المطروحة في أوراق المصالحة، خصوصًا المتعلقة بالانتخابات وإدارة السلطة تحت الاحتلال، أم يجب إعادة النظر في أولويات ترتيب البيت الفلسطيني؟
بالنسبة لكافة القوى الفلسطينية: كيف يمكن تحويل البدائل الأخرى إلى بدائل ناجعة ومحتملة كاللجوء للمقاومة، وتشكيل سلطة مُقاوِمة؟ وإجبار العدو على الانسحاب؟ وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على أرضها؟
أضف ردا