بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أعطت الضربات العسكرية الإسرائيلية القوية التي وجهتها إلى عدد من مواقع النظام السوري يومي 3 و5 مايو/أيار 2013 مؤشراً واضحاً أن الكيان الإسرائيلي يريد أن يكون محدداً رئيسياً في مسار الأحداث في سوريا، ويريد أن يفرض “شروط اللعبة” بما يتوافق مع مصالحه أو على الأقل بما لا يتعارض معها.
يراقب الكيان الإسرائيلي بقلق بالغ الأحداث في سوريا، ويحفل الإعلام الإسرائيلي ومراكز الدراسات بالتصريحات والتحليلات والدراسات والتوقعات من المفكرين والسياسيين والأمنيين والعسكريين والخبراء, غير أن ما يجمعهم هو حالة القلق والارتباك فيما يتعلق بالمستقبل السوري، وعدم وجود مسار واحد مُتوقع يمكن التعامل معه. وعلى حدِّ تعبير بعضهم، فإن الذي يقول إنه يعرف اتجاه الأحداث النهائي هو إما نبيٌّ أو مشعوذ. ولأنه لا يوجد نبي، فهو بالتأكيد مشعوذ!!
الرغبات التي عبَّر عنها بعض القادة الإسرائيليين أمثال الرئيس شمعون بيريز ووزير الدفاع السابق باراك في حصول السوريين على حريتهم وقيام سوريا ديمقراطية، كانت من باب العلاقات العامة والاستهلاك المحلي. إذ إن معظم الإسرائيليين (حسبما يؤكد إيال زيسر، رئيس دائرة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب) لا يهتمون بمشاعر ولا طموحات الشعوب المجاورة أو ديمقراطيتهم أو تحقيق العدالة والرفاهية لهم. إن ما يثير اهتمام الإسرائيليين هو أمنهم، “وهذا ما يفكر فيه الإسرائيلي العادي وبالتالي حكومته”.
استمتع الإسرائيليون نحو أربعين سنة بحدود هادئة مع سوريا، وهناك الآن إجماع إسرائيلي أن سوريا التي عرفها الإسرائيليون طوال تلك الفترة لن تعود. وأيّاً يكن السيناريو المحتمل فإن مخاطر التعامل مع جبهة سوريا ساخنة قد ازدادت. غير أن الإسرائيليين مطمئنون إلى أنه طالما كان السوريون منشغلين في صراعهم الداخلي، فإن “إسرائيل” ستبقى بمنأى عن أية مخاطر حقيقية في المدى المنظور.
الإسرائيليون سعداء بحالة “تدمير الذات” في سوريا، واتخاذ الحرب شكلاً مذهبياً، ويرغبون في البقاء في الظل، طالما أن مسار الأحداث يصب في مصالحهم، ويُبعد الأنظار عن الصراع معهم.
ولذلك كتب أليكس فيشمان، المعلق العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، في 12/6/2013 مقالاً افتتاحياً بعنوان “دعوهم ينتحرون في هدوء”، معبراً عن سعادته بأن العالم العربي يحترق منذ سنتين، وأنه يُفني نفسه دون تدخل خارجي. وبعده بأيام كتب عمير ربابورات المعلق العسكري في صحيفة معاريف أن “العرب نسوا إسرائيل”، وأنهم منشغلون بصراعاتهم.
المصالح الإسرائيلية
تتلخص مصالح “إسرائيل” في أن يتجه مسار الأحداث في سوريا، بما يخدم الجوانب التالية:
1- متابعة تدمير سوريا وثرواتها واقتصادها وبناها التحتية، وإفقار شعبها، وإعادتها عشرات السنوات إلى الوراء.
2- تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، بحيث ترتفع “جدران الدم” بين طوائف السوريين وأعراقهم, سواء أكانوا سنة أم علويين أم دروزاً أم مسيحيين، أم عرباً أم أكراداً. وبحيث يأخذ الصراع الداخلي شكله الطائفي العرقي، الذي يُهدر طاقات السوريين ودماءهم، ويحرم سوريا من الوقوف على رجليها مرة ثانية.
3- انهيار الجيش السوري وتفكيكه واستنزاف إمكاناته، في حرب عبثية يخوض فيها بدماء السوريين أنفسهم. وبالتالي يكون آخر الجيوش العربية التقليدية التي يمكن أن تُشكِّل خطراً محتملاً على الكيان الإسرائيلي، بعد تحييد الجيش المصري إثر معاهدة كامب ديفيد سنة 1978، وبعد حلِّ الجيش العراقي إثر الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003.
4- نشوء نظام سياسي ليبرالي جديد في سوريا، متوافق مع السياسة الأميركية في المنطقة، ومع منظومة “الاعتدال” التي تتبنى مسار التسوية السلمية مع “إسرائيل”.
5- أن يكون النظام السياسي السوري الجديد قوياً بما يكفي لحفظ الحدود مع “إسرائيل”، وضعيفاً بما لا يكفي لعلاج آثار الصراع الداخلي الاجتماعية والاقتصادية؛ بحيث يغرق في العشرين سنة القادمة في مشاكله الداخلية ويتم استهلاكه في وظيفة “رجل الإطفاء” في مواجهة “الحرائق” الداخلية.
6- جرُّ إيران وحزب الله (والشيعة في المنطقة) إلى الحرب الداخلية في سوريا، واستنزافهم فيها، وإنهاكهم عسكرياً واقتصادياً، وتأجيج حرب طائفية سنية شيعية لا تجلب سوى الدمار للجميع، ولا تستفيد منها سوى “إسرائيل” وحلفاؤها.
7- منع جماعات “الإسلام السياسي” والجماعات المعادية لـ”إسرائيل” من الوصول إلى سدَّة الحكم في سوريا. ومنع وصول الأسلحة النوعية أو الأسلحة الكيمياوية إلى أيدي ما تسميه “إسرائيل” وأميركا جماعات “إرهابية متطرفة”.
8- إن لم ينشأ نظام سياسي مقبول إسرائيلياً، فستحبذ “إسرائيل” الدَّفع باتجاه قيام كيانات علوية وسنية ودرزية وكردية، تؤدي إلى تقسيم سوريا وتحويلها إلى دويلات متناحرة.
هندسة سقوط الأسد
ليست “إسرائيل” في عجلة من أمرها في شأن سقوط نظام بشار الأسد. وقد كان موقفها سابقاً ينبع من فكرة تقول: “شيطان تعرفه خير من شيطان لا تعرفه”، وبالتالي لم تكن تميل إلى تغيير النظام “الممانع” في سوريا إلى نظامٍ لا تعرف كيف ستكون درجة عدائه لها. غير أنه عندما فرضت الثورة في سوريا الحقائق على الأرض، أصبحت “إسرائيل” ومعها أميركا تتعامل مع احتمال سقوط النظام بشكل أكثر جدية.
وكان من الواضح أن الطريقة الأميركية (التي تقود المسار الغربي والأوروبي) ومعها “إسرائيل”، تفضل إطالة أمد الصراع في سوريا إلى أطول فترة ممكنة، حتى تحدث أكبر درجة من الاستنزاف لسوريا وإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية، وأكبر درجة من الإنهاك والتمزق الاجتماعي والطائفي للشعب السوري المصابر، بحيث تتوفر في النهاية أفضل ظروف ممكنة لابتزاز القوى السياسية في سوريا، ولفرض الشروط والرؤية الغربية الإسرائيلية عليها.
وعلى هذا الأساس يمكن فهم خلفية رفض الأميركان وحلفائهم لعمل حظر جوي على الطيران السوري الحربي، والذي يستمر في دكِّ معاقل خصومه في الوقت الذي يسقط نتيجة ذلك آلاف السوريين المدنيين.
كما يمكن بناء على ذلك فهمُ حظر الأسلحة على المعارضة السورية إلا بما يكفي لاستمرار الصراع، وفتح المعونات أو تضييقها وفق الأداء الميداني على الأرض، وبما لا يسمح لأي من الطرفين بحسم المعركة.
ويفهم بناء على ذلك أيضاً غضّ الأميركان الطرف عن تسليح إيران وروسيا للنظام السوري ودعمه بما يعينه على الاستمرار في حربه، وربما تحقيق بعض النجاحات، وبشكل يسمح للأميركان بابتزاز مزيد من التنازلات والضمانات من طرف المعارضة السورية.
وبالتالي، فإن ترتيبات ما بعد الأسد تشغل الأميركان وحلفاؤهم، أكثر مما يشغلهم نزيف الدماء وآهات وآلام الشعب السوري. وإذا كان ثمة رغبة في عدم بقاء نظام الأسد، فإن هناك رغبة أشد في أن يصب سقوط النظام في المصلحة الأميركية الإسرائيلية.
سيناريوهات وتوقعات
تتوقع معظم التقديرات الإسرائيلية سقوط نظام الأسد في نهاية المطاف. هناك تقديرات تشير إلى سيناريو سقوط الأسد مع بقاء الدولة دون تفكك، حيث ينشأ نظام ضعيف يتولى الحكم فيه تحالفات غير متجانسة وغير مستقرة من الإسلاميين والعلمانيين الذين يعيشون صراعات حادة، ومنهكون في الملفات الداخلية، وغير قادرين على إدارة الصراع مع “إسرائيل”.
وهناك تقديرات بنجاح جزئي للمعارضة ينتهي بسقوط دمشق في يدها مع استمرار النظام السابق في مناطق تركز العلويين (شمال غرب سوريا). وهو ما يعني عملياً استمرار الصراع الداخلي إلى أمد غير منظور، ودخول إيران على الخط لدعم بقايا النظام، واستمرار حضورها ونفوذها في المنطقة.
وهناك سيناريو الدويلات الطائفية والعرقية، وهو سيناريو محبَّذ إسرائيلياً، لكنه غير مؤكد، لأن شعوب المنطقة عادة ما تتجاوز مخاطر التقسيم، وتعود للوحدة حتى ولو بعد سنوات من القتال.
وهناك سيناريو الفوضى و”الصوملة” وانتشار أمراء الحرب في كل مكان، غير أن “إسرائيل” بقدر ما تكون سعيدة بحالة التفتيت والتشرذم، بقدر ما تشعر بالقلق من انتشار الفوضى في المنطقة باتجاه لبنان والأردن، وبالتالي احتمالات اشتعال حدود هذه البلدان مع الكيان الإسرائيلي. والمهم بالنسبة لـ”إسرائيل” ألا تتسبب حالة الفوضى الناشئة عن التقسيم أو الصوملة في فتح الحدود باتجاه عمليات المقاومة ضدّ “إسرائيل”.
ويبقى سيناريو أن ينجح السوريون في إنشاء دولة متماسكة تجمعها روح وطنية عربية إسلامية، تتمكن من استعادة عافيتها، ودورها الحضاري والنهضوي، وكذلك دورها المستقبلي الرئيس في الصراع مع “إسرائيل”. وهو السيناريو الذي تخشاه “إسرائيل” وتعمل على تجنبه.
إجراءات إسرائيلية على الأرض
سارعت “إسرائيل” إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات على الأرض لضمان أمنها، وللتعامل الفعال مع مسارات الأحداث في سوريا:
1- إقامة جدار/ سياج كهربائي إلكتروني متطور على مسافة سبعين كيلومتراً وعلى طول الحدود مع سوريا؛ وهو جدار “ذكي” مزود بأجهزة كشف متطورة لكل حركة خارجة عن المألوف. ومن المفترض الانتهاء من إقامته في حزيران/ يونيو 2013.
2- استكمال الاستعدادات الإسرائيلية لأي حرب محتملة مع سوريا، وعمل التدريبات والمناورات اللازمة، بما في ذلك احتمال استخدام السوريين لأسلحة كيمياوية. مع ملاحظة أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بني جانتس يرى أن احتمالات هجوم سوري بأسلحة كيمياوية ضئيلة جداً، كما أن هناك حلولاً إسرائيلية دفاعية وهجومية لهذا الاحتمال.
3- إقامة منظومة رقابة جوية إسرائيلية (بالتنسيق مع أميركا) تراقب السلاح السوري، خصوصاً النوعي والكيمياوي، للتعامل معه لحظة خروجه من المخازن وتوجيه ضربات استباقية له ولمن يحاول نقله.
4- دراسة احتمال إقامة منطقة عازلة في سوريا من جهة الجولان، حيث وضع هذا الاحتمال بشكل جاد على طاولة صانع القرار الإسرائيلي، حسبما نقلت القناة الأولى الرسمية في التلفزيون الإسرائيلي في 29/3/2013 عن مصادر سياسية وأمنية رفيعة المستوى.
5- تفعيل النشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في الداخل السوري.
6- التنسيق مع الأردن: إذ تحدثت صحف إسرائيلية (يديعوت أحرونوت وهآرتس) كما نقلت ذلك جريدة القدس العربي في 27/12/2012 و23/4/2013، عن أن عدة لقاءات قد جرت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وملك الأردن بهدف تنسيق مواقف البلدين تجاه سوريا.
7- تفعيل العلاقات مع تركيا، حيث قام نتنياهو (بعد طول رفض) بتقديم اعتذار رسمي لتركيا عن حادثة مقتل الأتراك في سفينة كسر الحصار (مافي مرمرة) وذلك لتعزيز التنسيق مع تركيا بشأن الأوضاع في سوريا، حسبما أشار نتنياهو نفسه (الجزيرة نت، 24/3/2013).
“إسرائيل” تريد.. والشعب يريد
ليس كلّ ما تريده “إسرائيل” أو تعمل لأجله مع حليفتها الولايات المتحدة سيتحقّق، وهو ما ينطبق أيضاً على روسيا وإيران وتركيا وغيرها. إذ إن جوهر الموضوع في الشأن السوري هو الشعب السوري نفسه، وهو ما تحاول قوى عديدة تجنبه أو القفز عنه والتعامل مع الشعب وكأنه ليس موجوداً.
إن الاستخفاف بالروح الوطنية والروح الإسلامية للشعب السوري، وفي حقه في أن يقرر بنفسه وبإرادته الحرة مصيره ونظام الحكم الذي يريد، يؤدي بالعديد من القوى الخارجية (ومنها “إسرائيل”) إلى الوقوع في حسابات خاطئة. كما تنطبق الحسابات الخاطئة على أولئك الذين يحاولون تبسيط الثورة أو تشويهها من خلال تعريفها على أنها مؤامرة خارجية، أو مجرد جماعات إرهابية.
قد تُحدث الطبيعة الانتقالية لأي حالة ثورية في أيّ بلد تفككاً أو ضعفاً في الدولة المركزية ومؤسساتها، وقد ينفخ البعض في المخاوف والعصبيات الطائفية والعرقية. ولكن ذلك لا يعني أن الشعب السوري غير قادر في نهاية المطاف على التعامل مع هكذا تحديات.
بلا شكّ فإن التحديات التي تواجهها سوريا هائلة، غير أن الشعب السوري قادر بإذن الله على أن يقدم نموذجاً حضارياً مستوعباً لكافة مكوناته، وقادرا على قطع الطريق على التدخل الإسرائيلي الأميركي في شؤونه الداخلية وفي مستقبله. غير أنه من الواجب على القيادات السورية الارتقاء إلى مستوى تطلعات وتضحيات الشعب السوري. وعند ذلك لن تستطيع إرادة “إسرائيل” وحلفاؤها الوقوف أمام إرادة الشعب السوري.
أضف ردا