العالم العربي والقضية الفلسطينية … كلمة د. محسن محمد صالح، في ندوة قضية فلسطين ومستقبل السلام، في منتدى الجزيرة التاسع، الدوحة، قطر، 5 أيار/ مايو 2015
أود أن أطرح ثمانية نقاط في محاولة تشكيل الصورة المتعلقة بالعالم العربي والقضية الفلسطينية في ضوء الثورات والتغيرات التي ما زلنا نعيشها، والتي ما زالت أحداثها تتدحرج ولم تصل شكلها النهائي حتى الآن.
النقطة الأولى متعلقة بالارتباط البنيوي والجوهري والحيوي بين قضية فلسطين والعالم العربي. ففلسطين جزء من الوطن العربي والعالم الإسلامي؛ وهناك ارتباط راسخ ديني وقوي وثقافي وحضاري وجيو-استراتيجي بين شعبها وبين أمتهم العربية والإسلامية. وبالتالي هناك ارتباط قوي بين أزمة الأنظمة العربية وبين مأساة فلسطين؛ وهناك ارتباط حاسم بين البيئة الاستراتيجية العربية المحيطة بفلسطين وبين الوضع الفلسطيني. وباختصار، فلو كانت هناك بيئة صحية عربية قوية، لما وُجد الكيان الصهيوني أصلاً.
النقطة الثانية هي أن خطورة المشروع الصهيوني لا تقتصر على فلسطين وحدها، ولكنها تهديد خطير للمنطقة العربية، خصوصاً تلك البلدان المحيطة بفلسطين. ولأن البيئة العربية الإسلامية التي يعيش المشروع الصهيوني في وسطها هي بيئة معادية له، فإن المشروع الصهيوني سعى إلى إبقاء هذه المنطقة ضعيفة ومفككة ومقسمة ومتخلفة، لأن أي حالة وحدوية ونهضوية في المنطقة قد تشكل تهديداً وجودياً ومصيرياً لهذا المشروع. وهذا سرُّ التصريحات التي وردت على ألسنة العديد من القيادات الإسرائيلية باعتبار الثورات إن نجحت تهديداً وجودياً للكيان الإسرائيلي. وعلى ذلك، يسعى الكيان الإسرائيلي إلى ضمان بقائه ومصالحه بكافة الطرق وأدوات الضغط على العالم العربي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وعسكرياً… وغيرها.
النقطة الثالثة أن عدداً من الأنظمة العربية التي جاءت بانقلابات عسكرية خصوصاً في خمسينيات القرن العشرين، أقامت جانباً رئيسياً من شرعيتها على أساس تحرير فلسطين. لكنها انشغلت عملياً بتثبيت سلطاتها من خلال أنظمة شمولية وديكتاتوريات قمعية وأمنية… أنتجت فساداً سياسياً وفشلاً اقتصادياً وهزائم مع العدو الإسرائيلي. غير أن أحد أهم نتائجها أنها بسبب سلوكها الأمني زرعت الخوف والضعف ورجل المخابرات في قلب الإنسان العربي… فقتلت إنسانية هذا الإنسان… قتلت كرامته وعزته. ولذلك أصبحنا بحاجة لتحرير هذا الإنسان أولاً حتى نتمكن من تحرير الأرض المحتلة. ولعل من أبرز منجزات الثورات والتغيير في المنطقة العربية أن هذا الإنسان كسر حاجز الخوف، وبدأ يسترد عزته وكرامته.
النقطة الرابعة أن مشروع تحرير فلسطين، لا يمكن أن يكون فلسطينياً فقط، إذ لا بد أن تتسع دائرة المسؤولية لتشمل الدائرة العربية والإسلامية. والمشروع الصهيوني هو مشروع عالمي مدعوم بقوى دولية، ولا تقوى أقدام الشعب الفلسطيني على تحمل أعباء مواجهته لوحدها. وإذا كنا أمام داخل فلسطيني محتل أو محاصر، وبيئة عربية محيطة مانعة أو معادية لبرامج المقاومة، أو عاجزة وضعيفة ومتوافقة مع الهيمنة الأمريكية في المنطقة…، فإن هذا العجز العربي قد أضعف الحالة الفلسطينية وأضعف قدرتها على مواجهة المشروع الصهيوني. وحتى الأداء البطولي للشعب الفلسطيني في انتفاضاته المتكررة، وصمود وإنجازات المقاومة في الحروب الثلاث التي شنها العدو الإسرائيلي على غزة في السنوات الست الماضية، لم تجد حاضنة رسمية عربية حقيقية تستثمرها وتبني عليها؛ بل وجدت للأسف من يتآمر عليها، ويشارك في حصار غزة وخنقها، ويتآمر على المقاومة بحجة مواجهة “الإسلام السياسي”… وغير ذلك.
النقطة الخامسة أن الشرعية الرسمية الفلسطينية ارتبطت تاريخياً إلى حد كبير بالشرعية الرسمية العربية وكانت مدخلها إلى الشرعية الدولية. فالنظام العربي الرسمي ( والدور المصري هنا هو دور مركزي) هو الذي أضعف الهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني، ونزع شرعيته مع الزمن لصالح إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وإعطاء قيادتها لأحمد الشقيري. وهو الذي أعطى الغطاء لنزع شرعية الشقيري لصالح تولي حركة فتح قيادة المنظمة. ولأن البيئة العربية الرسمية هي بشكل عام بيئة علمانية، وتخضع بدرجة كبيرة للنفوذ والهيمنة الغربية، فإن النظام الرسمي العربي ظل معادياً أو غير قابل بتيارات “الإسلام السياسي”. وقد شكَّل ذلك عائقاً أمام تطوير حالة ديموقراطية صحيحة في الوضع الفلسطيني. فلم ترحب الأنظمة الرسمية بفوز حماس في الانتخابات، ولم تتعامل معها كممثل لتطلعات الشعب الفلسطيني. وتعاملت مع “شرعية” رئاسة السلطة، ولكنها لم تتعامل مع “شرعية” المجلس التشريعي الفلسطيني. ووافقت على “شرعية” الحكومة التي تعينها الرئاسة في رام الله، حتى لو لم تحز على الشرعية من المجلس التشريعي بحسب القانون. ورفضت التعامل مع “شرعية” حكومة إسماعيل هنية، بالرغم من أنها تحوز على الشرعية من المجلس التشريعي بسهولة. وتوافَق النظام السياسي العربي مع شرعيات منقوصة كأن تكون غير منتخبة، أو طال عليها الأمد دونما تجديد، أو أنها لم تعد تمثل الواقع الشعبي الفلسطيني الحقيقي كما في المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي… حيث يحتكر صناعة القرار الفلسطيني فصيل أساسي واحد ( حركة فتح) بينما تغيب عنهما فصائل فلسطينية مؤثرة وواسعة الانتشار كحماس والجهاد الإسلامي. وبالتالي فإن “الشرعنة” السياسية الرسمية العربية ألقت بظلالها على البيئة والبنية السياسية الفلسطينية… وأسهمت في تغليب طرف على آخر… وشجعت طرفاً على التمسك بنفوذه ومواقفه… وهو ما أسهم في تكريس حالة الانقسام بدلاً من علاجها.
النقطة السادسة أن النظام السياسي الفلسطيني هو نظام سياسي هشّ يعاني من أزمات وإشكالات بنيوية. فهذا النظام لا يملك أرضاً يحكمها حكماً يفرض فيه سيادته بشكل كامل وطبيعي. وجوهر الأزمة هنا ناتج عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه بحق الأرض والإنسان. ففلسطين التاريخية أرض محتلة، والسلطة الفلسطينية في رام الله تحولت إلى سلطة وظيفية، تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما تخدم مشروع إنشاء الدولة الفلسطينية.
وفي الوقت نفسه فإن منظمة التحرير فقدت معظم دورها وحيويتها، وتقزمت بشكل كبير لتصبح أقرب إلى دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية؛ وترهلت أو اختفت معظم مؤسساتها ودوائرها؛ وغابت عن الشعب الفلسطيني في الخارج.
ومن جهة أخرى، فإن أزمة النظام السياسي الفلسطيني عبَّرت عن نفسها من خلال انقسامات واستقطابات حادة، فظهرت إشكاليات حتى في تعريف الثوابت (كتعريف أرض فلسطين، ومسألة الاعتراف بالكيان الإسرائيلي…)، وظهرت إشكالات مرتبطة بتحديد البرنامج الوطني، وأولويات المشروع الوطني، وتبني أيٍّ من مسارات التسوية أو المقاومة، وقدرة منظمة التحرير على تمثيل الكل الفلسطيني؛ بالإضافة إلى وجود أزمة ثقة خصوصاً بين حركتي فتح حماس… عكست تأثيراتها على تعطيل مسار المصالحة، وعلى بناء المؤسسات الوطنية وتفعيلها.
وقد أسهمت هشاشة هذا النظام السياسي في تسهيل التدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني، وفي استقواء بعض الأطراف الفلسطينية بقوى خارجية. وبالإضافة إلى التدخل الإسرائيلي والأمريكي والغربي، واستخدام سلاح المنح والمساعدات في توجيه سياسات السلطة الفلسطينية؛ فإن الجانب العربي (في ضوء حاجة الطرف الفلسطيني للحماية والدعم والشرعنة) مارس أدواراً مختلفة في شرعنة طرف دون طرف، وفي دعم مسارات التسوية السلمية ومؤيديها، ولَجْم خط المقاومة، وفي تقديم المساعدات المادية لجهات معينة، وفي حصار أطراف أخرى. وعادة ما كان لمصر دور أساس في تحديد السياسة العربية تجاه القضية الفلسطينية.
النقطة السابعة أن البيئة الاستراتيجية العربية المحيطة بفلسطين ما زالت في حالة من الغليان والسيولة، وما زالت أوضاع المنطقة تخضع لحراك ثوري واسع يقابلها سعي الأنظمة لتثبيت نفسها وقمع الاتجاهات الثورية ويترافق معها تدخلات خارجية لمحاولة توجيه الأحداث لمصالحها.
في هذه الأيام نحن أمام سيناريوهات محتملة:
أحدها أن تنجح الأنظمة الفاسدة والمستبدة في البقاء أو العودة بالأوضاع إلى ما قبل الثورات العربية، مع ملاحظة أن هذا السيناريو لا ينجح إلا بإعطاء إيران جزءاً من “الكعكة”، مع محاولة لإغلاق الملف الفلسطيني، حتى لا يبقى عنصر تفجير للأوضاع في المنطقة.
وثانيها أن يحدث مزيد من التفتت والانقسام في المنطقة على أسس طائفية وعرقية، فتنشأ دويلات جديدة متناحرة تستمد جانباً أساسياً من وجودها واستمرارها من القوى الخارجية، بينما يتسيَّد الطرف الإسرائيلي المشهد كشرطي للمنطقة؛ في الوقت الذي يجري فيه الاستفراد بفلسطين وشعبها.
وثالثها أن تجري تفاهمات بين أطراف الصراع في المنطقة تؤدي إلى تسويات وحلول مشتركة، وتفرض عودة هادئة للإسلام السياسي، ليقوم بشراكة محسوبة في النظام السياسي العربي.
ورابعها أن تحدث موجة ثورية ثانية تستفيد من أخطاء الموجة الأولى، وتنشئ شرعيات جديدة تعبر عن إرادة شعوب المنطقة في النهضة والوحدة والتحرير؛ وهو ما قد يشكل مخاطر حقيقية على المشروع الصهيوني.
وأياً يكن السيناريو المرجح (حيث لا مجال هنا لمناقشة السيناريوهات) فإن قضية فلسطين ستتأثر بشكل كبير بنتائجه. غير أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الإنسان في هذه المنطقة قد تغيّر، ويكاد يستحيل إعادته إلى قمقم تتحكم فيه الديكتاتوريات؛ كما أن “القدسيات” القطرية وهيبة الأنظمة المركزية قد كُسرت… وبقدر ما يفتح ذلك مخاطر التفتيت والانقسام… بقدر ما يفتح أيضاً الفرصة أمام مشاريع وحدوية ونهضوية جديدة… ويوجد شقوقاً في النظام العربي الذي كان معنياً بهدوء حدوده مع الكيان الإسرائيلي.
النقطة الثامنة والأخيرة: أنه لا يمكن إغلاق ملف “الربيع العربي” وقمع الثورات، إلا بإغلاق الملف الفلسطيني المقاوم وتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي. إذ سيظل اشتعال الوضع الفلسطيني… والنموذج الفلسطيني البطولي المقاوم… عنصر تفجير… يُحرّك الشعوب… ويكشف العدو الحقيقي للأمة… كما يكشف عورات الأنظمة العربية ويفضح تقصيرها… حيث ستُحمِّلها الجماهير مسؤولية استفراد الصهاينة بفلسطين، وتهويد أرضها ومقدساتها، ومحاولات تركيع شعبها.
وبشكل عام، فإن الملف الفلسطيني غير قابل للإغلاق، فالمشروع الصهيوني قائم على العدوان والظلم والقهر، ويعيش في بيئة معادية، وروح المقاومة ما تزال قوية فلسطينياً وعربياً وإسلامياً؛ وحالة الضعف العربي والإسلامي لن تستمر إلى ما لا نهاية. كما أن جنوح المجتمع الصهيوني وقيادته الحالية نحو مزيد من التطرف، قد ألغى أي مشاريع محتملة لتسوية سلمية… وهو ما سيبقي عناصر التفجير مستمرة.
وفي الخلاصة فإن فلسطين ستبقى الرافعة في المنطقة العربية والإسلامية فمن يتبناها بصدق ترفعه… ومن يتآمر عليها تكشفه وتسقطه وسط شعبه وأمته. وفلسطين ستبقى البوصلة حيث ستبقى القضية المركزية للأمة، توجّه الطاقة والجهد نحو العدو الحقيقي والمشترك، ومن خلالها يتم تجاوز الخلافات الحزبية والطائفية والعرقية ليجتمع الناس على قضية يؤمن الجميع بعدالتها وقدسيتها.
أضف ردا