مدة القراءة: 5 دقائق

 إعداد: أ. د. وليد عبد الحي.
(خاص بمركز الزيتونة).

مقدمة:

أسهم الإرث التاريخي للعلاقة الإسرائيلية/ الجنوب إفريقية في التأسيس لعلاقات ملتبسة بين الطرفين في الوقت الحاضر، فقد انقسم الموقف السياسي في جنوب إفريقيا في المراحل الأولى بين نظام سياسي ينتهج سياسة التمييز العنصري ويرى في “إسرائيل” سنداً له منذ 1948 إلى 1994، وتطوَّرت هذه العلاقة بشكل متسارع خلال الفترة بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967 ولغاية 1987، عندما بدأ التحول الدولي باتجاه محاصرة النظام العنصري في جنوب إفريقيا، ففي هذين العقدين تطورت العلاقات الإسرائيلية مع جنوب إفريقيا بنظامها العنصري في كافة المجالات بما فيها التعاون في المشروع النووي الإسرائيلي.



للاطلاع على ملف ”الإضاءات السياسية“ بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>>   إضاءات سياسية (12): موقف جنوب إفريقيا وتداعيات طوفان الأقصى (4 صفحات، 463 KB)


ومع انهيار نظام الفصل العنصري، وانتصار القوى الوطنية بقيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي African National Congress سنة 1994، بدأ التباين بين الطرفين دون أن يصل الأمر إلى حدّ إلغاء اعتراف جنوب إفريقيا بـ”إسرائيل” “كدولة”، وكان لـ”إسرائيل” سفارة في بريتوريا ومكتب تجاري في جوهانسبرغ مقابل سفارة لجنوب إفريقيا في تل أبيب، وجرت زيارات متبادلة بين مسؤولي الطرفين، بل إن الرئيس الجنوب إفريقي الأول نيلسون مانديلا Nelson Mandela زار “إسرائيل” سنة 1999، لكنه أيضاً استقبل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في جنوب إفريقيا قبل ذلك بعام.

طبيعة العلاقة الحالية:

ذلك يعني أن العلاقة الإسرائيلية الجنوب إفريقية هي علاقة تقوم على قاعدة حقّ الاعتراف للفلسطينيين بدولة في الأراضي المحتلة سنة 1967، دون إلغاء الاعتراف بـ”إسرائيل” على الرغم من كافة التشنجات التي تصيب العلاقة معها بين حين وآخر كما جرى في مناسبات عدة مثل: استدعاء السفير الجنوب إفريقي لبلاده سنة 2010، والسماح لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارت وفرض العقوبات (بي دي أس)The Boycott, Divestment, Sanctions (BDS) Movement بممارسة نشاطاتها في جنوب إفريقيا منذ سنة 2012، واستضافة جنوب إفريقيا وفداً من حركة حماس سنة 2015، وسحب السفير الجنوب إفريقي وطاقم سفارته في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 من “إسرائيل” بعد الشهر الأول من طوفان الأقصى، وأخيراً رفع جنوب إفريقيا قضية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها “إسرائيل” بممارسة “الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني” في كانون الأول/ ديسمبر 2023.

أبرز المتغيرات في ظلّ طوفان الأقصى:

لكن العلاقة الإسرائيلية الجنوب إفريقية شهدت في مرحلة ما بعد الطوفان تطورَيْن مهمّين في تحديد أسس العلاقة المستقبلية بينهما:

1. نتائج الانتخابات في جنوب افريقيا في حزيران/ يونيو 2024، والتي خاضها 52 حزباً فاز منهم 18 حزباً بمقاعد في البرلمان، والسمة الأكثر بروزاً في نتائج هذه الانتخابات هي:

أ. تراجع وزن حزب المؤتمر الإفريقي الأكثر دعماً للموقف الفلسطيني، فعند المقارنة بين عدد مقاعده في انتخابات سنة 2019 و2024 نجد أن العدد تراجع من 230 إلى 159 مقعداً، وهو ما يعني أنه فقد 71 مقعد، أي ما يعادل 31% من وزنه التصويتي.

ب. أن النتيجة السابقة تشير إلى أنّ حزب المؤتمر الوطني لن يتمكن من تمرير قراراته خصوصاً في السياسة الخارجية لوحده كما كان الأمر منذ 1994 عندما كان يحظى بالأغلبية المريحة لتمرير قراراته الحكومية.

ج. وما يزيد الأمور تعقيداً أن القوى السياسية الأخرى المعارضة، ولو بمستويات مختلفة، لموقف حزب المؤتمر تجاه تداعيات طوفان الأقصى حققت تقدماً ملحوظاً من ناحية وشاركت في حكومة وحدة وطنية مثل:

• التحالف الديموقراطي Democratic Alliance، والذي يمثل البيض ويدعم “إسرائيل”، فقد زادت مقاعده بين 2019 و2024 من 84 مقعداً إلى 87 مقعداً.

• حزب إنكاتا للحرية Inkatha Freedom party (يمثل قبائل الزولو Zulu) زادت مقاعدة من 14 إلى 17.

• التحالف الوطني Patriotic Alliance، والذي أعلن تأييده لـ”إسرائيل” بعد الطوفان وله 8 مقاعد.

ذلك يعني أن الانتخابات الأخيرة أضعفت قدرة حزب المؤتمر على التفرد في القرار، وهو ما يجعله يواجه تضارباً بين التزامه مع فلسطين وبين حرصه على استمرار الائتلاف الحكومي.

2. تزايد الدول التي انضمت لجنوب إفريقيا في رفع قضية الإبادة الجماعية ضدّ “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية استناداً للمواد 62 و63 من نظام عمل المحكمة: فقد طلبت الدول التالية الانضمام إلى الدعوى وهي: نيكاراغوا (8 شباط/ فبراير)، بلجيكا (11 آذار/ مارس)، كولومبيا (5 نيسان/ أبريل)، تركيا (1 أيار/ مايو)، ليبيا (10 أيار/ مايو). أما الدول التي أبدت نيتها في الانضمام فهي: مصر (12 أيار/ مايو)، المالديف (13 أيار/ مايو)، والمكسيك (24 أيار/ مايو)، وإيرلندا (28 أيار/ مايو)، والتشيلي (2 حزيران/ يونيو)، وإسبانيا (6 حزيران/ يونيو)، ناهيك عن طلب فلسطيني (3 حزيران/ يونيو)، وكوبا (22 حزيران/ يونيو)، لكن المحكمة لم تبت حتى الآن في أي من هذه الطلبات.

وتشكل طلبات الانضمام عاملاً مهماً في تعزيز مصداقية الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، وهو ما يعزز تنامي النقد لـ”إسرائيل” في أوساط الرأي العام الدولي.

الدور المستقبلي:

تُمثِّل جنوب إفريقيا إحدى مراكز التأثير في القارة الإفريقية، فهي تحتل المرتبة السادسة من حيث عدد سكان دول القارة، لكن الوضع الداخلي في هذه الدولة سيحدد قدرتها على الاستمرار في توجهاتها السياسية تجاه تداعيات الصراع في الشرق الأوسط، فبنية الحكومة الائتلافية برئيس ينتمي للمؤتمر الوطني الإفريقي وهو سيريل رامافوزا Cyril Ramaphosa، ونائب ينتمي للتحالف الديموقراطي Democratic Alliance “الأبيض” لن تجعل القرار يسيراً كما أشرنا. يضاف لذلك أنّ مقومات القوة التقليدية تشير إلى دولة أقل قدرة على التأثير الإقليمي والدولي، فإذا تجاوزنا الوزن المعياري لجنوب إفريقيا، والمستند أصلاً لصورة المجتمع الذي عانى من التمييز العنصري وتمكن من هزيمته، فإن جنوب إفريقيا تحتل المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر غيني Gini index (عدم عدالة توزيع الثروة)، وتصل نسبة عدم الاستقرار السياسي إلى 0.72 بالسالب، بينما تصل نسبة البطالة إلى 33.5%، وهو ما يضعف قدرتها على التأثير.

وثمة جانب مهم في النشاط الديبلوماسي الدولي لجنوب إفريقيا خصوصاً في صياغة القواعد الدولية بهدف تحقيق “توازن ناعم” مع القوى الإقليمية والدولية المهيمنة. وقد نجحت جنوب إفريقيا في تعبئة مواردها الديبلوماسية لتعزيز صلتها بالشبكات الدولية المختلفة وإعادة تشكيل قواعد اللعبة لصالحها، وهو ما يتضح في أنها من أوائل الدول التي انضمت إلى مجموعة البريكس BRICS، ومن أكثر الدول نشاطاً في مجال تسوية النزاعات في إفريقيا (أسهمت في تسوية تسعة نزاعات إفريقية)، وفي تعزيز دور الاتحاد الإفريقي، بل إن جنوب إفريقيا تفوَّقت على الكثير من دول العالم بما فيها القوى الكبرى في صياغة القرارات التي تتخذها الجمعية العامة للأمم المتحدة General Assembly of United Nations خلال الفترة من 1994-2023، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بانتقال مستوى جنوب إفريقيا في مؤشر العولمة السياسية من نحو 47 نقطة إلى نحو 89 نقطة خلال الفترة 1994-2022. ولا شكّ أنّ دور جنوب إفريقيا في طرح موضوع “الإبادة الجماعية” ضدّ “إسرائيل”، وتقاطر دول مختلفة من كلّ القارات لتقديم الطلبات للانضمام إلى جنوب إفريقيا، يعزز من هذا التوجه الديبلوماسي الذي على المقاومة الفلسطينية أن تستثمره.

خلاصة:

ستتابع جنوب إفريقيا دعمها لقضية فلسطين في المدى المنظور، وإن بفعالية أقل بسبب نتائج الانتخابات؛ غير أنّه من الضروري تعزيز العلاقة مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والاستفادة من تحالف حزب “الجماعة” الإسلامي (مقعدان) معه، والأحزاب الداعمة لفلسطين، خصوصاً في تقديم المشورة لإدارة العلاقة مع جنوب إفريقيا. وكذلك الاستفادة من المكانة المعنوية لجنوب إفريقيا ومن تقدمها في مؤشرات العولمة السياسية.


[*] أ. د. وليد عبد الحي، أستاذ العلاقات الدولية وخبير الدراسات المستقبلية.


للاطلاع على ملف ”الإضاءات السياسية“ بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>>   إضاءات سياسية (12): موقف جنوب إفريقيا وتداعيات طوفان الأقصى (4 صفحات، 463 KB)


مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 22/8/2024


إضاءات سياسية: سلسلة دورية مختصة بتقديم تحليلات وتقديرات موقف سياسية مختصرة ومكثفة، تصدر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
الآراء الواردة لا تُعبّر بالضرورة عن وجهة نظر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من الإضاءات السياسية: