بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لعل ظلماً كبيراً لحق بالوثيقة السياسية التي أطلقتها حركة حماس في مطلع مايو/أيار 2017، بسبب نظرة كثير من الجهات والكتّاب والإعلاميين والسياسيين إليها عبر جملة نُزعت من سياقها في المادة 20 من هذه الوثيقة، أو من خلال محاولات التبسيط وتشويه الوعي، التي قامت بها جهات على خصومة مع حماس وفكرها؛ فقامت بقراءات مُجتزأة كمن يحاول تعريف الحصان بحوافره أو ذيله، أو تعريف الصاروخ والطائرة بأنها مجرد ”قطعة حديد“!!
وحتى لا نضيع في دوامة النقاشات والتفصيلات، فإننا سنحاول -من خلال هذا المقال- تسليط الضوء على عدد من النقاط المهمة للوصول إلى فهم أفضل للوثيقة:
أولاً: لماذا الوثيقة؟! وفق القراءة الموضوعية المتخصصة، ومتابعات كاتب هذه السطور، فقد كانت ثمة ثلاثة أسباب تدفع باتجاه إعداد الوثيقة ونشرها:
أولها أن العديد من الأطر القيادية لحماس كانت لديها ملاحظات قديمة على الميثاق الذي صدر سنة 1988، وكانت تريد إدخال تعديلات عليه.
وثانيها أن حماس واجهت عشرات القضايا والمستجدات طوال السنوات الثلاثين الماضية كانت مثار نقاش في أطرها، وقدمت عليها إجابات سياسية من قياداتها في بيئات وظروف مختلفة، فأصبحت ثمة ضرورة للملمة الصورة وتوحيد الرؤية، وضبط اللغة السياسية وتحديد المعايير والأولويات خصوصاً لدى كوادرها ومؤيديها، وبالتالي فقد كانت البنية الداخلية والداعمة سبباً أساسياً لصدور الوثيقة.
وثالثها الحاجة إلى وضع النقاط على الحروف، ومواجهة آلات الدعاية والإعلام، والتعامل مع الفيض الهائل من الكتابات والتصريحات والدراسات التي أخذت ”تُنظِّر“ بالنيابة عن حماس فيما يتعلق بتطور فكرها السياسي ومواقفها، مستغلة حالة شبه ”الفراغ” الناتج عن عدم صدور أدبيات رسمية معتمدة عن الحركة منذ صدور ميثاقها سنة 1988؛ فكان لا بدّ من وثيقة تتحدث فيها حماس عن نفسها بنفسها.
ثانياً: التوقيت: تبدو إشكالية التوقيت إشكالية مزمنة في مثل حالة حماس عندما تريد التعامل مع قضية مفصلية كميثاقها أو وثيقتها. فتطورات الشأن الفلسطيني ومتعلقاته الداخلية والعربية والإسلامية والدولية والإسرائيلية كثيرة ومتسارعة لا تهدأ ولا تتوقف، وأيُما إصدارٍ لهذه الوثيقة لا بدّ مِن أن يجد مَن يربطه بهذا الحدث أو ذاك.
ويبدو أن ذلك كان أحد أسباب التأجيل المتكرر من قبل قيادة حماس لعملية تعديل الميثاق، أو إصدار وثيقة حتى بعد أن أصبح الأمر يُطرح بشكل متزايد في أطرها الداخلية، خصوصاً بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية وتوليها قيادة الحكومة سنة 2006.
والمراجعة التاريخية لموضوع الملاحظات وإشكالية التوقيت تعيدنا إلى سنة 1988 نفسها عندما كانت ثمة ملاحظات لقيادات في الخارج على النص، غير أنها قررت المضي في تبنيه وطباعته وتوزيعه.
حيث إن بيئة الانتفاضة الأولى والتفاعل الشعبي الهائل معها، وحالة الصعود والمطاردة وصعوبة التواصل التي تعيشها حماس في الداخل، لم تكن تسمح بعمل مراجعات هادئة لعدد من النصوص لتحسينها وتعديلها؛ بالإضافة إلى أنه لم تكن قد ظهرت ملاحظات جوهرية على نص الميثاق كالتي ظهرت بعد سنوات طويلة من الممارسة.
والذي لا يعرفه كثيرون، أن القيادة التنفيذية لحماس في الداخل (الضفة والقطاع) هي التي أعدت الميثاق وأقرته، ثم اعتمد لاحقاً من قيادتهم التنفيذية في الخارج. أما مجلس الشورى الخاص بحماس فقد تشكل سنة 1991، ولم يوضع إقرار أو تعديل ميثاق حماس على جدول أعماله أو مهامه إطلاقاً.
من ناحية ثانية، فإن حماس لم تقدّم مبادرة سياسية حتى يتم تحليل سياقها الزمني والموضوعي، وإنما وثيقة مبادئ وسياسات تم إعدادها بهدوء، ومرّ إعدادها ببيئات سياسية وإقليمية ودولية مختلفة، وهو ما أفقد موضوع التوقيت قيمته إلى حدٍّ كبير؛ وإن كان من حق قيادة حماس أن تتوخى أنسب الأوقات لإصدارها.
والواضح أن أهمية إصدار الوثيقة أخذت تتغلب على مراعاة التوقيت؛ حيث لم يعد ثمة مجال للتأجيل بعد استكمال إعدادها وإقرارها من كافة الأطر القيادية والشورية في الحركة، ومشارفة الولاية الزمنية للقيادة التي رعت إصدار الوثيقة على الانتهاء.
وعلى سبيل المثال، فإن قرار قيادة حماس بإعداد الوثيقة يعود إلى أواخر مايو/أيار 2013 كأحد أبرز أولوياتها كقيادة جديدة منتخبة، وكان ذلك قبل الانقلاب العسكري في مصر، وقبل تصاعد الهجمة المرتدة على تيارات ”الإسلام السياسي“، وعلى حراك الشعوب في المنطقة العربية.
ثالثاً: بين الميثاق والوثيقة: من الظلم الحط من قدر ميثاق حماس الصادر سنة 1988 بالنظر إليه من خلال بعض الثغرات التي وُجدت فيه، ودون إدراك للظروف التي تمت كتابته وإقراره فيها.
فيُحسب للميثاق تأكيده -الذي لا يحتمل اللبس- على الثوابت في بيئة رسمية فلسطينية تقودها حركة فتح، بدت مستعدة للتنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948 ولحل الدولتين والاعتراف بـ”إسرائيل“.
ويُحسب له تأكيده على الهوية الإسلامية والهوية الفلسطينية للحركة، وتُحسب له روحه الوطنية وانفتاحه على منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية. ويُحسب له أن قامة إسلامية وطنية ورمزاً قيادياً في حماس قام بكتابة مسودته هو الأستاذ عبد الفتاح دخان؛ وجرى اعتماده من قيادات ورموز مؤسِّسة لحماس في الداخل.
عالجت الوثيقة ثغرات في الميثاق كان أبرزها ما يتعلق باليهود، حيث كان ثمة لبس بين اليهود كأتباع ديانة وأهل كتاب، وبين اليهود الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين. وهي ثغرة غير مقصودة باعتبار أن الثقافة الشعبية التي كانت سائدة في العالم العربي والإسلامي تستخدم لغة مبسطة في استخدام المصطلح وتعميمه.
غير أن الجانب الإسرائيلي استغل هذه الثغرة لاتهام حماس بـ”اللاسامية“ وتشويه صورتها في كل مكان. ولذلك أكدت الوثيقة أن حماس لا تحارب اليهود لكونهم يهوداً أو بسبب ديانتهم، وإنما تحارب المشروع الصهيوني والصهاينة المعتدين المحتلين لفلسطين. كما عالجت الوثيقة الجوانب المرتبطة بالصياغة السياسية والقانونية، فقدمت صياغة محترفة متماسكة؛ وتجنبت التوضيحات والشروح التي أسهب فيها الميثاق.
رابعاً: احترام المؤسسية: رغم الظروف السياسية والميدانية القاسية التي مرت بها حماس في السنوات الأربع الماضية، ومحاولات إسقاطها وإفشالها في قطاع غزة، ومحاولات مطاردتها واجتثاثها في الضفة الغربية، ومعاناتها الصعبة في بيئة إقليمية مضطربة؛ فإنه يُحسب لحماس أنها قدمت وثيقة سياسية ناضجة طبختها على نار هادئة، وفي أجواء تحترم العمل المؤسسي وتلتزم بمخرجاته.
فقد حظيت الوثيقة بنقاش واسع ومعمق في كل أطرها المعنية في الداخل والخارج، وأقيمت لها ورش عمل في بلدان عديدة، وقامت الجهات المختصة بإدخال التعديلات والتحسينات على النصوص في عدة مسودات وقراءات، إلى أن تم اعتمادها نهائياً في قيادة الحركة التنفيذية، ثم في مجلس شوراها العام أواخر ديسمبر/كانون الأول 2016. وتُرك بعد ذلك للقيادة صلاحية وضع بعض الرتوش وتحديد توقيت إطلاق الوثيقة.
خامساً: أبرز المعالم والمزايا: يمكن أن نختصر أبرز معالم ومزايا الوثيقة فيما يلي:
1- اللغة السياسية والقانونية المحترفة والمعاصرة، التي تخاطب الأنظمة والمجتمعات العربية والدولية باللغة التي يفهمونها.
2- الصلابة والوضوح فيما يتعلق بالثوابت، وتأكيدها عليها في مواضع عديدة بشكل لا يحتمل اللبس.
3- اللغة السياسية المرنة المنفتحة على الواقع، والتي تؤكد على المشترك مع الآخرين دونما إخلال بالثوابت.
4- الروح الإسلامية الوسطية المتسامحة المعتدلة، البعيدة عن الغلو والتطرف والتعصب؛ والتي تؤكد على القيم الإنسانية المشتركة في الحرية والعدالة ورفض الظلم والعدوان.
5- الشمول: حيث غطت الوثيقة كافة الخطوط الأساسية بشكل متوازن في 11 عنواناً، شملت تعريفها لنفسها، ولأرض فلسطين وشعبها، ولرؤيتها الإسلامية لفلسطين، وللقدس، وغطت موضوع اللاجئين وحق العودة، والمشروع الصهيوني، والموقف من الاحتلال ومن التسوية السياسية، وحددت رؤيتها للمقاومة ومشروع التحرير وللنظام السياسي الفلسطيني، كما تحدثت عن الأبعاد العربية والإسلامية والدولية والإنسانية.
سادساً: قبول حماس بدولة فلسطينية: لعل البند 20 الذي يشير جزء منه إلى إمكانية القبول بدولة فلسطينية على خطوط 4 يونيو/حزيران 1967 هو أكثر الجوانب التي أثارت النقاش وشغلت الرأي العام، وكأنه مبادرة جديدة أو تنازل من حماس؛ بل إن قيادات فتحاوية ادعت أن ”حماس احتاجت 30 سنة لتخرج علينا بذات مواقفنا“؛ وهو الموقف الذي أخذته فتح والفصائل الفلسطينية في المجلس الوطني الـ19 سنة 1988. والحقيقة أن هذا الاجتزاء والتبسيط غير صحيح، لما يلي:
1- يأتي نص الدولة في سياق نص حاسم يرفض التنازل عن أي جزء من فلسطين مهما كانت الأسباب. والنص نثبته هنا لمن لم يطلع عليه: ”لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك -وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة“.
2- هذا النص مرتبط بقضية جوهرية كانت ولا تزال مثار النقاش في الساحة الفلسطينية طوال السنوات العشر الماضية، وكانت حماس مطالبة بالإجابة عنها في كل حواراتها مع فتح والقوى الفلسطينية لبناء قاعدة التقاء وتقاطع مشترك، لتجاوز الانقسام الفلسطيني والعمل المشترك في الأطر الفلسطينية كمنظمة التحرير والسلطة.
كما أن أطرافاً عربية وإسلامية ودولية كانت تريد معرفة موقف حماس من هذه القضية، فضلا عن كوادر ومؤيدي حماس الذين كانوا يريدون إجابة لا لبس فيها. ولأن حماس فصيل أساسي فاعل لا يمكن صناعة قرار فلسطيني حقيقي دون مشاركته؛ كان لا بد من وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة.
فقد ثبّتت حماس هنا حرصها على الشراكة والتوافق وإنهاء الانقسام، وأنها ليست عقبة في طريق إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة على خطوط الرابع من يونيو/حزيران؛ غير أن هذه الصيغة لا تملي على حماس أي التزامات تجاه العدو كالاعتراف بـ”إسرائيل“ أو التنازل عن أي جزء من فلسطين، وهي النصوص الحاكمة التي سبقت النص على موضوع الدولة.
3- ليس صحيحاً على الإطلاق أن ما وافقت عليه حماس هو البرنامج نفسه الذي وافقت عليه فتح والفصائل سنة 1988. ففي ذلك المجلس وافقت فتح وفصائل المنظمة على فكرة التنازل عن فلسطين المحتلة سنة 1948 (أي 77% من أرض فلسطين)، واستعدت لمسار تسوية سلمية يعترف بـ”إسرائيل” ويوقف المقاومة المسلحة، كما اعترفت بقرار مجلس الأمن 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين.
4- حتى هذا البرنامج لم تلتزم به فتح في اتفاق أوسلو 1993 فاعترفت بـ”إسرائيل“، وتنازلت عن فلسطين المحتلة 1948، ونبذت المقاومة، مقابل حكم ذاتي في الضفة والقطاع.
وليس فيه أي التزام إسرائيلي بالانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران، ولا بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدودها، ولا بالانسحاب من القدس، ولا بعودة اللاجئين، ولا بالانسحاب من المستوطنات، ولا حتى بالسيطرة على الحدود والمياه.
ثم قامت فتح -التي تقود منظمة التحرير- سنة 1996 بإلغاء كل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع التزاماتها تجاه العدو الإسرائيلي.
5- لو قبلت حماس بما قبلت به فتح من تنازلات لفُتحت لها كل الأبواب بعد فوزها في انتخابات 2006، ولكانت الآن في قيادة المنظمة، وفي قيادة السلطة بالضفة الغربية وقطاع غزة، ولما تعرضت لشروط الرباعية.
ولما تعرضت للحصار الخانق في قطاع غزة، ولما خاضت ثلاث حروب كبيرة مع الكيان الإسرائيلي في السنوات العشر الماضية، ولما تعرضت قواها المقاومة وكوادرها للمطاردة والملاحقة في الضفة الغربية، ولانفتحت أمامها البيئة العربية المحسوبة على ما يُسمى ”محور الاعتدال“، ولانفتحت أمامها البيئة الدولية التي لا تزال تصنفها حركة إرهابية.
6- فكرة القبول بدولة فلسطين الكاملة السيادة على خطوط 1967 مقابل هدنة هي فكرة طرحتها قيادات حماس منذ أكثر من 25 سنة، ولا جديد في نص الوثيقة. مع الإشارة إلى أن الوثيقة أشارت إلى ”خطوط“ وليس إلى ”حدود“ 1967، مما يعني أنها خطوط هدنة وليست حدوداً دائمة.
سابعاً: العلاقة بالإخوان المسلمين: لم تشر الوثيقة إلى انتماء حماس إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهذا صحيح. لكن ذلك لم يَعنِ انفصالاً عن جماعة الإخوان أو تبرؤاً منها. فهذا مما سكتت عنه الوثيقة، كما سكتت عن نقاط أخرى مثل تحديد ما إن كانت الوثيقة تحل مكان ميثاق 1988 أو تلغيه.
وهذا السكوت لا ينفي صلة حماس بالإخوان، وحماس أكدت أنها ما زالت تنتمي إلى نفس الفكر والمدرسة والمنهج، غير أن شكل العلاقة -على ما يبدو- أقرب إلى التعاون والتنسيق منه إلى التبعية التنظيمية المباشرة، وهو ما لم ترغب حماس في الانشغال بشروحه والجدل حوله.
أما الخشية من التضييق عليها بسبب الصلة بالإخوان؛ فإن حماس لديها من أسباب التضييق عليها ما هو أكبر؛ إذ إنها أقوى عمل مسلح مقاوم ضدّ المشروع الصهيوني، وهي مصنفة إرهابية لدى الغرب، الذي لا تصنف معظم دوله الإخوان جماعة إرهابية.
وأخيراً، لا يمكن لهذا المقال أن يناقش كل النقاط التي أثيرت حول الوثيقة، كما أن الوثيقة نفسها -كأي جهد بشري- عرضة للقصور والنقص والخطأ؛ غير أن ما هو مهم هو أن حماس حافظت على الهوية والثوابت والبوصلة، والتوازن والاعتدال والانفتاح، في بيئة قلقة وأجواء عاصفة.
أضف ردا