مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

منذ بدايات الحرب على غزة، لم يكن نتنياهو وفريقه المتطرف يرغب أصلا في الوصول إلى صفقة تُنهي الحرب، وتفرض على الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من القطاع، قبل تحقيق أهدافه المعلنة في سحق حماس، واسترجاع المحتجزين الإسرائيليين وفق معاييره، وفرض تصوره في اليوم التالي لحكم قطاع غزة. وكان يدرك أن فشله في تحقيق أهدافه المعلنة، يعني ضمنا انتصار المقاومة، وأن أيّ اتفاق يلبي الحد الأدنى لمطالب المقاومة يعني عمليا انتهاء حياته السياسية وربما إيداعه في السجن. ولأشهر عديدة كانت شعبية نتنياهو وحزبه (الليكود) متهاوية، وكان واضحا أنه وحلفاءه المحتملين سيخسرون في أي انتخابات قادمة.

ولذلك، كان استمرار نتنياهو في الحرب هروبا إلى الأمام، ومحاولة للبقاء في صدارة المشهد السياسي لأطول فترة ممكنة، لعله تتاح له الفرصة لتعديل الموازين لصالحه. وقد كان ذلك في الوقت نفسه، استجابة لحالة الإنكار التي يعيشها في داخله، إذ لم يكن يتخيل خاتمة وسقوطا مهينا، وهو الذي يرى نفسه “ملك إسرائيل” غير المتوج، ويضع نفسه إلى جانب مؤسسي الكيان “الكبار”.

كان نتنياهو معنيا بإدارة تفاوضية تخدم شراء الوقت، وتُخفّف الضغوط الداخلية والخارجية عليه، وتظهره بمظهر الراغب في الوصول إلى تسوية. لكنه كان يضع في كل مرة عناصر إفشال وتفجير جديدة، تكفي لاستمراره في اللعبة.

ولذلك، عندما وافقت حماس على المقترح الموضوع على الطاولة في شهر أيار/ مايو وفي مطلع تموز/ يوليو 2024، ووجد ذلك تجاوبا من الوسطاء الأمريكان والقطريين والمصريين، مع ترحيب من قاعدة شعبية وحزبية واسعة لدى الكيان الإسرائيلي، لجأ نتنياهو إلى التسويف المكشوف وإلى وضع شروط جديدة بطريقة فجة تنقض عددا من الأمور التي تم التوافق عليها.

معطيات مستجدة:

ظهرت بعض العوامل المستجدة خلال الأسابيع الأربعة الماضية، شجعت نتنياهو على اتخاذ مواقف أكثر تشددا؛ كان أولاها زيارته للولايات المتحدة وخطابه في الكونغرس ولقاءه عددا من الزعماء الأمريكان، وما لقيه من دعم يصل حد “الابتذال”، وعودته مطمئنا إلى قوة اللوبي الصهيوني ونفوذه لدى صانع القرار الأمريكي سواء كان جمهوريا أم ديمقراطيا. وثانيها كان نجاح مخابراته في اغتيال قائد العمل العسكري في حزب الله فؤاد شكر (الحاج محسن) ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وهو ما أوصله إلى حالة نَشوةٍ وزَهْوٍ غير مسبوقة. وقد انعكس ذلك من ناحية ثالثة، على الوضع الداخلي الإسرائيلي فتجاوزت شعبيته لأول مرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شعبية جانتس، وعاد ليتصدر قائمة المرشحين المفضلين لرئاسة الوزراء، كما تصدر حزبه الليكود لأول الاستطلاعات الشعبية؛ وفي المقابل، تراجع زخم المعارضة الإسرائيلية وانخفض صوتها، ليجد نتنياهو نفسه في وضع مريح نسبيا مقارنة بالشهور الماضية.

شروط جديدة:

تناقلت الأنباء أن نتنياهو يرفض إنهاء الحرب، كما يرفض الانسحاب الكامل من قطاع غزة ويريد البقاء في محور نتساريم لضمان التحكُّم في شمال قطاع غزة، كما يريد البقاء في معبر رفح ومحور فيلادلفيا بصورة من الصور تضمن له استكمال الهيمنة على كل المعابر مع القطاع، بما فيها المعبر الذي يربطه بمصر؛ كما يضع نتنياهو قيودا وشروطا على عودة المهجَّرين إلى شمال القطاع، ويريد أن يزيد حصته من عدد المحتجزين الصهاينة الأحياء في عملية التبادل؛ وفوق ذلك يرغب أن يمارس صلاحيات أوسع في تحديد من يُطلق سراحهم من الأسرى الفلسطينيين، وفرض طردهم خارج قطاع غزة. وباختصار فإن ما يعني نتنياهو ليس وقف الحرب، وإنما صفقة تبادل على مقاسه، تُفقد المقاومة أحد أبرز أوراقها، وتجعله في وضع مريح لمتابعة حربه ومجازره.

موقف المقاومة:

حماس وقوى المقاومة التي وافقت على مسودات الاتفاق المطروحة سابقا، اتَّهمت الطرف الإسرائيلي بالمراوغة والتهرّب من التزاماته، وفرض شروط جديدة، وطالبت الأمريكان الذين رعوا المفاوضات والاتفاقات السابقة، بجدولة تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه؛ وعدم التجاوب مع الصهاينة في تضييع الوقت وفي توفير الغطاء لهم لمزيد من وضع العراقيل والابتزاز.

وأكّدت المقاومة على النقاط الأربعة الحاكمة لأي اتّفاق وهي إنهاء الحرب، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، وإنجاز صفقة أسرى مُشرِّفة، ورفع الحصار وإعادة الإعمار بما يحقق كافة احتياجات القطاع.

الولايات المتحدة شريك ووكيل:

الولايات المتحدة الشريك الرئيس للاحتلال الإسرائيلي في العدوان على غزة، والتي توفر له الدعم العسكري والمالي والغطاء الدولي، تلعب أيضا دور الوكيل الذي يقوم بتسويق المواقف الإسرائيلية وتسويغ جرائمها. وحتى عندما “يُحرجها” الطرف الإسرائيلي بعجرفته وتقلباته ومزاجيته، فإنها تعيد تكييف نفسها بما يتوافق مع المتطلبات الإسرائيلية، وهذا ما فعلته عندما وضع نتنياهو شروطه الجديدة. ولذلك، فبدلا من لوم الطرف الإسرائيلي، أخذت تضغط باتجاه مزيد من التنازلات من حماس والمقاومة لصالح الاحتلال الإسرائيلي.

الوضع الراهن؟!

لم يكن مستغربا أن تفشل مفاوضات الدوحة في 15 آب/ أغسطس 2024 بسبب المتطلبات الإسرائيلية. وكان حديث الأمريكان عن تقدُّمٍ في المفاوضات لتبرير عقد محادثات تحمل بذور فشلها في ذاتها، ومحاولة عبثية لتغطية سلوك الاحتلال، ولشراء الوقت لتأخير انتقام إيران وحزب الله ومحور المقاومة المحتمل على استشهاد إسماعيل هنية وفؤاد شكر.

سيحاول نتنياهو في الأيام القادمة تحقيق ما يلي:

1- إطالة أمد الحرب وصولا للانتخابات الأمريكية، ومحاولة تحقيق أفضل نتائج عسكرية ميدانية محتملة.

2- محاولة إنشاء أمر واقع جديد في القطاع، يُسيطر فيه الاحتلال على محور نتساريم، وعلى محور فيلادلفيا (معبر رفح).

3- الاستفادة من الوقت لانتزاع أكبر قدر من المحتجزين الصهاينة لدى المقاومة.

4- محاولة الوصول إلى قيادات حماس والمقاومة واغتيال أكبر عدد منهم.

5- العمل على فرض تصوره حول اليوم التالي لقطاع غزة.

أما المقاومة، فسترفض الإملاءات الإسرائيلية، وستواصل أداءها، وستتابع استنزاف قوات العدو ومقدراته، حتى يوقن نتنياهو وكل الصهاينة باستحالة تحقيق أهدافهم، وأن الزمن لا يخدمهم، وأن الأثمان المدفوعة للاستمرار هي أعلى بكثير من الذهاب إلى وقف الحرب والاستجابة لشروط المقاومة.

ماذا بعد؟!

ستنتهي قريبا حالة “النشوة” لدى نتنياهو وحلفائه، حيث سيبرز بشكل متزايد المأزق الإسرائيلي في القطاع، وستتتابَع مظاهر الفشل مع تصاعد حالة الإنهاك لدى الجيش الإسرائيلي، الذي أوصى قادته سابقا بالوصول إلى صفقة مع حماس بأي ثمن، حيث سيعودون لتأكيد ذلك. كما ستعود الأزمة الداخلية الإسرائيلية للتصاعد مع تدهور الوضع الاقتصادي. وسيصبح الكيان أضعف من أن يدخل في حرب إقليمية، وسيكون أمام حسابات عسيرة ومعقدة إذا قامت إيران وحلفاؤها بتوجيه ضربات قاسية له.

وسيجد نتنياهو نفسه عاجلا أم آجلا أمام أحد خيارين: إما متابعة حالة الإنكار والعجرفة والغرور والقفز عن الواقع ومتابعة الحرب، وبالتالي استمرار النزيف والإنهاك لدى جيشه وكيانه؛ إلى درجة حذر العديد من القادة والمفكرين والخبراء الصهاينة من أن هذا مسار يفضي في نهايته إلى انهيار الكيان.. وإما الاعتراف بالواقع والنزول عن الشجرة والاستجابة لشروط المقاومة؛ وهو ما يعني عمليا انتصار المقاومة، وانتهاء الحياة السياسية لنتنياهو.


المصدر: موقع عربي 21، 2024/8/23


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: